التعليم الجامعي الأهلي.. تقريب المقاربات – عبد الرضا سلمان حساني
نيلز بور (1885-1962) هو عالم فيزياوي دنماركي معروف لطلبة العلم (صورته موجودة على العملة الورقية الدنماركية فئة 500 كرونر).
هو أوّل من وضع أسس فهم التركيب الذري للمادة ومبادىء في النظرية الكمية وحصل لهذا الإنجاز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1922. عندما كان بور طالباً، سأله يوماً أستاذه أثناء الدرس السؤال التالي: ( لو اُعطيتَ جهاز بارومتر، فكيف يمكنك الإستعانة به لقياس إرتفاع بناية شاهقة؟).
والبارومتر بالطبع هو جهاز قياس الضغط الجوي الذي نعيش فيه. وممّا هو مألوف أنّ قيمة هذا الضغط تتناقص كلّما إرتفعنا عن مستوى سطح الأرض بسبب نقصان كثافة الهواء. وكان بإمكانه أن يقيس الضغط في أعلى البناية ويستخرج الجواب. ولكنّ نيلز بور لم ينطق بهذا الجواب المألوف والمعروف، لكنّه أورد ثمان إجابات منها ربط البارومتر بحبل ويأخذه الى أعلى البناية ثم يترك البارومتر يتدلّى الى الأرض فيكون طول الحبل هو إرتفاع البناية أو : يمكن أن نستخدم البارومتر كبندول أو نضعه في الشمس ونقيس طول ظلّه وطوله ولدينا طول ظل البناية فنطبّق معادلة النسبة بين الإرتفاعين تساوي النسبة بين طوليّ الظلّين. وإسترسل في الإجابة ليقول يمكن أن أعطي البارومتر كهدية الى حارس البناية وأسأله عن إرتفاعها ويحصل على الإجابة . لم يقتنع أ وفي الآخر طلب أستاذه إستقدام مقيّم ثانٍ لإتخاذ القرار بطبيعة الإجابات فكان رأيه أن جميع الإجابات صحيحة.
بهذه المقدّمة العلمية أردتُ عرض الموضوع في العنوان أعلاه مع الفارق في البيئة والزمن والتدريسي والطالب. إذن مثل هذه المقاربات وغيرها تبحث عن بارومتر أو مقياس دقيق ومعيار كفوء لإعلومات ومتغيّرات التعليم الجامعي الأهلي في العرا ق، فهل هذا المقياس موجود؟ وأين هو؟ وإذا كان موجوداً فهل يمكن إستخدامه بفاعلية ومهنية حقيقيةبتجرّد وموثوقيّة؟ ومن يستخدمه؛ الجهات الرسمية المعنيّة أم الجهة أو الجهات المالكة للجامعات والعاملون فيها؟ وكيف يمكن جدولة النتائج ووضع الإستنتااجات كي تتفاعل الإيجابيّات في الأهداف التربوية وتوسيع حقول المعرفة؟ وهل يمكن بناء آلية لإدخال أكثر من مقياس في هذه المسيرة؟
إنّ التعليم هو منظومة التزوّد بالعلم بكلّ فروعه الصرفة والإنسانية والطبيّة والهندسيّة وغيرها. اما نقل ومناقلة هذه المعلومات فيتم وفق آليّات وطرق تدريس ممنهجة في عدد سنوات دراسة جامعية وأحمال تدريسية ومتطلّبات تخريج الطلبة ومنح الشهادة الجامعية سواء كانت أوليّة أم عليا. وكذلك فإن التخطيط في تطوير المجتمع وترفيه عيشه المستديم والمزدهر وتوفير مستلزمات الرخاء له هي معطيات جوهرية تحدّد أسس وطبيعة وأعداد الطلبة المقبولين في الجامعات والكلّيات الحكوميّة والأهليّة ومناهج تدريسها ومواصفات ملاكاتها التدريسية العاملة.
ومن هنا جاءت مقاييس حاجة المجتمع وتقدّم الدول وإزدهارها بنسب أعداد المتخصصين في تقديم الخدمات المجتمعية المختلفة بمهنية وإحترافيّة عالية. فأفضل خدمات طبية تقاس بعدد المواطنين لكل طبيب معالج واحد. وكذلك فإنّ أحد معايير تقدم البلدان هو نسبة عدد المهندسين العاملين بشكل فعلي ومؤثر في التكنولوجيا والصناعة الوطنية الى عدد السكّان للبلد وهكذا. وهنا لابدّ أن نؤشّر تجربة السيد مهاتير محمّد المتميّزة في بناء الإقتصاد الماليزي قبل أكثر من ثلاثة عقود حيث جعل ماليزيا واحدة من النمور الإقتصادية السبعة في دول جنوب شرق آسيا.
لقد كانت الخطوات الأولى للسيد مهاتير محمّد هي بناء قاعدة علمية وتكنولوجيّة رصينة أوّلاً تستند عليها كلّ خطوات البناء اللاحقة وكان يؤمن بأنّه عن طريق هذه القاعدة العلمية سيدرك الشعب أهمية وحراجة النهوض بالإقتصاد ويدرك كلّ متخصص دوره في عملية البناء. وبتطوير القاعدة العلمية والتكنولوجية، إستطاعت مالزيا أن تنهي الكثير من عقود العمل مع الشركات الأجنبية وتوفير العملة الأجنبية وتسخيرها لبناء وتطوير مشاريع أخرى بزمن قياسي متسارع. كلّ ذلك جاء بفعل مؤسّسات التربية والتعليم وفق معايير مثلى تعطي ثمارها بعوامل تأثير متزايدة وانحرافات معيارية متناقصة عن المسارات القياسية المعتمدة عالميّاً. وفي هذا الإطار تتحدّد مقوّمات ومعايير منح الرتب التسلسلية للجامعات والكليّات في سلالم التميّز والإنجاز الحقيقي والحصول على لقب متقدّم في المنافسة العلمية وجودة التعليم ومستوى الخرّيجين في تحسين أطوار التفكير المهني التخصصي الشخصي لهم ثم توكيد دورهم الواضح في ترفيه الواقع الخدمي.
ومن بين الإحصائيّات المنشورة عن جودة التعليم والمناهج ومستوى التدريسيين ودورها في إرتقاء مستوى التفكير والإستيعاب ومستوى الذكاء وتأصيرها ورخاء المعيشة في أفضل عشر دول بدءاً من عاشراً هي:
(سويسرا- السويد -إيطاليا- هولندا – ألمانيا – النمسا – سنغافورة – تايوان – اليابان – كوريا الجنوبية )
لقد قيل وكُتب الكثير عن التعليم الجامعي الأهلي في العراق ما بعد عام 2003 وفي مستويات متعددة ومن قبل مختصّين أكفّاء مخلصين ولكن كتابة مايُضاف سوف لن يمحي بعضاً مما سلف لأنّه كما كنا نردّد دوماً بأنَّ المعلومة لمن يحتاجها ولابدّ أن تلقى من تعنيه وتؤثر وتتأثر عنده وربّما ترضيه أو لاترضيه. وعليه نقول، هل أشّرت الجهات العاملة والتي يهمّها فعلاً تطوير هذا القطّاع من ملاحظات بما قرأه وسمعه المعنيّون في إدارة ومسيرة التعليم الأهلي ؟ وما هي؟ يمكن أن يعطي هذا المقال توصيفاً ووصفة مقنّنة حادةً وجادّةً أو يلخّص جدولاً ناعماً وشفافاً لمقاربات ولو بعوامل متباعدة مستخلصة من محتويات بعض فصول التعليم الأهلي بتخصصاته الممتدة عبر العلوم الإنسانية والطبية والهندسية. والهدف هو بالطبع تحقيق ألفةٍ شفّافة بين هطوات الإرتقاء به.
إنّ العامل الأساسي الواجب إعتباره في إستحداث وإستمرار التعليم في الجامعات والكليّات الأهليّة هو وضوح الأهداف المتحققة عمليّاً وليس على الورق في المنتج وهو الخرّيج وإرضاء الجهة المستفيدة منه وهي حقل العمل وتطوير نوعية أدائها به. فالجامعات بنظر المتخصصين هي مؤسسات منتجة لعناصر تطوير المجتمعات عن طريق مهامّها الفعلية الواسعة لأنّها بوّابة الدخول الى عالم متطور ومطوِّر وهي أدوات حجر الزاوية في بناء وتنامي إفتصاد مترفّه متين وهي أيضاً المساهم الحيوي في إنشاء مؤسسات صحيّة كفوءة ومعالجة المرضى والنهوض بالجانب الصحّي وأستدامة بيئة نظيفة والجامعة مسؤولة عن تدريب وتعليم الأ جيال المجتمعية القادمة بالإضافة الى إنتاج أنماط جديدة من المعرفة وتخريج المفكّرين وأصحاب مايسمّى بالعقول الناطقة. ومن أولويّات أهداف الجامعات هو تعليم طلبة الدراسات الأوّلية وجعلهم يدركون بإقرار ماهيّة المؤثرات والعوامل الداخلة في حركة المجتمع الذي يعيشون به بغية تطوّره. عديدة هي المقاربات ويمكن بالمقابل إعتماد فاعلية الإحصائيات وعوامل تأثيرها وديمومة تفاعل المدخلات والمخرجات وتحليلها بشكل دوري حتى نتجنّب تقويض أهداف العمليّة التعليميّة في بيئتها وحقول عملها وكذلك تجنّب مقايضة موضوعية تتشابك فيها عناوين متعددة سطحية كانت أم عميقة نسبيّاً. وهنا لابدّ أن تسود البيئة الألفة والمودّة وإدراك الأهداف وآليّات تحقيقها كلّ حسب وصفه الوظيفي وصلاحيّزته في هذه المؤسسات وكما ينفّذ بالجامعات والكليّات الحكومية. وبعد إستعراض هذا العدد من المتغيّرات والمعايير والعوامل، فإنّه يستوجب تقريب المقاربات المعنية بالمنهجية وجودة المنتج الأكاديمي والإضافة النوعية في جوانب خدمية مجتمعية مختلفة. ربّما تكون المؤشّرات المدرجة في أدناه عواملاً مساعدةً لإستيعاب بعض خطوات التحسين والترصين في مسيرة التعليم الجامعي الأهلي أو تشديد فاعليّتها وفق خطوات علميّة مهنيّة مدبّبة:
1- وضع شرط وجود نسبة خضراء من مساحة أي موقع تابع الى الكلّة عند الإستحداث لتوفير بيئة مناخية نظيفة. فالجامعات والكليّات في البلدان المتقدّمة نراها تضع مساحات خضراء(طبقات من الثيّا) حتى فوق سطوح البنايات.
2- وجوب مراجعة فصليّة أو سنويّة لآليّات العمل في الكليّة إو الجامعة الأهلية من أجل تقديم شيء متطوّر جديد واحد في الأقل سواء بنسبة مسموحبها في مفردات المناهج التدريسية والمختبرات لمواكبة التطوّر المتنامي والمتسارع في العلوم والتكنولوجيا.
3- تعيين متخصّص ومتمرّس كفوء بموضوع بحوث العمليات لتحديد وتصويب خطوات التغيير والتطوير في المؤسسة التعليمية وفق طريقة المسار الحرج المستخدمة في المشاريع. كذلك ضرورة شيوع التثقيف العام بواضيع علم النفس التربوي والصناعي.
4- إجراء تحديث لأجهزة قياس ومعدّات المختبرات وضرورة وجود ورشة( ولو بسيطة ) بتسهيلاتها المألوفة لأنّها تنشر المعرفة العلمية التكنولوجية وتعمّقها بالنسبة للإختصاصات الهندسية. وهنا يجب التأكيد على أن يكون منشأ هذه الأجهزة(أو بعضها) من شركات رصينة معروفة لكلّ جهاز ومألوفة لدى المختصّين.
5- إختيار أصحاب الخبرة للتدريس بدءاً بألقاب علمية متقدّمة وممّن لهم باع وسنوات عديدة في الخدمة الجامعية لإختصاصات أقسام كل كليّة سويمكن أن يكونوا في نفس الوقت مدرّبين لعناصر تدريس شابة لتحقيق تواصل الأجيال. وهنا نذكر بأنّ التعليم بدون صقل شخصية المعلّم يعني لاشيء مطلقاً كما يقول المهاتما غاندي.
6- وجوب وضوح معايير التنافس بين الكليّات الأهلية وتحديث الآليّات في تقليص المراسلات والإستمارات بهذا الخصوص وقيام الجهة الرسميّة المسؤولة بمراجعة مايردها فوراً وإتخاذ الإجراء الذي من شأنه نقل الحالة الى الأفضل عن طريق الإستعانة ببخبراء أكاديميين وباحثين علميين متخصصين متطوّعين للعمل دون مقابل.
7- مسيرة التعليم الأهلي في مرمى التحليل والنقد والوصف والمتابعة منذ سنوات. والمطلوب دوماً تشخيص عوامل ونسب التغيير الإيجابي المنعكسة في المجتمع وتعميقها وإبعاد المسارات المؤدية الى عكس ذلك. فأين وكم هي هذه النسب بالشكل التصاعدي على مر السنين؟
وبعرفة ذلك يمكن تحديد أهلّية المؤسسةالتعليميّة ونتائجها العمليّة الخدميّة.
8- السماح لأساتذة الخبرة من المتقاعدين بالسن القانوني أو غير ذلك من المقيمين في داخل العراق وخارجه للإشراف على طلبة الدراسات العليا في الجامعات الحكوميّة مثلما في الأهليّة على حدّ سواء وببحوث تطبيقية حقيقية تعكس حاجة المجتمع العراقي الملحّة بمثل ماكان معمولاً به قبل عام 2003 ضمن آلية التنسيق والتعاون بين الجامعة ومؤسسات الدولة.
9- تعميق وتوسيع الفهم العملي والترويج لهدف الحصول على خبرات معرفيّة وتقانات فعّالة أثناء سنين الدراسة أضافة الى الشهادة الجامعية. وهذه تأتي عن طريق التأثر الإيجابي بخبرات وشخصية الأساتذة وليس مناهج التدريس فقط. فالكليّات جميعها تمنح شهادة جامعية أوليّة ولكن معرفة المتخرّجين ليس بالضرورة نفسها.
10- ضرورة أن تكون البحوث المنشورة المقدّمة للترقيات العلمية في الجامعات والكليّات الأهليّة قد أنجزت في خطّة علمية للجامعة أو الكليَة الأهليّة نفسها وليس أسماء تضاف الى منشورات علمية بحوثها منجزة في أماكن أخرى لتجنّب المجاملات وعوامل مؤثّرة أخرى. وهذا سيطوّر مختبر البحث العلمي في الكليّة وتوسيع وتوطين إنجازها العلمي في خدمة البيئة المناطقية المحيطة وكذلك لتحقيق مرتبة متقدّمة في المنافسات العلمية
سطور الختام:
..يقال أنّ والدة الإسكندر كانت تدعو له بأن يكون له حظّاً يستخدم به أصحاب العقول..ولا يكون له عقلاً يستخدمه به أصحاب الحظوظ..!!
ويقول ألبرت آينشتاين :
(..تحتاج الى البراعة لتتكلّم، وتحتاج إلى الذكاء لتصغي.. )