التماثل والتباين

الدلالة والرمز في لغة الشعر

التماثل والتباين

أحمد إسماعيل النعيمي

بغداد

يكاد لا يخلو سياق في نتاج نثري، او منجز شعري، او تشكيل فني، من الدلالة او الرمز، والعلة في ذلك ان الالفاظ والتراكيب والمقاطع والصور تغدو في معان ارحب واعمق واكثر إثارة في ذلك السياق الذي تنتظم فيه، من معانيها الظاهرة او المباشرة. بكلمة ادق يتشكل معنيان احدهما صريح، وآخر متوار يستنبط من السياق نفسه.. وذلك ما ينضوي تحت مصطلحي الدلالة والرمز.

ولتأكيد مصداقية هذا المنطلق، نشير الى ان الدلالة في سياق خطاب شعري- تحديدا- تتمحور في مصطلحين اثنين، الاول هو (الدال) وهو المعنى المعجمي المباشر للالفاظ، او الثابت او المتفق عليه، المفضي في السياق نفسه الى معنى آخر متعدد المسميات (الخفي، المتواري، غير الظاهر، وغير الصريح او السياقي) وغيرها، وهو ما اصطلح عليه ايضا تسمية (المدلول).وكلا المصطلحين (الدال والمدلول) يعتمد الربط بينهما على رؤية او تحليل المتلقي المحترف (الناقد) ومن هنا يكمن الجهد النقدي في استنباط المدلول من الدال من جهة، وتحليل مضمونه – بموضوعية او مصداقية- من جهة اخرى، اذ ما يتراءى لهذا الناقد مدلولا بعينه لا يراه آخر، لذلك تعددت قراءة الخطاب الشعري واختلفت بين نقاد الشعر، ولاسيما ان بعضهم يقول صاحب الخطاب ما لم يقله او يقصده! اتكاء على استنباط خاطئ للمدلول هذا ما يتعلق بدلالة.

اما بشأن (الرمز) فهو يتماثل مع مفهوم الدلالة، من حيث ان الرمز – بمعناه الاصطلاحي- هو ما وراء المعنى الظاهري (المعجمي) للالفاظ او التراكيب او المقاطع او الصور في سياق شعري – بخاصة- مع عد المعاني الظاهرة لها مقصودة ايضا، وذلك للترابط الجدلي بين كلا المعنيين (الظاهر وغير الظاهر) وهو ما يتوافق مع معنى الرمز في اللغة: اذ جاء في المعجمات ان الرمز (اشارة وايماء بالعينين والحاجبين والشفتين) فالاشارة ظاهرة او صريحة، وما تدل على معنى بعينه كامن في تلك الاشارة نفسها!

اما وجه الاختلاف بين الدلالة والرمز فشاخصة معطياته في كون الدلالة متحركة وغير ثابتة من حيث المدلول تحديدا، بكلمة اخرى ان المدلول تتحدد ابعاده بحسب خصوصية كل سياق شعري او ادبي او غيرهما، مثال ذلك خطابا النابغة الذبياني اللذان شكل فيهما (الليل) ملمحا مشتركا، ولا سيما قوله:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت ان المنتأى عنك واسع

وقوله ايضا:

كليني لهم يا اميمة ناصب

وليل اقاسيه بطيء الكواكب

ففي الخطاب الاول يفضي الليل (الدال) بمعناه الثابت (نقيض النهار) والمتصف بالظلمة الى معنى ارحب في السياق الشعري، ليغدو غطاء يشمل بظلمته كل شيء انسانا وحيوانا وجمادا – اينما كانوا- ليبدو معادلا موضوعيا لذلك المقصود بالخطاب الذي بإمكانه ان ينال او يدرك الشاعر مهما بعدت المسافات بينهما، وهنا مكمن (المدلول) في هذا الخطاب لليل بشموليته وإدراكه للاشياء كلها! اما في الخطاب الثاني فلا يعدو الليل بظلمته وعتمته (الدال) سوى زمن اي (مدلول) بطيء في جريانه بدلالة ثبات الكواكب والنجوم في السماء التي لا تتوارى الا بحلول النهار.. وذلك ما زاد من معاناة الشاعرة وآلامه وتوجعاته في ذلك الليل البهيم بشقيه الدال والمدلول.

اما الرمز فمدلوله ثابت او شبه ثابت، واستنباطه او تحديده اوفر حظا من المدلول في الدلالة – لاتفاق الوعي الجمعي عليه- ولنا في هذين الخطابين الشعريين ما يقرب الى اذهاننا ذلك التصور، قال امرؤ القيس:

ففاضت دموع العين مني صبابة

على النحر حتى بل دمعي محملي

المعنى الخفي

فلو تأملنا النظر في لفظة (محملي) بمعناها المعجمي (الثابت) او الواضح ونعني به (حمالة السيف) استنبطنا حقيقة ان السيف – في ثبات معناه- هو رمز للشجاعة والفروسية والاستبسال والرجولة لتأكد لنا ان المعنى الخفي او غير الظاهر او غير المباشر لرمزية (الحمالة) هو ان الشاعر يبكي عشقا ووجدا وهياما وهو ذلك الفارس الذي لا يشق له غبار، ولم يكن يبكي عن خور او ضعف، كما قد يتوهم بعضهم! وهنا تبرز اهمية الرمز في معناه المتواري في المعنى الظاهر للفظة في السياق الشعري. ومن الشواهد الاخرى المتضمنة معنيي الرمز (الظاهر وغير الظاهر) او المباشر وغير المباشر او الصريح وغير الصريح ما تضمنه خطاب مالك بن الريب القائل:

فيا صاحبي رحلي دنا الموت

فانزلا برابية اني مقيم ليالينا

حين نقرأ هذا الخطاب بتمعن – اكثر من مرة- يتراءى لنا ان الشاعر اراد من لفظه (الرابية) مرتكزا لخطابه من جهة، ومعنى ينشده ويقصده قصدا من جهة اخرى.. وذلك من حيث اذا فهمنا ان الرابية (بمعناها المعجمي) هي كل ما يغدو مكانا مرتفعا عن الارض في قمة كثبان او هضبة او جبل للراصد او لشأن آخر.. ادركنا ان رمزية هذه الافظة تومئ بأن الشاعر ما ان دنت منيته اوصى رفيقيه ان يدفناه في مكان عال مواز لشموخه وكبريائه ومكانته فارسا يشار اليه بالبنان في حياته! وتبقى الاشارة الى ان كل سياق في تضمنه دلالة او رمزا، يعتمد ذلك على اللفظة او التركيب او المقطع.. مما يعد مركزا لهذه الدلالة او تلك، او لهذا الرمز او ذاك.

ونقول ايضا ان العلاقة بين الدلالة والرمز علاقة خصوص وعموم والتفريق بينهما ليس سهلا، وفي الوقت نفسه ليس صعبا. فكلاهما قائم على المعاني الخفية او غير المباشرة، وذلك هو التماثل بينهما، اما الاختلاف فهو نسبي – الى حد ما- اذا ادركنا ما يعد متفقا عليه – في وعي المجتمع- انه رمز لشيء بعينه.

بقي ان نشير الى ان للدلالة والرمز انواعا، توسع الفارق الكائن بينها، فمن انواع الدلالة هناك الدلالة المعجمية والنحوية والصرفية والسياقية.. الخ.

اما انواع الرمز، فهناك الرمز الديني والاسطوري والتاريخي والادبي والفني..

وفي الختام نقول ان الشعراء او الادباء او الفلاسفة يضمنون نصوصهم معاني خفية وغير مباشرة، من دون ادراك لمسميات هذين المصطلحين اللذين يتم تسميتها واستنباطهما من لدن القارئ المحترف المسمى بالناقد حقا لا مجازا.. وحين يتوصل اليهما بموضوعية او مصداقية فتلك هي القراءة الحقة لسياقات النصوص الشعرية وغير الشعرية على السواء..

{ أكاديمي في كلية التربية للبنات

مشاركة