حسن النواب
أحياناً تتوقف المعارك في جبهة الحرب، كأنَّ هدنةً عفوية تحدث بين الطرفين، فتأتي الأوامر بإعادة برامج التدريب برغم قرب الوحدات العسكرية من مصادر نيران العدو. ذات صباح كان الضابط المسؤول على صنف سائقي الدبابات في الكتيبة يُلقي علينا محاضرة تتعلق بإدامة الدبابة طالما سمعناها من قبل، وإذا به يتوقف عن الكلام فجأة ويختارني من الجميع حتى أجلب له الماء من موضع قريب، استفزتني خشونة كلامه حين قال بنبرة متعجرفة يقصد إهانتي بها
أنت أيها الأرنب؛ انهض وأجلب لي الماء.
كأنَّ الأرض ابتلعتني، كنتُ أعرف أن أسلوبه البذيء الذي سمعه أكثر من أربعين سائق دبابة؛ كان بسبب علمه بشغفي بقراءة الصحف والكتب الأدبية وكتابة الشعر، فأهملتُ أمره ولم أنهضُ من مكاني، عاد ليزجرني بحقد
ألم تسمع ما قلتُ لك أيها الشويعر؟
ارتعدتْ عظام صدري غضباً وتنفست بصعوبة قبل أنْ أسألهُ بمكر
هل تريد الماء لتشربهُ أم لأضعهُ في راديتر الدبابة؟
صرخ حانقاً
قل سيدي وأنت تكلمني يا جيفارا
أمعنتُ بالتحدي وسألته بصوت شابهُ الارتباك
وهل تعرف من هو جيفارا؟
شعر بالحرج وانتفخت أوداجه، وأمرني بالزحف أمام الحاضرين، لكني لم استجب إلى أمره ولبثتُ في مكاني متوقعاً منه أسوأ النتائج، حينها صرخ بالجميع تفرقوا. في الملجأ أخبرني الجنود أنَّ عقوبة قاسية ستنتظرني، غير أنَّ أمراً عاجلاً صدر بعد ساعة للتحرك على الفور لصد تعرضٍ للعدو عند مخفر الفكة، فتنفستُ الصعداء، ودخلنا في جحيم معركة ضارية، عند الغروب أصيبت دبابة الضابط بصاروخ قاذفة، فخرج منها مشتعلاً بالنيران، وقد فرَّ طاقم دبابته من الهلع، قفزتُ من دبابتي نحوه وألقيتُ عليه بطانية بغية إخماد النيران، ونجحتُ في ذلك، كان في حالة يرثى لها ورائحة الشواء تنبعث من جسده المحترق، وإذا به يقول متوسلاً
أريد شربة ماء
هرعت إلى الدبابة لأعود بزمزية الماء وسقيتهُ بيدي؛ حتى وصلت الإسعاف لتحمله إلى موضع إخلاء الجرحى. بعد ثلاثة شهور عاد إلى الكتيبة مُعافى وعندما قابلني سألني بخجل مر
لم أعرف أنَّ الشعراء طيبون إلى هذا الحد؟
في الحرب
الجنرال يأكل خروفاً في كل يوم
والجندي يزدردُ طعاماً رديئاً
الجنرال ينام في ملجأ مُحصَّن
والجندي يحرسهُ في العراء
الجنرال تزدحم على صدره النياشين والأوسمة
والجندي تملأُ صدرهُ الجروح والهموم
الجنرال بذلتهُ أنيقة وفاخرة وجزمتهُ تلمع
والجندي بذلتهُ رثَّة وتفوح برائحة البارود
الجنرال ينزل بسيارة فارهة كل أسبوعين
والجندي يطارد الحافلة
بعد شهر من قتالٍ شرسٍ
تحت وابل القصف
أو أشغالٍ شاقَّةٍ
في بناء بهو الجنرال الخاص
الجنرال في السيطرات يتلقَّى التحايا المبجَّلة
والجندي يشبعُ عذاباً وإهانات
الجنرال يزجر الجندي بمفردات بذيئة
قشمر؛ حمار، إبن الكلب، أثول
والجندي لا يستطيع أنْ يقول إلاّ نعم سيدي
الجنرال عندما يموت يرثيه الجميع
والجندي عندما يُعدم لا يتذكره الناس.
في سنوات الحرب مع إيران، كانت كتيبتي دبابات الكندي أمام مخفر زيد في شرق البصرة، في شهر تموز تنعدم الرؤية تماماً بسبب الغبار الكثيف الذي يملأ فضاء الجبهة عند منتصف النهار ولا يزول إلاّ عند مغيب الشمس، كُنَّا نلجأ إلى غمر الشراشف في الماء وتغطية أجسادنا بالكامل؛ لكن الشرشف سرعان ما يتحول إلى قطعة قماش جافة خلال دقائق نتيجة ارتفاع درجة الحرارة، بالوقت الذي تنفجر أكداس العتاد من جرَّاء سخونة النهار ؛ كأننا في الجحيم، ومع مرور الأيام تبدأ جلودنا بالانسلاخ خاصة المناطق المعرَّضة للشمس بشكل مباشر، وجوه قاتمة معفَّرة بالغبار وأكف منزوعة الجلد، وبرغم هذا الطقس الكريه والخطير، كنتُ أحاول نسيان ما يحيط بي من سعير بمطالعة أشعار بوشكين وطريقة موته الساذجة في مبارزة ضد صديقه القريب من أجل امرأة. كنت حزيناً على مقتل الشاعر بوشكين أكثر من حزني على حياتي التي كانت تنصهر مثل قطعة جليد تحت شمس تموز اللاهبة. في حين كان الجنرال ينامُ عند الظهيرة في عربة الإسعاف المكيَّفة!