الخطاب الروائي والسياسي عبدالكريم يحيى الزيباري بغداد لكلٍّ منهما غايةٌ وأسلوب مختلفين، رغم أنَّ الروائي يعتمد الخيال في صنعته، والسياسي يعتمد الواقع، غالباً ما يبدو الروائي أكثر صدقاً وواقعية، ورغم أنَّ الرواية نشأت كجزء من خطاب التنوير لكنها حققت انتشاراً لم تستطع الأفكار الحديثة أنْ تُحقِّقَهُ، بسبب موقف رجال الدين المتشدِّد باعتبار الماركسية والرأسمالية أفكاراً إلحادية من شأنها هدم الدين الإسلامي، لكن البعض كرجل الدين محمد عبده ورجل السياسة جمال الدين الأفغاني حاولا الترويج إلى أنَّ الدين الإسلامي لا يتناقض مع مبادئ التنوير الرئيسة كالعدل والمساواة في الحقوق السياسية، وتوزيع الثروة وانتشار العلم وغير ذلك، ولذلك حين نشأت بعض الأحزاب القومية دبجوا أدبياتهم بمقدمات وشِعارات زائفة إقناع الحشود بأنَّ الحزب القومي إنَّما جاء لخدمة الإسلام، وبهذا الصدد يقول حوراني(أمَّا الأفكار الحديثة فبوسعها إمَّا أن تهدم المجتمع الإسلامي وإمَّا أن تعيد بناءه من جديد، وهي تهدمه إذا بقيت طليقة، أو تعيد بناءه من جديد إذا أخضعت لغايات الإسلام الأزلية.. هذا ما نراه في الموقف الذي وقفه العصريون من فكرة القومية) يقول فكتور هوغو بداية عمال البحر(كاد الشارع يكون فارغاً.. الساعة التاسعة صباحاً وقت توجه الأنجليكان إلى كنيسة سان سمبسون وتوجه الولسايان إلى كنيسة إلداد لم يحن بعد وفي القطاع من الشارع الذي يفصل البرج الأول عن البرج الثاني)بين كنيسة الأنجليكان وكنيسة الولسايان شارعٌ واحد، كما كان العراق قبل 2003، ربما تجد في شارعٍ واحد كنيسة ومسجد وحسينية، دون أنْ تتعرَّضَ طائفةٌ لأخرى بسوء، فما الذي حدث في العراق بعد 2003؟ كانت معظم مطاعم وفنادق شارع السعدون وسط بغداد بإدارة كردية، بعد عشرة سنوات لم يبقَ غير القليل منهم، الجميع يتخندق طائفيَّاً وقوميَّاً حتى المؤسسات الثقافية التي تنتظر هِبات وصدقات المؤسسة السياسية، شيئاً فشيئاً اختفت الطوائف والقوميات وراء المتاريس، إنَّ أسباب التعصب بين طائفتي السنَّة والشيعة في مصر تختلف عنها في مصر، كما تختلف أشكال التعصب أيضاً لكنَّ الأشكال والأسباب غالباً ما تكون تابعة للسياسة، فعندما أصدر شيخ الأزهر محمد شلتوت فتواه في مجلة الرسالة 1960 بجواز التعبد وفق المذهب الجعفري، والتي نصت(مذهب الجعفرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً >مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأنْ يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما >ان دين الله وما >انت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة علي مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم)وحال وصول الخميني إلى سَدَّة الحكم ومحاولاته الجادة في تصدير الثورة الإسلامية، أغلقت الدولة جمعية آل البيت التي تأسست 1973، وأصدرَ محمد عبدالرحمن بيصار شيخ الأزهر فتوى بإلغاء فتوى شلتوت. نحن نلاحظ الخطاب السياسي يحاول التفريق والتمييز وهو خِلاف ما موجود في أشكال وأسباب التعصب بين البيض والسود في أمريكا حيث كان الخِطاب السياسي يحظر التمييز بكل أشكالهِ، كذلك بين المسلمين والهندوس في الهند، والمسيحيين واليهود في انكلترا، لأنَّ الساسة هناك يدركون جيداً أنَّ خِطاب التمييز العنصري سيتسبَّب بكارثة التفكك الاجتماعي والحرب الأهلية، فللعنصر السياسي والرسمي للحكومة خاصة دورٌ كبير في تأجيج التمييز العنصري والطائفي والقبلي والعشائري، كما حدث عند تعصب الخِطاب السياسي إبَّان الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر حين ظهرَ وعيٌ بخيار وحيد في الانتماء إلى أُمَّة أو طائفة دون غيرها، هذا الوعي يكون في حالتهِ القصوى كلما اقتربت الحرب (كتبَ بارير في تقريره إلى لجنة السلامة العامة: من الذي انضمَّ إلى الخونة في الراين الأعلى والأسفل لاستدعاء البروسيين والنمساويين إلى حدودنا المحتلة؟ إنَّه ساكن الريف الألزاسي الذي يتلكم اللغة نفسها التي يتكلمها أعداؤنا، والذي يعتبر نفسه بالتالي شقيقهم ومواطنهم ورفيقهم في المواطنة أكثر مما هو شقيق ومواطن الفرنسيين الذين يخاطبونه بلغةٍ أخرى ولهم عادات تقاليد أخرى) . وبارير هذا نموذج للسياسي الانتهازي المتقلِّب من نوع راكبي الموجة، بينما صنعة الروائي كصنعة الشاعر أنْ يبحث عن العوامل المشتركة للإنسانية، بينما السياسي يبحث عن الفوارق والامتيازات القومية والطائفية التي من شأنها تمزيق وحدة مواطني البلد الواحد لتحقيق منافع شخصية باستمالة أحد الأطراف إلى جانبهِ باعتبارهِ الممثِّل الشرعي لحقوقهم الضائعة والمنتهكة، وبهذه الصفة ينال الشهرة والجاه والثروة بينما يتعرَّضُ الذي يُمَثِّل حقوقهم للقتل والتهجير والإقصاء والتهميش بسبب خِطابهِ المتعصِّب.