الخيول الجريفونية لبيات مرعي ..أحداث مدينة مائجة والمتخيل السردي

الخيول الجريفونية

قصص ممسرحة _   _

بيات مرعي

 

احداث مدينة مائجة بين الواقع المر والمتخيل السردي

  قاسم حسن علي

 

جاءت المجموعة القصصية ب 16 قصة قصيرة تنوعت بين القصة القصيرة والقصيرة جدا والتي حوت في مضامينها رسومات واقعية واطر سردية ازدحمت بصور متخيله من الكاتب واخرى جاءت بالتناص مع مثيولوجيات اغريقية كما في قصة ( الخيول الجريفونية ) والتي زخرت بإيماءات حالمة للنفس البشرية التواقة لاجتياز مرافئ المكان الذي ( أستأجره بعتمتها )الى مواضع تحمل من القدسية ما يراها يجب ان تكون سطح عتبتها المرمري المذهب بمنأى عن حذائه المتسخ حتى ما ان دلف اليها بخيوله …حتى انهالت عليه طوابير الاصوات والحوارات وتسرب اليه الخدر ببطيء شديد والقصة لم توصلنا مع الاسف الى روح زمان ومكا ن القصة الحاضرة والتي حاول الكاتب ان يماهيها بروح الاسطورة الكريتية الذي وردت في ملحمة شهيرة من ملاحم جحيم دانتي التي حاول الكاتب بخلفيته المسرحية المطلعة على ماهية هذه الاسطورة لممازجة احلامه الانسانية الحالمة بقدرات بطولية تحتاج جمع خاصيتي  القوة والعقل في كائن سردي متسلح بروح المينوتور( ثور بجسم أنسان ) الملهمة من الالهة ارتميس والمستوحاة صورتها من أسطورة المينوتور الاغريقية  ،القصة القصيرة جدا هذه لم توصلنا الى ماهية الدوافع والرغبات التي تتركب احيانا من اجل قطف ثمار الخلاص والانتصار معا  من جذع الحياة المغالية في السمو بمعاونة القدرة

في حين استطاع وبحرفية عالية الصنعة ودقة في الصورة من ان يتوغل في مفردات عالم مسقط راسه حي (باب جديد) في قصته (مهبط المراجيح ) وبالذات صباحات هذا الحي المحتشد بالأفواه التي ترنو الى اللقمة بكل تجمعاتها _على الرصيف _ ومقهى الصنف _ وبائع الباجة العم نشأت _باب جديد الحي الذي ولد فيه الكاتب وترعرع جعل منه كعبة لاهل الحي والمارين به وكل الساعين للحياة والذي اوسطه بالوصف بين شوارع اربعة _شارع الكنيسة والجوامع (الصلاة) _وشارع السجن (الخطيئة ) وشارع المحطة (الرحيل ) _والشارع المؤدي الى النهر (الطوفان والخلاص) هذا الحي الذي يعود ويكرر القاص من ان يوصفه  بملتقى الرجال والنساء والعمالة ودكاكين الرزق الكثيرة من مقاه ومطاعم واللبانة (بائعي الالبان ) ليقدم لنا توصيفا قل نظيرة في مدى التماهي الشخصي له بهذا الحي من روح وحب مكنون ومقدس في نفسه .. للحي المتوسط للشوارع الاربعة من الحركة والحياة .وبالأزقة التي هي مخابئ قصص الحي وتفاصيله والنهر المنفذ الروحي للحي والذي يخبئ في ضفته  اسرار كبيرة وتفاصيل كثيرة ايضا عن رجال ونساء الحي لذا كانت جل عناوين قصص المجموعة القصصية هذه مستوحاة من تفاصيل هذا الحي ومداخله بأجوائها وهدوءها وديدن ترامي الناس اليها كل يوم وفي كل وقت بتهافت رجل يزور كعبة تجارية  بقدسية متناهية ..وصف القاص الحي بحب وصدق  من اجل ان يصل عمق  قصائده وهواجسه واعمدة رؤاه السردية التي تسامت في الكثير من الاحيان بفعل براعة حرفية في رصد اللقطة واحالتها الى بقعة ضوء مكثفة بالحركة المشحونة بالأفعال المتقاطعة بالحب والانهيار والموت والتضحية (كما في قصة مدافن النهر ) صور حقيقية تبعث في النفس الكثير من التوحد مع الصورة والرجاء في نهايات مصائر لكل من يشحذ من النهر (الخلاص ) من دوامة الحياة العنيفة _انها رغبة وتلبية لصوت النهر الغريب الذي لم تسمعه الغسالة وهي تلاحق قدوتها من الرجال الذاهب مع الموج  _النهر يقترب نحوها من بعيد شيئا فشيئا …فيتخثر الدم في وجهها …فيما راح نداء النهر يجرها الى العمق البعيد مثل الاسيرة (مدافن النهر ) .

هكذا هو الموت في هذا الحي دائما يأتي بعد فقد الحبيب بعد انهيال الرمل على الراس ومن ثم الصراخ والنحيب ومن ثم البحث عن قصاصات الذكريات المتناثرة الى رحلة الاندراج في الموج الذاهب الى الموت مع من تحب .

كذلك هو آدم (في قصة ما أتلفته الرفوف ) الرجل المقتتل من اجل انتشال مدينته التي بدت كحطام بركان اهوج بفعل فؤوس تغتال الرؤوس بين الدروب بعد أن أمتد الزحف الوحشي بالمدينة الى المواشي والثمار في هذه القصة ركب القاص الصور وادام الزخم السردي بالتكثيف العالي من اجل رسم صور الهدم بأبعد ما يمكنه من رسم للتوثب العارم من اهل المدينة في نفس الوقت باتجاه الموت الذي باغتهم في ملحمة دموية والذي جاء فيه ايضا النهر ملاذا لادم ذاك الذي دفعه الرجاء للفرار الى آخر الزوارق المنسية عند النهر فيما لعلعة الرصاص تشق حجاب الصمت المتنزه بين الاجساد .

ليس غريبا من ان يرسم القاص في رؤاه خطوط مساراته مع شقوق الارض وهو لحمتها في الدم والوجود من اجل ان يرسم واقعا لصيقا لقلمه الناطق بكل ما جاءت به الاحداث من ادوار مختلفة الوزر والانحناءات مع عامل الوقت والترقب المميت من اجل ان يصل الى افق رؤية (حيث المسرح الساخن لراقصات اللهب في قلب المدينة الطائر على بساط الادخنة والرماد ) وارى ان ادم لم يكن بعيدا عن شخص الكاتب الذي صور كيف كانت رياح العصف الآثم تلامس ثيابه الممزقة المشبعة برائحة غبار القتال وهو يتأرجح بين صفحاتها ورفوف اشياءه ومرة أخرى ليكون الملاذ النهر حيث النفاذ بعيدا من اجل رسمة الخلاص  الذي يعود الكاتب ليرسمه في كل تارة بتعمد للتملص من كل موبقات الاعداء غرباء كانوا ام آفات تستبطن جسده وجسد رجال مدينته وحيه وبالذات المتأرجحين بين مسلات الحياة والموت بعدما تواترت  التكهنات التي تقول بان المدينة سقطت وعميت قناديلها العتيقة خجلا من ارواح الذين سقطوا في حفر الايثار .

هكذا يغور القاص دروب مدينةٍ تعيش سخونة ملحمة لم تبق لآدم الرمز الا ان يتجه بخوائه ليستطلع بساط الارض التي قضمتها عِظم المحنة مندساً الى كهفه الصغير ليبحث عن فجره الوليد في هذا المكان الذي (شهد أولى البصمات ولربما سالت عليها دماء الخطيئة الاولى) (ص20) مترقبا فصول المدينة المتحولة الى رياض (كاشفة لأكوام الغرائز الدفينة ) ومع بدء يوم جميل تكون قد مرت عجلة الايام وتكون الطيور قد خرجت من دفء بيوضها ، بعدما أصبح لآدم ( في أرضه قصة يحاكيها هدير المياه ) .

                                      *****************

في قصة ( خيوط ) الارض مرة أخرى لكنها مسحورة بالصناديق المليئة بالمفاجئات والقصور الهيكلية التي توحي للقارئ بالطلاسم …كرة من خيوط تتزركش بها اجساد نابتة من الموت الى حياة مزدهرة ..وحينا كأي فارس يتسلق التلة الرملية ..يتلمس الرمل ويرص اكواما فوق اكوام ليقيمها زقورة لعرش محاطة بأنفاق وممرات ودهاليز للتجوال والترحال بعيدا من ان يسلم وضعه (للعجايا ) ومن ثم يسترسل في الديباجات الذهنية المقامة على عالمه الرملي (تلة الحلم ) ومع هذا لم تغب عن ذاكرته صورة لأخته (سعدية ) (انها فوق مفردات الحياة ومنتهى الصور) .

عوالم القاص المسرحي أن شئنا أن نقول  مزدحمة بالصور والمثل والقيم الاخلاقية التي يتحسسها وتتشكل في غفواته القصيرة التي به تطوف حول المملكة تعج بالحضور….. تعالت كؤوس الكريستال يطفح منها حليب اللبوات الهائجة (ص41) ويتحقق حلمه الموعود به لتغني بطلته الاميرة سعدية وهي تعتلي سلم العرش ولتنحني الاشجار اخيرا وقد لفها ثوب المفاجئة ويستفيق من حلمه من على التلة الرملية مخنوق بعباراته …ايها الساقطون …انا الملك بنيت قصر الاميرة ..سأقلع من المملكة كل (العجايا ) .انها متخيلة عجنت الحكايا بالترميز الفائق بالروعة والتمكن السردي المشحون بالرغبات على قلب عربة الواقع رأساً على عقب فمخيلته الشرسة في كل قصص المجموعة تتأرجح بين خلع أسوار ارصفة الواقع الرمادية ووردية مراميه اللصيقة بسوداوية الواقع المعاش .

فقصة (محنة جسر ) والتي فيها عاود عصاه ضرب وجه ينابيع العصيان بالبطولة والتي يراها دوما وليدة زوايا اليل وصفارات الانذار التي تمر على الحراس النائمين بين طيات البرد لتوقظ الليل مفزوعا ..انها فصول حكايات تغمرها احيانا دفء الكلمات احيانا وقصة سيرة لجسر حديدي يوصل (بين شفتي النهر بعناق حميم ) ص42 انها تفاصيل حكاية من ليالي جدةٍ لصبية تشدهم عناوين الفصول واخبار محمود الاسمر البطل الذي يشد من ازر الجميع وينزوي يسال الليل عن موعد زفافة المؤجل …وتؤجج الجدة تفاصيل المعركة الفاصلة عند الحصون والتي طلا تفاصيلها تعاويذها وصيحات الله اكبر (مع اشتداد رشق الرصاص وصافرة الانذار جعل من ليلة الشتاء اكثر دفئا) ص 45 . وهي اصل حكاية التي مر عليها الوقت لتغدو حكاية للصغار تحمل في طياتها اجتماع العابرين ليشهدوا حكاية ليل مرت على المدينة (وتمر في اليوم التالي فوق الجسر مراسم زفاف الشهيد البطل الاسمر محمود الجسر) ص45 .

المدينة برمتها وحاراتها وماضيها ديدن القاص  /مقاه /نهر / العوجات الرمادية / وارصفة العمالة /تحت مبضعه الشاطر يرصد أبخرة الفعل اليومي بشكل دقيق بتفاصيل مدينة لها ولادة تنفتق مع بزوغ الفجر حتى لياليها الغافية في حضن الاماني المدينة التي تصطبغ مفردات يومها بحكايات الناس من حال حدوثها وحتى منتهى فنتازية مراميها المفبركة بحذاقة في فعل الترميز والمعنى والخلاصات .

نصوص لم تخلو من صنعة الخيال الساقط على مفردات الواقع الذي يتلمس دربه ومبتغاه اليومي من بين مكونات الشارع وشخوصه وحركة الحياة صوب كل الاتجاهات من اجل غاية واحدة الا وهو تجاوز اليوم المأزوم بالمفردات والموبقات واحلام الظهيرة الفاسدة والاماني الملونة ص51 والتي تفيض بها التلال دعاء وابتهالا .

بانوراما خطوب المدينة زاخرة بالصور المتأرجحة بين السبات والحرب والمحن والارتباك والذكريات الخصبة النافذة من خلال شبابيك الهوى المطلة على الماضي وطبائع الشخوص التي اكتسبت من صفات اسلافها نكتة اللحظة والاسم المستعار .

وليس لي ان امر على الكتاب مرور المتفحص دون ان اقف على ضفة قصة حذقة كقصة (همس المعاطف ) انها فعلا قصة الاحترافية العالية في التوصيف والحوار والمغزى والتي فعلا جاءت بصنعة ممسرحة فائقة الدقة في الوسيلة والمغزى والتي ستعيش طويلاً .

الحديث قد يطول في لملمة نهايات مرامي الكاتب فيما ابتغاه وذهب اليه في مجموعة كهذه الغنية بالصور والتوظيف اللغوي لجملة واسعة من يوميات ومرتسمات لمدينة كبيرة اتخذها الكاتب مسرحا سردياً لا ادري ان كان هو يقبع فيه حباً ام العكس والتي حوت في طياتها تفاصيلا كثيرة من الوان الحكايات ، لكني ارى انها بجملتها قصص فائقة السرد بمضامينها الافتراضية المستوحاة من شيطانه الراقص على لوح محفور في بطائنه الابداعية  والتي ترامت اسقاطاتها على واقع وصف تفاصيله بالمرار والازدواجية والبعض منها الجميل ذكرا ومذاقاً وقد اسعف هذه القصص مهارة الكاتب في مسرحة صورها ومنتجتها بتوافق ذوقي مصقول فيما نجح في لملمة خلاصاتها البنائية على انساق ايقاعية قل نظيرها حتى الباطنية منها الحذر والخوف وما هو متوجس وقائم على حدود فئوية بأصول مستقاة من افكار خصبة متحركة وفاعلة ومتوازنة الرتم ايقاعيا  مقترباً مما يكتب عالميا بتصاعد يتناسق مع لوغارتمية البناء القصصي التي يجب ان تكون عليها من الان .

مشاركة