التجربة البرلمانية المغربية السادسة.. رصد وتحليل 5-5

التجربة البرلمانية المغربية السادسة.. رصد وتحليل   5-5

لجان تقصي حقائق لتعزيز دور الرقابة على الحكومة

محمود صالح الكروي

أستاذ العلوم السياسية /جامعة بغداد

المقدمة

تبقى التجربة البرلمانية في المغرب مثار اهتمام السياسيين والباحثين الأكاديميين والعاملين في مجالات الإعلام والصحافة ومراكز البحوث ، نظرا لما تتميز به من سمات جديرة بالدراسة والبحث والتقصي في مقدمتها الاستمرارية التاريخية لهذه التجربة وتطورها على مدى مايقارب خمسة عقود من الزمن ،على رغم من بعض التوقفات التي عرفتها وما سجل عليها من ملاحظات .

من خلال تحليل معطيات الجدول اعلاه، تتضح، النسبة العالية للاسئلة الكتابية والشفوية في اداء الممارسة البرلمانية للتجربة السادسة، وقد أتسمت بعض هذه الأسئلة بالتكرار لكون أغلبها ذات طبيعة إدارية أو تقنية  وليست قضايا سياسية مباشرة (94)، فضلا عن ان هذه الاسئلة وتحديدا الشفوية   استطاعت ان تحقق نوعا من الحوار والتفاعل الايجابي بين البرلمان والحكومة، ومثلت مناسبة من خلال التغطية الاعلامية لإستعراض النشاط الحكومي في مختلف المجالات وابراز الجهود المبذولة، وبالمقابل فضح السياسات الخاطئة للحكومة، حتى أصبحت الاسئلة الشفوية ترتبط في ذهن الكثيرين بأنها الوظيفة الاساسية للبرلمان وليس التشريع .ومع كل ذلك تبقى الأسئلة بنوعيها مؤشر ايجابيا وان لم يرتق الى  إثارة القضايا التي تستأثر بأهتمام الرأي العام الوطني والى ماهو عليه في النظم الديمقراطية المتقدمة، لكن تبقى هذه الألية من المراقبة لاتخلو من فائدة على قاعدة ان الحارس موجود على اقل تقدير، فضلا عن تأكيد أهمية السؤال كآلية في الرقابة البرلمانية للعمل الحكومي .

ب-  لجان تقصي الحقائق

تعد لجان تقصي الحقائق أحدى الوسائل المهمة في الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة، وبموجب هذه الوسيلة يستطيع البرلمان بنفسه ان يتحقق من أية مخالفة للقوانين أو سوء تصرف اداري أو فضيحة مالية أو سياسية .(95)

وخلافا لفرنسا، التي حصر المشرع فيهاحق تشكيل لجان تقصي الحقائق في النواب والشيوخ فقط دون رئيس الجمهورية. فإن الدستور المغربي  حرص على جعل إختصاص تكوين لجان تقصي الحقائق، مقتسما بين الملك الذي يتمتع بسلطة تقديرية في تشكيلها والبرلمان الملزم بإحترام النصاب القانوني المحدد في أعضاء أي من المجلسين .

وقد تضمن الفصل 42 من دستورالمملكة المغربية لسنة  1996 النص على: (تشكل بمبادرة من الملك أو بطلب من أغلبية أعضاء أي من المجلسين لجان نيابية لتقصي الحقائق يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة واطلاع المجلس الذي شكلها على النتائج التي تنتهي اليها أعمالها، ولايجوز تكوين لجان لتقصي الحقائق في وقائع تكون موضوع متابعات قضائية مادامت هذه المتابعات جارية، وتنتهي مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق سبق تكوينها فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي أقتضت تشكيلها . كما جاء في النص ان (لجان تقصي الحقائق مؤقتة بطبيعتها وتنتهي مهمتها بأيداع تقريرها). (96)

وفي ظل دستور 1996 شهدت التجربة البرلمانية السادسة تشكيل لجنتين لتقصي الحقائق هما:

1- لجنة تقصي الحقائق حول مؤسسة القرض العقاري والسياحي على ضوء التصريح الذي أدلى به (فتح الله ولعلو) وزير الاقتصاد والمالية والسياحة في 24 / مايس / 2000 أمام مجلس النواب، اذ أشار الى (وجود عدة إختلالات تعتري مالية مؤسسة القرض العقاري والسياحي) (97). وبعد خمسة ايام على هذا التصريح (29 / مايس / 2000) شكل مجلس النواب بناءً على طلب فرق الاغلبية  لجنة تقصي الحقائق حول هذه المؤسسة وتكونت اللجنة من 24 عضوا ينتمون لمختلف الفرق النيابية برئاسة إدريس لشكر رئيس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب (98) .وبهذا تكون الأغلبية البرلمانية ولأول مرة صاحبة المبادرة في تشكيل لجنة تقصي الحقائق، اذ المألوف ان تأتي المبادرة من أحزاب المعارضة لأنها هي التي تتولى مسؤولية  المراقبة على العمل الحكومي.

وبعد مدة تقصي وبحث وتحقيق أستمرت ستة أشهر تمكنت اللجنة من انجاز تقريرها الذي تضمن ثلاثة أبواب هي: (99)

1- وضعية القرض العقاري والسياحي.

2- الاختلاسات وضعف المراقبة وسوء التدبير.

3- التجاوزات التي عرفتها عملية القرض.

بعد ذلك قامت اللجنة بتقديم تقريرها الى مجلس النواب، وقد خصص المجلس جلسة علنية في 19 كانون الثاني – يناير 2001 لمناقشة التقرير الذي انجزته اللجنة المذكورة وبحضور وسائل الاعلام الوطنية (100) . وقد رصد هذا التقرير العديد من التجاوزات المالية والادارية (كأختلاس الاموال، وخيانة الامانة، وتوزيع ارباح وهمية على المساهمين، وتنظيم غير فاعل، وحسابات غير مضبوطة، والتزوير في مضمون محررات بنكية) (101)، وان من بين المتورطين في فساد القرض العقاري والسياحي شخصيات سياسية ونقابية ورجال أعمال (102)، وكان رد الفعل ان واجهت هذه اللجنة صعوبات منها عدم تقديم بعض الوثائق لها من قبل المسؤولين عن هذه المؤسسة ورفض بعض المسؤولين الكبار الأدلاء بشهاداتهم أمام هذه اللجنة (103).

وعلى رغم ذلك مارست هذه اللجنة دورها المسؤول في تقصي الحقائق والتحديد الدقيق للمسؤولين عن ذلك وتقديم تقريرها معززا بالتوصيات، وأظهر التقرير بجلاء الدور الذي يمكن ان تلعبه المؤسسة البرلمانية في تنوير الرأي العام حول حماية المال العام والحفاظ على المصالح العليا للوطن . وبعد مناقشة التقرير عرض للتصويت وتمت المصادقة عليه بالاجماع، بعد ذلك اودعت اللجنة تقريرها لمجلس النواب، وأثر ذلك أحال الوزير الاول القضية على انظار القضاء (104) .وإستنادا للفصل الثاني والأربعين من دستور 1996 تعد (لجان تقصي الحقائق مؤقتة، وتنتهي مهمتها بأيداع تقريرها وفور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي أقتضت تشكيلها) (105) . .

وقد أسهمت مناقشات هذه اللجنة في تحقيق أمرين هما : (106)

أ- تنوير الرأي العام الوطني والمجتمع المدني وأطلاعه على الحقائق وأعلامه بمجريات    التجاوزات المالية والادارية في سياق تأكيد أضطلاع البرلمان بالوظيفة الرقابية على أعمال   الحكومة.

ب- بلورة ارادة سياسية في تفعيل وتطبيق القانون لمحاسبة وادانة المسؤولين عن هدر المال العام.

2- لجنة تقصي الحقائق حول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وقد أنبثقت هذه اللجنة من طرف مجلس المستشارين في تشرين الثاني – نوفمبر 2000 (107)، وقد قامت اللجنة بدور مهم في التقصي وجمع المعلومات والتحقيق بشأن العديد من  التجاوزات الادارية والمالية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبعد انجاز مهمتها قدمت اللجنة تقريرها لمجلس المستشارين معززا بالتوصيات، وقد خصص المجلس جلسة للمناقشة وبعد ذلك عرض للتصويت وتمت المصادقة عليه بالاجماع ، بعدها أحيل تقرير اللجنة الى القضاء (108). وبذلك انتهت مهمة اللجنة.

والجدير بالذكر، أنه لأول مرة في تاريخ المغرب النيابي  يصل تقريرا لجان تقصي الحقائق الى القضاء . الا ان القضاء لم يحسم موضوعهما، ولم يحدث شيء فيما بعد رغم حجم الاختلاسات التي تم الكشف عنها (109). وهذا يتطلب من الاحزاب السياسية الفاعلة مطالبة البرلمان على تحريك المتابعات القضائية بهذا الشأن، لأن الأمر يتعلق بالمال العام وبنهب وعبث وجرائم مالية، لايمكن التسترعنها،وكي يكون ذلك رادعا لمن تسول له نفسه التجاوز على المال العام مستقبلا.

وعلى صعيد وظائف أخرى أسهم البرلمان المغربي في:

1- إقدام مجلس النواب على اتخاذ قرار هو الاول من نوعه برفع الحصانة البرلمانية عن احد اعضائه، فيما عجز مجلس المستشارين عن اتخاذ قرار مماثل رغم توصله بطلبات في الموضوع (110).

2- تأسيس فريق الدبلوماسية البرلمانية بهدف الدفاع عن القضايا المصيرية للبلاد، وكان له نشاط دبلوماسي واسع في ربط العلاقات مع الاتحاد البرلماني الدولي والعربي، وتجلى ذلك في العدد الكبير وغير المسبوق للوفود البرلمانية الاجنبية والعربية التي زارت المغرب وأعربت عن رغبتها في التعاون، فضلا عن مشاركة فريق الدبلوماسية البرلمانية المغربي في المؤتمر (107) للاتحاد البرلماني الدولي وبإحتضانه في مدينة مراكش في كانون الثاني/ يناير 2001، الذي عرف بمستوى نوعية وحجم الوفود المشاركة والقرارات التي خلص اليها وفي المقدمة منها دعم حقوق الشعب الفلسطيني.

وعلى رغم ذلك، فقد طبعت التجربة البرلمانية السادسة ببروز ظاهرتين كان لهما انعكاس سلبي على واقع الاداء البرلماني هما:

1-       استمرار ظاهرة غياب النواب عن حضور الجلسات البرلمانية، والذي زاد في كشفها التغطية التلفازية المستمرة لجلسات البرلمان . مما أعطى انطباعا سلبيا لدى المواطنين الذين أصيبوا بالاحباط وفقدان الثقة فيمن انتخبوهم وفي عمل المؤسسة البرلمانية (111).

2- ظاهرة انتقال النواب من فريق الى اخر – والتي عرفت في المغرب بظاهرة الترحال – واصبحت سمة لازمة للتجربة البرلمانية السادسة، اي ذلك السلوك الذي يجعل النائب ينتقل من فريق الى آخر دون مراعاة الالتزامات الفكرية والتنظيمية التي تربطه بالحزب او الهيئة التي رشحته ودعمته للفوز بهذا الموقع . وقد استفحلت هذه الظاهرة في المشهد البرلماني المغربي، اذا سجلت 121 حركة انتقال للنواب من فريق الى اخر خلال التجربة البرلمانية السادسة وهو مايعادل ثلث اعضاء مجلس النواب البالغ عددهم (325) عضوا، مما يفيد أن 38 بالمئة من النواب غيروا انتماءاتهم من فريق الى آخر، الأمر الذي يضر بالاداء البرلماني ويحد من فاعليته (112)، فضلا عن انها أثرت سلبا على استقرار أجهزة مجلس النواب.

الخاتمة

شكلت التجربة البرلمانية السادسة، والتي توجت بتجربة التناوب التوافقي على السلطة حدثا سياسيا بارزا في تاريخ المغرب السياسي المعاصر، لما أحدثته من تحول سياسي جديد في الحياة السياسية المغربية، هذ التحول أكتنفه العديد من الملاحظات الايجابية والسلبية التي أشرت في سياق البحث. كانت محصلتها الآتي:

1- قبول احزاب المعارضة في المغرب المشاركة في الحكم وفي صنع القرار من خلال صيغة توافقية لجأ اليها الفاعلون السياسيون، عرفت بالتناوب التوافقي، والتي جاءت كنمط للعلاقات السياسية خارج الوثيقة الدستورية، لان الدستور المغربي لسنة 1996، لم يشير الى التناوب كآلية تتحدد على اساسها الادوار السياسية، لذلك فالمشاركة لم تمس ثوابت السلطة على رغم مما جاء في دستور 1996 من تعديلات، أذ بقي الدستور يكرس التوزيع غير المتكافئ للسلطات لفائدة المؤسسة الملكية المهيمنة على القرار السياسي، في الوقت الذي لاتتوفرالحكومة والبرلمان على السلطة الكافية من أجل القيام  بمسؤوليتهما.

2- تمكن النظام السياسي المغربي من تقوية مرتكزات مشروعيته من دون أن يقضي على احزاب المعارضة، وهذا السلوك السياسي يحسب له، وقد تمثل ذلك بقبول الاحزاب السياسية المغربية بأقتناع، بما فيها احزاب المعارضة بمركزية المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، وانفراد الملك بالسلطة الدينية في المملكة.

3- تفعيل وتحريك دور الأحزاب السياسية التي استمرت اكثر من ثلاثة عقود في مواقع محددة (موالية أو معارضة) داخل المؤسسات وخارجها الى أخذ مواقع وأدوارووظائف جديدة في الحياة السياسية.

4- مشاركة الحركة الاسلامية المعتدلة في الانتخابات التشريعية – ممثلة بحزب العدالة والتنمية- ودخولها البرلمان لأول مرة في تاريخ المغرب السياسي المعاصر، قد اكسبها موقع ضمن علاقة القوة واتاح لها فرصة العمل الميداني والممارسة السياسية، وقد اسهم ذلك في التحصين الاجتماعي والاستقرار السياسي للمغرب.

5- أسست التجربة البرلمانية السادسة من خلال حكومة التناوب التوافقي لقواعد لعبة سياسية بإتجاه تحقيق الانتقال الديمقراطي، واخذت مصادرها من الديمقراطية والاقتراع العام للتناوب على السلطة الحكومية، ويبقى الملك هو الفاعل الرئيس الذي يمسك قواعد اللعبة واصدار القرار.

6- غياب المعارضة الحقيقية بعد قبول أحزاب المعارضة المشاركة في الحكم، وبذلك اصبحت مهمة الاحزاب السياسية جعل المواطنين يقبلون ببرامج النظام ومقارباته المطروحة .

7- الاسهام الفاعل في تحقيق إنتقال سلس للحكم بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني الى الملك محمد السادس في 23 / 7 / 1999.

8- ان العملية الانتخابية للتجربة البرلمانية السادسة  مع ما سجل عليها من مآخذ، قد أسفرت عن وجود كتل برلمانية متوازنة، ولم يكن هناك حزب واحد مسيطر على البرلمان بغرفتيه.

9- ان الإنجاز التشريعي والرقابي للتجربة البرلمانية السادسة (حكومة وبرلماناً) كان أيجابيا على على رغم مما سجل من ملاحظات على الاداء البرلماني في ثنايا البحث، الا ان المؤشرالأبرز عليها هو ضعف المبادرة التشريعية من البرلمانيين وهيمنة السلطة التنفيذية.

10- النجاح في الاشراف على الانتخابات التشريعية في  27/ايلول – سبتمبر / 2002، والتي تميزت بالشفافية .

وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول، ان التجربة البرلمانية السادسة، ومن خلال تجربة التناوب التوافقي على السلطة: قد نشطت العمل السياسي في المغرب، وأسهمت في تحقيق الاستقرار السياسي، وفي تثبيت أسس لمرتكزات البناء الديمقراطي من خلال التأسيس لملامح مستقبل ظل مؤجلا طيلة اكثر من 40 عاما . وبذلك فانها أسست لمرحلة جديدة n حتى وان لم تحقق برنامجها n من شأنها ان تتطور وتنضج وتصبح آلية لتداول السلطة الحكومية، وان يرتبط ذلك بصناديق الاقتراع . وانطلاقا من هذا الفهم، فإن الاصلاح السياسي والدستوري يبقى مطلبا شعبيا وحزبيا يتطلب النضال من أجل  تحقيق توزيع عادل  للسلطات، وذلك بمنح الحكومة والبرلمان سلطات أوسع  لتكريس وتعزيز هذه الممارسة (تداول السلطة الحكومية) ووضعها على اسس قوية تضمن لها الاستمرار لتحقيق الانتقال الديمقراطي في المغرب.

مشاركة