التنمية والتغيّر المجتمعي .. دراسة مقارنة – إسراء حسن الحسني
بكثير من التنمية السياسية والاقتصادية على خلاف ما يتصوره الكثيرون، وتعتبر احد الأعمدة الرئيسية لسياسة الدولة العامة .
فالهدف يبدو سهلا وممكنا ،ولكن في الواقع قد يكون بالغ الصعوبة لأن الشيطان يكمن في التفاصيل ، كما يقولون ، ومنها كيفية اختيار الاليات القادرة على تحقيق هذه التنمية الثقافية المجتمعية الجذرية الشاملة بكل ابعادها وبمختلف عناصرها ومكوناتها ودوائرها ومستوياتها وبكافة القطاعات المسئولة عنها او المنفذة لها او المشاركة فيها، فهي عملية معقدة ومتشابكة الى أقصى حد.
و الصعوبة تكمن في نسف الكثير من الرواسب والمخلفات والموروثات التي تجذرت وتراكمت عبر عقود طويلة ، واصبحت بمثابة بديهيات ومسلمات بل ومقدسات لا يجوز المساس بها او الاقتراب منها . وهو امر لا بد وان يحسب حسابه في اي استراتيجية قومية للتنمية الثقافية ، فهي تعني الكثير اذا ما كان للمجتمع ان ينفض عن كاهله غبار التخلف ويخطو للامام ويتقدم ويتطور ، ومن ذلك مثلا: كيف يمكن التحول بالمجتمع من ثقافة التواكل والتخاذل والكسل الى ثقافة العمل والتميز والابداع بتنمية القدرات والمهارات والقبول بالتحدي وعدم التهرب من المنافسة في عالم اساسه التحدي والمنافسة ؟ وكيف يمكن التحول من ثقافة العمل الفردي الى ثقافة محفزة للعمل الجماعي بروح الفريق ؟ ومن ثقافة الابتعاد واللامبالاة الى ثقافة وطنية ايجابية تبنى على قيم المشاركة والتفاعل والانتماء والمواطنة وعلى احترام النظام العام وحكم القانون ؟
التحديات هائلة بلا شك ، وتكلفة التغيير قد تفوق طاقة المجتمع على تحملها او قدرته على الوفاء بها ، والقوي المعارضة للتغيير كثيرة وان اختلفت الواجهات والشعارات والاسباب والمبررات وان اتفقت مع بعضها في ان التغيير سوف يفقدها مراكز قوتها ويضر بمصالحها ويعجل باختفائها، وايا ما كانت الصعوبات ، وهي متوقعة ولا يمكن انكارها او تجاهلها ، فان المحاولة لا بد وان تبدا فورا ودون ابطاء ضمن اطار استراتيجي واضح المعالم ومتكامل المراحل والخطوات والمستويات ، فالجزافية والعشوائية مرفوضة تماما ولا مجال لها هنا فنحن امام تغيير منظومات قيم وانماط سلوك واساليب حياة . وهو ما يعني اعادة تشكيل لعقل المجتمع ووعيه وافكاره ، والتي بدونها سوف يظل هذا المجتمع على حاله من الركود والتخلف والتحجر . المهمة ثقيلة ولكنها تستحق المحاولة .
كما يقال ليست هناك صناعة مجانية للتاريخ فمن يريد أن يبحث لنفسه عن مكان في التاريخ وأن يضع نفسه على قمة خريطة العالم , فان عليه أن يدفع ثمن الدور الذي يبحث عنه لنفسه , ومن البديهي أنه كلما تعاظم الدور وارتفعت المكانة زاد المقابل وتضاعفت التكلفة . وثمن صناعة دور ومكان متميز للأمم والشعوب في التاريخ هو العمل الجبار , وقهر التحديات ، وعدم التخاذل والاصرار على النتائج , والتصميــم علي بلوغ الهدف ، والقليل من الأنانية والانتهازية والكثير من الايثار وانكار الذات , وفوق هذا كله قيادة تملك الطموح والرؤية الاستراتيجية ومنهج العمل الصحيح والارادة القوية التي لا تجعلها تتوقف أو تنسحب أو تتراجع تحت أي ضغط كان فهي التي تقف على رأس المسيرة تقودها نحو الهدف .
برامج متكاملة
وعن قناعة ذاتية راسخة، انه لا حل جذري للكثير مما نعيبه على مجتمعنا ونشكو ونتالم منه في غياب تنمية بشرية ومجتمعية حقيقية تمتد الى كافة جوانب حياتنا وفق رؤية استراتيجية شاملة وبسياسات وبرامج متكاملة محسوبة بدقة وواقعية لكافة عناصر ومحاور هذه العملية التنموية التي تضع الانسان في المقام الاول من اهتماماتها واولوياتها واهدافها. فبدون تغيير الانسان من داخله تغييرا حقيقيا واعادة تشكيله وبنائه لاستنفار كافة حوافزه وطاقاته ومهاراته وقدراته على الابتكار والابداع والعطاء المتجدد لمجتمعه يصبح ما عداه من انجازات شكلية لا جدوى منه ولا طائل من ورائه ولا مستقبل له..
وحتى نكـــــــون واقعيين اكثر نقول انه في ظل تـردي حال التعليم والثقافة والاعلام في بلدنا، وشيوع الامية والفقر وتدني مستوي الوعي العام بمختلف صوره ومظاهره واشكاله ، وتخلف النظم الادارية الحكومية والتشريعات القانونبة عن مواكبة متغيرات العصر بالدرجة المناسبة من السرعة والمرونة ومن القدرة على التكيف والمواءمة مع واقع الحال من جيل الى جيل ، ومن فساد وانحراف واستغلال نفوذ، ومن زرع لحاجز مرتفع من العداء والنفور منه ولا اقول الكراهية له لدي جمهور المتعاملين معه ممن يرون فيه صورة قبيــــــحة وكريهة من صور الدكتاتورية الادارية البغيضة لا جهازا للخدمة العامة كما هو الحال في غيرنا من المجتمعات الانسانية الراقية.التي تقدس حقوق الانسان واهمها كرامته وآدميته كمواطن له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات.
وهنالك الكثير والكثير من العيوب والسلبيات والمعوقات التي تعرقل مسيرتنا وتسد الطريق علينا مما قد لا يتسع المجال لذكره.
تنمية ممكنة
ان الطريق نحو تحقيق هذا التغيير الانساني والثقافي والاخلاقي والمجتمعي المنشود ، هو باحداث هذه التنمية الاستراتيجية الشاملة والمحسوبة بدقة بمعيار اولوياتها وتوقيتاتها وتكاليفها وعوائدها المنتظرة على نحو ما ندعو اليه ونتحمس له.. وهي تنمية ممكنة وليست صعبة او مستحيلة. هي تنمية ترعاها الدولة وتشارك فيها بكل خبراتها وطاقاتها َوامكاناتها ، هذا الى جانب اهمية حشد كافة طاقات وخبرات وامكانات وادوار المجتمع المدني للمشاركة فيها وتحفيزها وهي كثيرة ومتنوعة وجاهزة اذا ما عرفت طريقها الصحيح في الوقت المناسب إلى هدفها ضمن هذا الاطار القومي الجامع لكل الجهود والادوار والخبرات والمهارات ، فبدون تغيير عميق وشامل وحقيقي لنوعية الحياة والفكر والسلوك وفي نماذج القيم والاخلاقيات على المستويين الفردي والمجتمعي العام ، والانفتاح على العالم المعاصر بكل ما يجري فيه من تحولات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية هائلة