الدستور والثورة

الدستور والثورة
حسن حنفي
ليس الدستور لجنة تأسيسية ونسب أعضائها من داخل البرلمان أو من خارجه، وعن أي قوى تعبر داخل البرلمان. هنا تتول اللجنة التأسيسية إلى مجلس شعب آخر يعكس صراع الأحزاب والقوى السياسية فيه، وليس الدستور مجموعة بنود. كل تيار سياسي يصر على وضع بند يعبر عنه. ليس الدستور تعبيرا عن قوى سياسية متصارعة بين إسلاميين وعلمانيين، هذا الاستقطاب المفتعل وكأن مبادئ العلمانية ليست في الإسلام، وكأن الإسلام لا يحتوي على مبادئ العلمانية العقل، والعلم، والتقدم، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان. بل يعبر عن روح أمة وإجماع شعب وكيان تاريخي عبر السنين. ليست القضية وضع الدستور قبل انتخابات الرئاسة أو بعدها. فالانتخابات الرئاسية سلطة تنفيذية عاجلة. في حين أن الدستور سلطة تشريعية دائمة. انتخابات الرئاسة تتغير كل عدة سنوات والدستور يبقى عدة أجيال إلى أن تتغير الظروف الاجتماعية والسياسية، وتتغير الأوضاع التاريخية.
ليس الدستور عمليات إجرائية بانتخاب لجان أو تعيينهم مع نسبة للأقليات، النساء والأقباط، وسكان الصعيد وبدو سيناء، والواحات، والعمال والفلاحين، وسكان المقابر والعشوائيات. لا يعبر عن تيار واحد، أغلبية أو أقلية بل عن إجماع المواطنين في صيغ توافقية حتى يقرأ كل تيار فيها نفسه دون سيطرة أو استبعاد. الدستور عملية احتواء للجميع وتأليف بين كل وجهات النظر. الدستور له روح بالرغم من تعدد أطراف البدن.
ليس الدستور قوة لصالح حزب بل هو سيطرة على القوة لصالح الجميع. ليس مع أحد أو ضد أحد بل يعبر عن روح الكل. أعضاء لجنته ليسوا نوابا حزبيين بل خبراء قانون دستوري. ليسوا فقط أهل ثقة مثل أعضاء مجلس الشعب بل أيضا أهل خبرة كأساتذة القانون. يعرفون روح مصر ومطالب شعبها. فقد عاصروا ثلاث جمهوريات منذ 1952 وعرفوا ما لها وما عليها حتى انفجرت ثورة يناير العام الماضي.
ليس الدستور وثيقة تعبر عن صراع قوى حزبية وسياسية، كل قوة أو حزب يريد أن يضع رأيه فيه. بل هو توافق بين القوى السياسية والتيارات الفكرية في البلاد. لا يستبعد بل يضم. ولا يهمش بل يستقطب الجميع نحو المركز. لا يعبر عن أيديولوجيا مستقبلة إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية أو قومية. بل يعتمد على البديهة والفطرة والحس المشترك والصالح العام. وهو ما سماه الأصوليون البراءة الأصلية ، الفطرة التي يولد عليها الإنسان قبل التحزب والانقسام إلى أغلبية وأقلية، حكومة ومعارضة، ديني ومدني.
الدستور فلسفة تقوم على عدة مفاهيم رئيسية مثل المواطنة والحرية والمساواة والقانون. فالدستور ينظم العلاقة بين مواطنين أحرار، متساويين في الحقوق والواجبات. ليسوا رعايا لكنيسة أو لملك أو سلطان، الراعي والرعية . وتعني المواطنة انتساب الجميع إلى أرض وشعب وتاريخ وليس إلى طائفة أو عرق، إلى عشيرة أو قبيلة أو إلى ذكور وإناث أو إلى بدو وحضر. وينظم الدستور علاقة المواطن بالسلطة، الحرية الفردية بالصالح العام. فلا تعطى الأولوية للحرية على العقد الاجتماعي حتى لا يتحول المجتمع إلى فوضى. ولا تعطى الأولوية لسلطة العقد الاجتماعي على الحرية حتى لا ينشأ الاستبداد. كما ينظم الدستور علاقة المواطن بالبيئة. فالبيئة لها حقوق كما أن المواطن له حقوق تنمية الموارد، والنظافة، والجمال.
وللدستور شرعيته. وتأتي هذه الشرعية من العقد الاجتماعي الذي ينشأ بين المواطنين وليس من إرادة خارجية إلهية أو عسكرية أو طبقية. ويعبر العقد الاجتماعي عن الحق الطبيعي. فالمواطن له حق طبيعي في الحياة ومقوماتها البدنية والروحية، حق الطعام والشراب والإسكان والعلاج للبدن وحق التعليم وحرية التعبير والإبداع للروح.
كل دستور يقوم على فلسفة في الحق الطبيعي التي عبرت عنه فلسفة التنوير في الغرب في القرن الثامن عشر والتي وراء صياغة الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي والدستور البريطاني ومعظم الدساتير الأوروبية. والشريعة الإسلامية بهذا المعنى شريعة طبيعية. فالإنسان يولد على الفطرة. ويعرف مبادئ الإسلام بالنور الطبيعي كما صور الفلاسفة في شخصية حي بن يقظان. وكما عرفت البدوية أحكامه بنفسها قبل سماعا من الرسول. المواطنة في كلكم لآدم وآدم من تراب ، والحرية في لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا . والمساواة في لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح . الدستور فلسفة قبل أن يكون مجموعة من القوانين والبنود.
لذلك لا يُلغى الدستور أو يُعطل لأنه يعبر عن روح أمة. ولا توجد فيه قوانين استثنائية أو أحكام عرفية أو قوانين طوارئ. فالمواطنة والحرية والقانون لا استثناء فيها. ولا توجد فيه مبادئ أو مؤسسات أو أفراد فوق الدستور مثل الجيش أو الذات الملكية. وكلها تستند إلى مقولة المقدس مع اختلاف الدرجات بين ما لا يرى وما يرى. ويكون إخضاعها للدستور عيب في الذات الملكية أو نقد للمؤسسة الوطنية. فلا شيء يعلو فوق الدستور.
وللدستور صفة الثبات لأنه يقوم على مبادئ إنسانية عامة مثل حقوق الإنسان. ومع ذلك يمكن إضافة بعض التعديلات التفصيلية عليه طبقا لتغير الظروف والأحوال دون النيل من المبادئ العامة. والعرف الذي يعتمد عليه الدستور البريطاني ليس دستورا بل عادة متبعة قد تكون ضد مبادئ الدستور مثل الثأر وجرائم الشرف. لا يعدل إلا بعد الممارسة وتجاوز الواقع بعض الصياغات الأولى كما هو الحال في النسخ في علم أصول الفقه.
يعبر الدستور عن روح مصر، ومطالب شعب، وأهداف ثورة. فالعصر عصر التحرر الفردي والاجتماعي. وهو عصر الثورة ضد اكتناز رأس المال في أيدي قلة مترفة تجمع بين الثورة والسلطة، بين المال والحكم في مقابل الملايين من الفقراء والمعدمين. العصر عصر تجزئة وتفتيت في حاجة إلى دستور تجميع وتوفيق. العصر عصر الاستيراد أكثر من التصدير، والاستهلاك أكثر من الإنتاج. العصر عصر أمية في أمة شعارها اقرأ ، وأول صفة للإله العلم الذي يُطلب ولو في الصين. العصر عصر تجميع للشعوب، عصر التكتلات الكبرى وإسقاط الحدود والفروق. العصر عصر العودة إلى الأوطان وليس الهجرة منها. فلا هجرة بعد الفتح. والثورة فتح. العصر عصر العاليا وليس الدياسبورا أسوة بإسرائيل. العصر عصر هوية وليس اغترابا. فالأنا يسبق الآخر.
التحدي إذن كيف يستطيع الدستور أن يعبر عن روح العصر؟ كيف يستطيع أن يخلد الثورة في بنوده بدلا من إجهاضها وتهميش الثوار لصالح الثورة المضادة؟ كيف يستطيع الدستور أن يعبر عن فلسفة الثورة وعن الربيع العربي؟
/4/2012 Issue 4182 – Date 24 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4182 التاريخ 24»4»2012
AZP07