الخطاب الجمالي الموسيقي المجرد يلقي بظلاله على اللوحة

النعمة: أشتغل على حقيقة الفن لغة إنسانية عالمية

الخطاب الجمالي الموسيقي المجرد يلقي بظلاله على اللوحة

فاضل وتوت

بغداد

اكد الفنان التشكيلي علي شاكر النعمة على ان العمل الفني هو طابع عصري دائما  ما ينفتح على أبواب التأويل اذ اسلم بحقيقة اثبتت ولا تزال تثبت صحتها من ان الفن لغة إنسانية عالمية، ولكي يرتقي العمل الى هذا المستوى المتفجر والمتشظي من القراءات وآلياتها المتوالدة والمتجددة فيجب ان تكون التقنيات الأدائية والمواد والأفكار قبل كل شي مبتكرة ليتسم المنتج بقدرته على الادهاش وتمكن النعمة ان يجسد اللحن الموسيقي من خلال عزفه على الة البيانو التي ان يمزج بين اللون والموسيقى لتتحدان وتكونان لوحات رائعة.

(الزمان) حاورت الفنان علي النعمة لتتعرف على اعماله وتطلعاته وتجاربه:

{ الفن بحث الذات ورسم الهوية اللون حب الارض اين انت من هذا؟

– اعتبر ان الفن رحلة بحث واستكتشاف لإعادة كتابة الموضوعي من منظور ذاتي، اذ تعبر الذات عن رؤاها المتشكلة على بنية قوامها الحس والعقل والعاطفة والخيال، عن رؤية تتسم بالعمق لولوج عوالم غير متاحة للعيان الحسي، لذى سيتسم المنتج الناجم عن جدل العلاقة بين مكونات الذاتي والموضوعي المتحقق داخل الذات بكونه موقف إنساني وفكري وفني يفصح عن هوية الفنان كحالة وعي متقدم، كما سيحمل بصمات متوارثة من تجارب ذاتية تبلورها تراكم الخبرة كما عبر عنها ( جون ديوي )، واسقاطات البيئة المتنوعة بما تحتويه من معطيات طبيعية وأخرى مصنعة. اي ان عملية البحث ستكون داخل الذات، ومادتها مفردات الموضوعي، وأدواتها ملكات الذات. ليكون الفن بمختلف أجناسه ومدارسه وتياراته الأسلوبية  في المحصلة النهائية حالة تعبير Expression عن موضوعة مادية او فكرية.

{ فوضى الاشياء واختلاط الذاكره في الخيال كيف تقتنص اللحظه وتجعلها عملا يوثق شيء ما؟

– سبق وان رفعت الفلسفة اليونانية مكانة الفنان لدرجة رفيعة ضمن تصنيف مستويات الفئات الاجتماعية، اذ جعلت منه وسيطاً بين السماء والأرض  يترجم إرادة الحقيقة المتموضعة في عالم الجواهر الأزلية او عالم المثل كما اطلق عليه أفلاطون وهذه المكانة المرموقة في مجتمع حافل بالجدل العلمي في مباحث وجودية مهمة لم يتأت من فراغ وإنما من ثقة المجتمع بمقدرة فئة مختارة من البشر لتوصيل تلك الحقائق المطلقة لعامة الناس لما يمتلكون من ملكات يعبر عنها بعمومية بالموهبة التي تؤهل البعض من استشراف المستقبل وتقريب اللامرئيات من حقائق فكرية او مادية للمجتمع، لذى فان مهمة الاستشراف او لنقل اقتناص اللحظة سيستند الى موهبة وسيعول على مقدرة الفنان الحدسية التي بواسطتها يجتاز الاطر التقليدية في تناول موضوعات العالم والتي تشكل حواجز و مظاهر خادعة تستتر الحقيقة خلف جدرانها، فعادة ما نظرنا الى الأشياء من حولنا بسطحية على سبيل التعرف الاصطلاحي لربما عليها او احيانا بمستوى من التدبر لإدراك العلاقات المركبة بين الأشياء ومن ثم استنباط أفكار اكثر تعقيدا بواسطة العقل. ولكن ان نتمكن من الوصول الى جواهر الأشياء ومحاكاة جواهرها كنوع من المحاكاة اللاتقليدية كما وضح أرسطو في ملخص رأيه عن الفن في كونه معطى ناجم عن تفاعل الفنان زائدا الطبيعة، فيتطلب مقدرة حدسية، فالحدس Intuition  هو الوسيلة اللتي يمكن بواسطتها اقتناص اللحظة الأقرب والأكثر تماسا مع جوانب الحقيقة على الصعيد القيمي المعرفي او الأخلاقي او الجمالي. ولكي تتمكن الذات من صياغة التصورات الحدسية للحقائق فهذا بدوره يتطلب حالة تعايش وتنافذ بين الذات بطاقاتها المختلفة مع الموضوعي. ليكون النتاج مصداق حقيقي للواقع، ليكون الفنان ضمير جمعي يعبر بصدق عن الحياة وموضوعاتها.

{ المعركه اللونيه تقودك الى منجز اين تضع تجربتك اللونيه ومنجزك في سلم الحركه التشكيليه العراقيه ؟

– يتمخض عن فعل الاشتباك بين عناصر الشكل على مسرح الحدث وبين الصور المتخيلة تجلي محسوس كما عرفه هيجل من ان الجميل هو التجلي المحسوس للفكرة، وفي اعمالي احاول التركيز على مفاهيم تنسجم والفكرة العامة تأخذ حيز الاهتمام الأكبر منذ اللحظة الاولى للشروع في العمل ولا أعول كثيرا على طاقة اللون وحيويته في إغناء وإشباع الخطاب البصري الحسي، حيث احاول دفع فعل التلقي لعملي الى منطقة تتخطى التزويقية، لذا يجد المتلقي زهدا واضحاً في استخدام وتظمين اللون في اعمالي فهي تنزع نحو التصوف اللذي ألمحت له من قبل الفنون الاسلامية بطابعها الروحي المتقشف ايماناً بعقيدة دينية تجعل من محاكاة الذات الإلهية غاية فتبتعد قدر الإمكان عن عوالق المادة من ان تنفذ الى العمل، ولذلك فلسفته الخاصة، ولكن المبدأ العام هو اقتران الروحي الأثيري باللامادي. وعليه وبما ان منطقة اشتغالي تتوخى موضوعات كونية عامة، كان لزاما علي وكضرورة تفرضها عملية تجسيد اللامرئي ان التجئ الى العناصر الشكلية الأكثر ابتعادا عن القرائن المادية المحسوسة او حتى الأفكار القبلية المنطقية الراكزة عقلياً، وهذا احد محاور الارتكاز الاساسية التي أقرتها التجريدية على المستوى الغنائي كما في اعمال كاندنسكي ذات وبحثه الشكلاني الخالص رغم تفعيله لطاقة اللون في بعض أعماله، او المستوى الهندسي الثيوصوفي في اعمال موندريان القائم على مبدأ الاكتفاء بالعناصر الأولية او الاساسية لتضمن لنفسها الكمال المتشكل من مكونات مادية مشتقة دونما تحريف عن الواقع. او بالمستوى التفوقي كما في اعمال ماليفتش ذات الخطاب السيميائي المفتوح على باب رحب للتئويل،ما اريد ان أقوله هنا ان العمل الفني الذي اشعر بانه ذا طابع عصري هو ما ينفتح على أبواب التأويل اذ اسلم بحقيقة اثبتت ولا تزال تثبت صحتها من ان الفن لغة إنسانية عالمية، ولكي يرتقي العمل الى هذا المستوى المتفجر والمتشظي من القراءات وآلياتها المتوالدة والمتجددة فيجب ان تكون التقنيات الأدائية والمواد والأفكار قبل كل شي مبتكرة ليتسم المنتج بقدرته على الادهاش وإحداث الصدمة عند المتلقي ،وهذا ما توسمته وتابعته في الكثير من المنجزات الفنية الإبداعية المتسمة بالأصالة ولها مرجعيتها الفكرية وتنظيراتها الجمالية وفلسفتها الخاصة اللتي استشهد بأحد رموزها على سبيل التوضيح لا احصر، اعمال الفنان الكبير شاكر حسن آل سعيد ذات الأبعاد المفاهيمية في تناوله لموضوعة الجدران العتيقة المنسية اذ يتحول المرئي ( الجدار ) الى نافذة نطل من خلالها على تأويلات لا حصر لها. وهذا ما اصبوا اليه في منجزي.

{ جدك في عائله فنيه عريقه هل رسمت هويتك الفنيه وماتاثير المحيط العائلي على تجربتك؟

– ولدت ونشأت في كنف عائلة فنية تعشق الفن والجمال، فأصبحت منذ طفولتي على تماس مباشر ومتواصل مع مناخ إبداعي بدئاً بجزئيات انتاج العمل الفني من مواد وتقنيات وأساليب، مما حفزني وهيأني نفسياً لولوج هذا العالم الواسع، كان والدي الفنان الراحل شاكر نعمة قد استوفى دراسته لفن النحت في ايطاليا / كرارا 1973 فكان نحاتا ورساما بالاضافة الى اهتماماته المسرحية فادى العديد من الأدوار المسرحية في مدينة بابل التي أسس فيما بعد نقابة الفنانين فيها مع مجموعة من فناني المحافظة. كما كان عمي الفنان الراحل زيدان نعمة و عمي الفنان عامر نعمة وأخي الفنان محمود شبر، نعمل كورشة عمل فنية واحدة نتبادل الآراء والخبرات نقوم تجاربنا وما يدور في ساحة الثقافة والفن في العالم بفضل المكتبة الغنية من المصادر والكتلوكات الفنية التي حرص والدي على متابعتها وجمعها للاطلاع على مستجدات الحراك الإبداعي المتواصل لغرض الفهم والمواكبة، ولعل وجود هذه المكتبة المهمة قد أفادني كثيرا في إغناء مخزوني البصري و الفكري لدى اطلاعي على تجارب فنانين مهمين على مستوى عالمي في فترة لم تكن فيها وسائل التداول الثقافي متيسرة كما في وقتنا الحاضر.

{ انت ابن مدينة  الحضاره والتاريخ هل وضفت ارتباطك بتلك الحضاره ورموزها في اعمالك؟

– للحضارة تأثير لا يمكن تجاهله في اي نتاج إنساني سيما اذا كان ذلك النتاج من نسج الذات لموضوعات تتخطى الماديات. فلا يمكن إنكار دور اللاشعور الجمعي وهو مفهوم نفسي طرحه يونك وأثبت ان هناك قواسم مشتركة في المجتمعات الانسانية تلتقي في نقاط توحد المرجعيات او المنطلقات الاساسية من جوانب مختلفة لدى مكونات المجتمع أكثرها قربا الى الحضور والتأثير تلك العلاقة الأزلية بين الانسان و القوى اللامرئية الموضوعية والتي تعامل معها الانسان الاول بفطرية ونزوع روحي مبني على الاعتقاد اللامادي واللامنطقي وجعل منها مبادئ عقائدية لعبت دورا مهما وكبيرا لشوط زمني طويل من المنجز النوعي الانساني، وهذا ما أشار اليه والمح له في اكثر من مناسبة كتاب قصة الحضارة لول ديورانت، اذ ثبت تجاورية وتبادلية وتوازي العلاقة بين تطور التراث الإنساني على مراحل تبعا لتطور الوعي الفكري في مجالات المعرفة المختلفة.

لذا لا يمكن فصل النتاج الفني عن المعطى الحضاري الإنساني اولا كمستوى تشاركي أساس و من ثم سلسلة  التجذير بحسب الجنس والعرق والانتماء والعوامل الديموغرافية والاجتماعية والبيئية  بكل عناصرها المادية والفكرية. لذا ارى ان مجمل النتاج الفني الذي يمكن ان يقدمه الفنان و مهما اختلف مع النسق الذاتي او السياق الاسلوبي السائد الا ان نتاجه الإبداعي سيحمل بصمات الحضارة وعلاماتها الفارقة ولكن على مستويات ايضاً. فإذا تحدثت عن اعمالي كمثال عن الفكرة التي أروم طرحها، فسيلاحظ المتلقي حالة قطيعة يمكن ان تعد مؤشرا سلبيا من منظور مقولة الهوية الحضارية للنص الإبداعي، وهذا فهم اعتقد وهذا رأي شخصي انه جزئي وغير موضوعي،اذ ان الفن بشكل عام لغة بصرية ودراكية ووجدانية عالمية بينما تلعب الأصالة في الانتماء او الأصالة في التجربة التحديثية مستقاة من وعي مفارق للماديات السطحية، اذ لا يمكن لوسائل التعبير الفني التقليدية ان ترتقي الى مستوى التعبير وهو مطلب غائي للفن بآليات من شانها اجترار الذاكرة الحضارية بدعوى تأصيل التجربة وشدها الى الجذور وتأكيد هويتها.  اعتقد ان الهوية أصبحت ذاتية اكثر من كونها موضوعية وهذا معطى طبيعي لتعالي سلطة الذات منذ تنويرات ديكارت الى يومنا هذا.

{ انت تعزف على آلة البيانو، كيف تؤثر الموسيقى في خطوطك اللونية ؟

– لكونها ذات ماهية أثيرية تتجلى في الزمان، وضع الفلاسفة ومنهم هيجل وشوبنهور الموسيقى في اعلى سلم الفنون الجميلة كونها تجسد أفكار مجردة تتمتع بجمالها بذاتها ولذاتها، اي جمال خالص غير مقيد بغائية منفعية معرفية او أخلاقية فهي احساس خالص يتمتع بحرية في التعبير ولكن ايضاً ضمن سياقات وقوانين زمانية تميزها عن الفنون المرئية ذات التمثل المكاني، كما ان  تحررها من الزامات المادة  وقوانينها الطبيعية والفيزيائية خفف من وطأة الإرادة التي تلجم الفكر وتحد الخيال. لذلك فان التعامل مع الخطاب الجمالي الموسيقي المجرد كما أسلفت ألقى بضلاله على مجمل اعمالي التي نحت منحاً مشاكلاً  لمفاهيم الموسيقى الخالصة فاتخذت أسلوبا تجريدياً يؤجل المعنى الحرفي للأشياء بل و يموهه ليتوارى خلف رؤية المتلقي وافق توقعه المنسجمة مع مستوى وعيه وثقافته المعرفية والبصرية. غير ان التأثير الأكثر حضوراً في اعمالي هي المقاربة التجريبية بين مقتضيات العقل و اقتراحات الخيال والعاطفة، وهنا يكمن دور الخبرة وهنا ايضا يتبلور الأسلوب في كيفية إمساك طرفي المعادلة وإيجاد حلول متواترة تتطور وربما تتحول تدريجيا في كيفية تقنين الخيال، او تنظيم الرؤى الحرة، فالانفعال الناجم عن مطلب التدفق التلقائي للعاطفة ان لم يعقلن لن يتمكن من نقل الصورة الفنية من المخيلة الى مسرح الحدث، وستكون الصورة مشوشة ومبهمة تماماً بما لا ينسجم حتى مع الأسلوب التجريدي الذي يشتغل على الشكل، فالنزعة الشكلانية لا تعني الشكل الغير مقنن، كما هو الحال مع الموسيقى.

مشاركة