{ إشترك مع الوردي بتأسيس أول قسم للإجتماع ثم أصبح أبرز منافسيه
{ الخيال السوسيولوجي العراقي … عبد الجليل الطاهر أنموذجاً
{ (الزمان) تلقي الأضواء على عالم عراقي لم تنصفه الأقلام
{ الطاهر الرائد الثاني لعلم الإجتماع ..عمر قصير وإنتاج غزير
شاب قادم من عمق الأهوار يتقدم الصفوف ويبهر الغرب بأبحاثه
3
لا جذور قومية لعلم الإجتماع وإصرار الباحثين وراء الإهتمام به في السبعينات
محمد السهر
ذي قار
في هذه الدراسة تفتح (الزمان) ملف عالم عراقي لم ينصفه الاعلام ولم ينل ما يستحقه من اهتمام الاعلام برغم خدماته الجليلة للبلد بل ان اسهاماته العملية تخطت الحدود فأشترك في وضع لبنات علم الاجتماع في عدد من الدول العربية انه عالم الاجتماع الراحل عبد الجليل الطاهر الذي كان قد تعرض للإعتقال في مرحلة من حياته . قصة الطاهر هي قصة شاب عراقي قادم من الاهوار عرف بعصاميته فسجّل اسمه بحروف من نور فعسانا هنا نرد إليه جزءاً من الدين.
ظهور وتطور علم الاجتماع في العراق
في مثل هذه الظروف وتحت نير هذه العوامل ظهرت بوادر علم الاجتماع في العراق. تآمر سياسي، ترد اقتصادي، بطء في التنمية، أمية فاحشة، جهل مطبق، فوارق طبقية كبيرة، ظواهر اجتماعية مرضية، أحوال صحية غير ملائمة، مناهج تعليمية غير متكاملة، ثقافة تقليدية، تبعية فكرية شرقية أو غربية. ومع ذلك فقد كانت بوادر التغيير تظهر للعيان في هذه المجالات كافة .ولما كان علم الاجتماع نشاطاً إنسانياً هادفاً وخلاقاً فهو لا يأتي من العدم ولا يدور في الفراغ، فهو مثل كل نشاط نتاج لمجموعة ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية تتحدد بكل مرحلة تاريخية من مراحل تطور المجتمع المعين (والجهد السوسيولوجي في العراق ليس استثناءً عن هذا)،فهو قد تأثر ولا زال سلباً أو إيجاباً بنمط العلاقات السائدة في المجتمع، بين الجماعات وحائزي القوة والخاضعين لها، وبين المجتمع العربي بأقطاره وبين المجتمع الدولي بتناقضاته وما تسيطر عليه من قوى اقتصادية وسياسية. وحصاد كل هذا يمكن أن يتيح فرصاً للباحثين للعمل، وللإبداع، ولتطوير عملهم وشحذه نظرياً ومنهجياً.(13) لقد كان علم الاجتماع يُدرس بشكل غير نظامي في عدد من الكليات في العراق أثناء العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، ولم يكن مدرسو هذا الموضوع من ذوي التخصص أو ممن تلقوا أي تدريب في علم الاجتماع، بل كانوا ممن تخصصوا في دراسة المحاماة والقانون وعلم النفس والاقتصاد والعلوم الأخرى. وكان تدريس هذا الموضوع ذا طبيعة عامة وعريضة، وكانت المحاضرات على العموم بمثابة محاولات اقتصرت على إعطاء صورة شاملة عن هذا الحقل الدراسي وفروعه، وصلته بالمجالات الأكاديمية الأخرى. وقد شهدت الخمسينات تطوراً تاريخياً لعلم الاجتماع في العراق، إذ تم في هذا العقد الاعتراف به كعلم مستقل له تخصصه في نطاق العلوم الإنسانية وهكذا فقد أُنشىء قسم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بغداد.(14) وبعد مدة وجيزة أُسس قسمٌ مستقلٌ للخدمة الاجتماعية في كلية البنات -جامعة بغداد.(15) وقد ظل القسمان يعملان بصورة مستقلة أحدهما عن الآخر إلى أن تم دمجهما في قسم واحد أُطلق عليه قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي وكان ذلك في العام 1969.(16) ويوجز أياد القزاز جملة من الأسباب التي كانت وراء هذا التطور منها:-
أ-) عودة عدد من الطلبة العراقيين الحاملين لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع بعد إنهاء دراستهم في الولايات المتحدة .
ب-) الاعتراف الذي تم في مصر ولبنان بعلم الاجتماع كمذهب مستقل .
ج) إدراك وزارة التربية والتعليم في العراق في عقد الخمسينات بأهمية علم الاجتماع كأداة لتحسين الظروف الاجتماعية في المجتمع العراقي، وكوسيلة للتغلب والتخلص من المشكلات المختلفة التي كانت تواجهه.د) كان عميد كلية الآداب حينذاك متأثراً بعلم الاجتماع تأثراً عميقاً حتى إنه قام بكتابة مقدمة كتاب عبد الجليل الطاهر الموسوم (المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة) وقد كان لهذا العميد جهود ضمها إلى جهود أساتذة علم الاجتماع العائدين للتو إلى الوطن في إنشاء قسم مستقل لعلم الاجتماع.(17) وبانتهاء عقد الخمسينات وبداية الستينات تطور قسما علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية تطوراً كبيراً، فقد تنوعت المقررات وازدادت أعداد الأساتذة والطلبة على حد سواء، فقد وصل عدد الأساتذة إلى عشرين أستاذاً بينما قارب عدد الطلبة الخمسمئة طالباً،(18) بعد أن بدأ هذا القسم بأستاذين حاملين لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع فقط هما الوردي (تكساس 1950)،والطاهر (شيكاغو1952) ثم لحق بهما (الكعبي- شيكاغو 1954، ومصطفى شاكر سليم- لندن1955) . ولقد شهد علم الاجتماع في العراق تطوراً كبيراً في النصف الثاني من عقد الستينات، إذ أصبح هذا العلم حقل دراسة شديدة الرواج حتى إنه في العام 1967 أُدخل كجزء من برنامج التعليم في المرحلة الثانوية، علاوة على أنهُ أصبح جزءاً من مقررات الأقسام الأخرى كالفلسفة وعلم النفس والتربية والتاريخ والجغرافية، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الموضوع يدخل إلى كليات عديدة كالطب، والهندسة، والتربية البدنية، والعلوم السياسية، والحقوق، والاقتصاد والتجارة. ويعبر هذا الرواج عن الأهمية التي كان يعلقها المسؤولون العراقيون على علم الاجتماع كأداة مهمة لتقييم السلوك الإنساني وتطور المجتمع العراقي. وقد كان لثلاثة أحداث هامة وقعت في الستينات الأثر البارز في نمو وتطور علم الاجتماع في العراق ألا وهي:أ- تأسيس جمعية الاجتماعيين العراقيين .ب- إدخال برنامج الماجستير في قسم الاجتماع .ج- إنشاء المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.(19) إن تطور علم الاجتماع في العراق لم يختلف كثيراً عن الدول النامية، فموضوعه حديث بالنسبة لجميع هذه الدول وليس له جذور قومية عميقة. ويجدر الذكر هنا بأن هذا العلم في كثير من الدول النامية ومن بينها العراق كان قد تأثر بعلم الاجتماع الأمريكي في النظرية والمنهج، ويبدو هذا واضحاً من خلال عناوين المقررات في قسم الاجتماع ونشرات هيئة التدريس التي تشير في أغلب الأحيان إلى مراجع أمريكية.(20) وكما أشرنا من قبل فإن أربعة أشخاص حاملين لشهادة الدكتوراه قد أسهموا في وضع الأسس الأولى لدراسة علم الاجتماع في العراق حيث قاموا بدورين الأول أكاديمي تعليمي والثاني بحثي. وقد تحمل هؤلاء وزملاء لهم القسط الأكبر من الصعوبات التي كانت تقف في وجه هذا العلم الناشئ في بلد نام كالعراق له خصوصيته المحلية، فإضافةً إلى كونه يُشكل جزءاً مهماً من الفكر والثقافة العربية فإنه كان يضم عدداً كبيراً من الحضارات الفرعية التي خلقت منهُ بلداً ذا طابع خاص ومميز.لقد كان للمجموعة العراقية الأولى من أساتذة علم الاجتماع طابعها المميز وأسلوبها الخاص، ويتجلى ذلك عند مقارنة الأعمال التي قاموا بها بأعمال زملائهم في مصر والشام والمغرب العربي. ففي الوقت الذي كانت فيه أعمال العراقيين تتصف بالمزاوجة بين الأعمال الأكاديمية والبحثية ذات الرغبة الفردية في اختيار نوع البحث أو الترجمة أو التأليف الذي يرغب الباحث القيام به دون العودة إلى الجامعة وأخذ موافقتها، كانت أعمال زملائهم في بقية البلدان العربية التي ظهر فيها علم الاجتماع تخضع في أحيان كثيرة لغير رغبات الباحثين.لقد كانت أعمال العراقيين محفزة بحوافز ذاتية وتُنجز بمجهود فردي من دون أية مساعدة وذلك لعدم وجود العدد الكبير من الاجتماعيين أولاً، ولعدم وجود مراكز للبحوث ثانياً. ولقد كانت الهوية المهنية للباحثين الرواد في العراق تساعدهم على أن يتخذوا مواقف متقاطعةً مع قرارات السلطة الحاكمة إبان العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، بينما لم يكن لزملائهم في مصر مثل تلك المواقف إذ كانت أعمالهم أكاديمية مطلقة وتتفق دائماً مع قرارات السلطة.(21) لقد درس الباحثون العراقيون الرواد مجتمعهم بتجرد وبمنهج وأسلوب علمي ومن خلال فكرهم الخاص دون أي ضغط من أحد، ولا يعني ذلك تمتعهم بالحرية المطلقة، ولكن مقارنة مع الباحثين في الأقطار العربية الأخرى فإن فرصهم كانت أفضل وحظوظهم كانت أوفر، وعليه فقد تميز الجهد السوسيولوجي في العراق عنه في مصر كما أشرنا أو عما كان عليه في أقطار المغرب العربي التي دخلت إليها السوسيولوجيا مؤسسةً إدارية وسياسية في خدمة الحماية الفرنسية، ولذا فإن العلاقة التي كانت تربط السياسة الاستعمارية الفرنسية بعلم الاجتماع حين دخوله إلى هذه الأقطار (المغرب، الجزائر، تونس) كانت علاقة جدلية.(22)
الظروف والعوامل التي أثرت في فكر الطاهر
المولد والنشأة
ولد عبد الجليل علي الطاهر في مدينة القرنة، في محافظة البصرة عام 1917 وقد تزامن مولده مع بداية عصر وانتهاء عصر آخر، إذ غادر العثمانيون البلاد وحل محلهم الإنكليز الذين أكملوا احتلال بغداد في العام نفسه. وقد تشربت شخصية الطاهر في طفولته ببقايا حكايات العثمانيين ممزوجة بما كان يراه ويسمعه من جنود الاحتلال الذين كانوا يجوبون بلدته، ولقد نمت شخصيته طفلاً وصبياً وشاباً وهو يرقب الأحداث في وطنه وفي العالم، فصار يزداد وعياً وإدراكاً كلما اجتاز مرحلة في دراسته أو عبر سنة من سني عمره.ولقد ربت الطبيعة فيه إحساساً مرهفاً وعقلاً راجحاً، فمدينة القرنة تحتضن نهر دجلة في رحلته الأزلية وقبل أن يلتقي برفيقه نهر الفرات بكيلومترات عدة، ذلك اللقاء الأسطوري الذي ينجبان من خلاله شط العرب، فغابات النخيل التي تظلل المدينة وسحر الهور بعالمه الخاص الذي يضرب طوقاً حول جهاتها الأربع تهيء ميكانيزمات الإبداع لمن يريد أن يُبدع.وهكذا نشأ الطاهر بين الحقيقة والخيال فصُقلت شخصيته بهذا المزيج الرائع، ففي مثل هذه الأجواء ووسط مثل تلك المفردات وُلد ونشأ وتربى واستخلص من الحياة ما استطاع أن يستخلص.بعد إكماله الدراسة الابتدائية دخل دار المعلمين الريفية وكان ذلك في العام 1929 فتخرج منها العام 1933، وفي هذه السنة نفسها عُين موظفاً في تربية البصرة، وفي العام 1941 تزوج من السيدة فاطمة أحمد جمال الدين بعد علاقة حب رائعة ربطت بين قلبيهما، وقد كان لهذه المرأة الأثر البارز والكبير في حياة الطاهر المستقبلية، حيث وظفت إمكاناتها وثقافتها- وهي سليلة عائلة اشتهرت بالعلم والمعرفة، ووالدها كان قاضياً ويُعَد من مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي- في خدمة زوجها ونجحت في شحذ جانب العلم والمعرفة في حياته، وإغلاق منافذ التفكير في الظروف الصعبة التي كانت تعيشها عائلة الطاهر، مما جعله لا يفكر إلا في الكيفية التي يرتقي من خلالها سُلّم العلم والمعرفة. وفي العام 1942 انتقلت العائلة إلى بغداد فدخل على الفور إلى دار المعلمين العالية ليتخرج فيها بعد أربعة أعوام ويُعين مُدرساً على الملاك الثانوي في العام 1946، لكنه وبعد سبعة أشهر فقط قدم استقالته ليتسنى له الالتحاق بالبعثة العلمية العراقية المتوجهة نحو فرنسا.دخل الطاهر السوربون لدراسة علم الاجتماع في معهد الدراسات الدولية العليا، وهناك في باريس بالذات تحددت شخصية الرجل الأكاديمية ونمت لديه التوجهات المستقبلية فتعرف عن كثب على أساطين المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع مثل جورفتش وجان بيرك وغيرهما، وتأثرَ بهم إلى حد بعيد. ولكن الذي حدث لم يكن متوقعاً له، ففي الوقت الذي كان فيه مندمجاً مع الأجواء الثقافية والفكرية التي وجدها في فرنسا، جاء قرار الحكومة العراقية إلى بعثاتها العلمية الموجودة هناك بضرورة ترك فرنسا والتوجه صوب الولايات المتحدة تحت حجة أن الأفكار التي عمت باريس عقب الحرب العالمية الثانية وانتشار الأفكار الاشتراكية والشيوعية كانت غير ملائمة للطلبة العراقيين. وهكذا توجب على الطاهر أن يترك هواه العلمي والمعرفي في فرنسا بعد أن قضى فيها مدة سنة واحدة وشهرين والتوجه إلى شيكاغو. ولقد ظلت باكورة دراسته في السوربون تشغل حيزاً واسعاً من اهتماماته في علم الاجتماع إلى أوقات متأخرة.وصل الطاهر إلى الولايات المتحدة ليجد مقعداً دراسياً محجوزاً باسمه من الحكومة العراقية في جامعة شيكاغو في العام 1948، فباشر في دراسة الماجستير التي أتمها في العام 1950، ثم بدأ في السنة نفسها دراسة الدكتوراه وكان عنوان أطروحته (الجاليات العربية في الولايات المتحدة) فأكملها وحصل على درجة الدكتوراه PhD علم الاجتماع في العام 1952.لقد كانت جامعة شيكاغو من الجامعات الرصينة في الولايات المتحدة وفي العالم حيث بلغ علم الاجتماع ذروة نجاحاته على يد أساتذتها آنذاك وخاصة في الاتجاه التفاعلي الرمزي .في العام 1952وبعد انتهاء دراسته مباشرةً عاد الطاهر إلى الوطن وعُيَن على الفور في كلية الآداب والعلوم جامعة بغداد، وبدأ تدريس مواد وفقرات علم الاجتماع الذي ابتدأت بوادر استقلاله عن الفلسفة في الظهور، فصار هو ثاني متخصص أكاديمي بعد زميله الوردي يسهم بتدشين أول قسم مستقل لعلم الاجتماع في العراق في منتصف الخمسينات من القرن العشرين.