التفسير البنائي في فكر محمود البستاني
البيئة الآخروية تنهي الصراع – نصوص – نهضة صاحب هاشم الشريفي
انتهج جمع من المفسرين في العصر الحديث منهجا جديدا في التفسير الأدبي يستند الى استجلاء الوحدة الموضوعية والوشائج العضوية التي تربط الآيات والسور القرآنية, وقد بدأت بذور هذا الاتجاه تظهر في تفسير محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد مصطفى المراغي, بيد أن جهودهم في هذا الصدد لم تتعدّ الإشارات واللمحات العابرة .
أما الولادة الحقيقية للتفسير الأدبي الحديث, وتبلور أصوله النظرية, وتطبيقها في تجارب تفسيرية, فقد ظهرت على يد أمين الخولي وتلامذته, حيث أصّل الخولي بعض المرتكزات المنهجية لهذا الاتجاه في بحث له في (دائرة المعارف الإسلامية) , وتمثلت تلميذته بنت الشاطئ شيئا من هذه المرتكزات في كتابها (التفسير البياني للقرآن الكريم) .
وهناك تجربة رائدة في التفسير سبقت محاولة بنت الشاطئ بما يزيد على ربع قرن ظهرت للمرة الأولى في محاضرات الشيخ محمد عبد الله دراز في كلية أصول الدين في الجامع الأزهر في أوائل العقد الرابع من القرن العشرين , قدم فيها دراز أسلوبا آخر في التفسير لا يتطابق وأسلوب الخولي وإن كان يتفق معه في السعي لاكتشاف الوحدة الموضوعية والنسيج العضوي في الآيات , فقد كان اهتمام الخولي معالجة موضوع قرآني معين وصياغة موقف القرآن إزائه , بينما نجد دراز يفتش عن الترابط العضوي في السورة ذاتها .
وبعد ما يزيد على نصف قرن طبّق منهج دراز في التفسير الشيخ محمد الغزالي في كتابه (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم) الذي اهتم فيه بدراسة الوحدة الموضوعية في كل سورة , وحاول أن يكشف الأواصر بين مستهل السورة ووسطها وختامها , ويوضح ما خفي من دلالات مشتركة وراء المدلول الخاص للآيات .
وقد كان لسيد قطب دور رائد في انتهاج أسلوب متميز في التفسير الأدبي افتتح فيه حقلا آخر يعالج وحدة التصوير والتعبير في نصوص القرآن الكريم.
ومن الجهود الحديثة المتميزة في هذا اللون من التفسير آثار العلاّمة الدكتور محمود عبد الحسين البستاني الذي ألّف كتابه (التفسير البنائي للقرآن الكريم) وضمنه أنموذجا تطبيقيا للتفسير البياني والأدبي الذي يصطلح عليه هو: التفسير البنائي أو العضوي وعمارة السورة القرآنية , وأكمله في خمسة مجلدات, مستخلصا الرؤى الأولية للأصول النظرية لهذا التفسير . وقد أطلق على هذا النمط من الدراسة بـ (التفسير البنائي) بصفة أنه يتناول بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث كونها هيكلاً عضوياً يتماثل في وظيفته مع العمارة الخاضعة لهندسة خاصة في تواشج مقاطعه بعضها مع الآخر . ويمكن تلخيص جملة من مسوغات التفسير البنائي كما يراها المفسر، منها:
ان الدراسات القرآنية الموروثة قد اقتصرت على التفسير الترتيبي أو التجزيئي، أي ان دراسة الآيات القرآنية الكريمة كانت منعزلة عن الهيكل الهندسي العام للسورة ، والأمر نفسه بالنسبة إلى غالبية الدراسات الحديثة، عدا البعض النادر منها، حيث نلحظ اقتصارها على بعض سور القرآن الكريم دون التوفر على السور جميعاً، أو دراسة المناخ العام للسورة، وهي تختلف بطبيعة الحال عن دراسة البناء العضوي لها، لان المناخ العام للسورة ينحصر في تبيين المحور أو المحاور الفكرية التي تتناولها السورة، أما البناء العضوي فيتناول الصلة العضوية بين المحاور المذكورة، أي الرابطة (السببية) بين عناصر السورة جميعاً، سواء أكانت موضوعاً واحداً ذا جزئيات أو موضوعات مختلفة، أو عناصر ثانوية أو غيرها .
ومنها : إن ثمة دراسات أخرى هي التفسير الموضوعي، حيث يقتصر هذا النمط من الدراسة على المحور الدلالي الخاص بهذا الموضوع أو ذاك، من خلال اقتناصه من النصوص القرآنية بنحو عام، وهو بدوره يدرس الظاهرة منعزلة عن استقلالية الهيكل العام للسورة القرآنية . وهذا يعني: إن دراسة البناء العضوي للسورة تظل غائبة عن الساحة التفسيرية، وهذا ما شكّل للمفسر مسوغاً للتوفر على التفسير البنائي .
في الواقع ان هذه الرؤية التي قدمها الدكتور البستاني بوصفها منهجا للتعامل مع النصّ القُرآني استنادا إلى مفهوم ( البناء ) القُرآني ، سبق أن قدّم خطوطها القدامى ـــ من مفسرين وغيرهم ـــ فيما سمّوه بـ (المناسبة أو علم التناسب ) وليست غائبة عن الساحة التفسيرية بالكامل , ولعل نظرة سريعة في تراثهم لمفهوم ( البناء) و(المناسبة ) تُظهر هذا بوضوح , من ذلك ما ذكره الزركشي والسيوطي :
يقول الزركشي: “… جعل أجزاء الكلام آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حالة البناء المحكم المتلائم الأجزاء” , ويقول : ” الذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جمّ وهكذا في السورة يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له ” .
ويقول السيوطي : ” علم التناسب أفرده بالتأليف العلامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيّان في كتاب سماه (البرهان في مناسبة ترتيب سور القُرآن) ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين ألبقاعي في كتاب سماه (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) وكتابي الذي صنعته في أسرار التنزيل ، كافل بذلك ، جامع لمناسبات السور والآيات ، مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة ، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف ، سميته (تناســـــــق الدرر في تناسب السور) “.
رصد جهد
وهناك من الباحثين المعاصرين من وجه اهتمامه إلى رصد جهد المفسرين القدامى وغيرهم في هذا الجانب تتمثل في محاولة (محمد خطابي) لدراسة ظاهرة الاتساق والانسجام في النصوص الأدبيّة ، ومنها النصّ القُرآني .
إلاّ أننا يمكننا القول باطمئنان أن الدكتور محمود البستاني من العلماء المؤسسين والمنظرين للمدرسة البنائية الجديدة , فقد قدّمها بحلتها العصرية ونظرتها الشمولية وتطبيقاتها الكلية الدقيقة والمتقنة والتي تفترق عما سبقها من متبنيات سواءً في البعد التنظيري لها أو التطبيقي.
هذا فضلا عن مساهماته الرائدة في مجالات أخرى , كالأدب والتربية والاجتماع والسيرة والتاريخ , على ضوء المبادىء الإسلامية والمنهج القرآني , وهو بحق موسوعة جامعة لجلّ العلوم الإسلامية, وحتى غير الإسلامية ذات الطابع النفسي والأدبي والتاريخي والنقدي , والتي يصبّها ضمن بوتقة الرؤية الإسلامية . ان الدكتور البستاني من العلماء المعاصرين الذين تبنوا مشروع (أسلمة المعرفة) أي إعادة صياغة نظم المعرفة في ضوء منظور أسلامي، ولعل عدة مؤلفات من كتاباته توضح تبنيه هذه الرؤية , منها :
ـ التفسير البنائي للقرآن الكريم . – الإسلام وعلم النفس .
– الإسلام وعلم الاجتماع . _ قصص القرآن دلاليا وجماليا .
_ الإسلام والأدب . _ علوم القرآن .
– النقد الأدبي في العراق . _ الإسلام والفن .
– في النظرية النقدية . – أدب أهل البيت .
– دراسات فنية في التعبير القرآني. – دراسات فنية في القصص القرآني.
– المناهج النقدية في نقد المعاصرين.
– تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي.
ويعدّ كتاب (التفسير البنائي للقرآن الكريم) من أهم مؤلفاته في مجال تفسير القرآن الكريم, وهو قراءة في سور القرآن الكريم من أوّلها إلى آخرها، عُني مؤلفه فيه بالتعرّف على بناء هيكل السورة الواحدة، من خلال ما بين أجزاء السورة من ترابط ظاهر أو خفيّ، وما بين مقاطعها من تواشج وانسجام تشكّل معه السورة وحدة متكاملة من الوجهة الفنيّة والمعنويّة .
والواقع أنّ هذا النمط من التأليف قائم على رؤية تستلهم الفن والدلالة معاً، من أجل رسم هندسة السورة وعمارتها بنائياً, ممّا يضفي على الكتاب سمة تركيبيّة تستند إلى رؤية الوحدة من خلال الكثرة، والتوصّل إلى التوحّد عبر حالات التنوّع في المضامين .
وقد أكد العلاّمة على ضرورة الاهتمام بخصوصية ترتيب الآيات بالشكل الذي عليه في المصحف الشريف, ” فعندما تنتظم مجموعة من الآيات في سورة خاصة فلابدّ حينئذٍ من أن تكون لهذه الآيات المجتمعة في سورة دون غيرها من الآيات خصوصية من حيث تناسب بعضها مع الآخر، وإلاّ لم تكن هناك ضرورة بأن يأمر النبيّ كتّاب الوحي بأن يضعوا هذه الآية أو تلك في السورة الفلانية أو بجانب الآية الفلانية، كل ذلك يعني أن وضع الآيات في سورة خاصة وتحديد مكان الآية من السورة أو الآيات الأخرى أن السورة هي هيكل أو بناء قد خُطِطَ له بدقةٍ وإتقان، وإن لهذا التخطيط فلسفته أو نكاته الفكرية”
أساليب التفسير البنائي:
إن تناول السورة القرآنية من حيث عمارتها يتمّ وفق أسلوبين في مدرسة العلامة البستاني:
أحدهما : الوقوف عند السمات الفكرية أو الموضوعية التي تربط الآيات بعضها مع الآخر .
والأخرى: الوقوف عند السمات الفنية, وهنا يتم تفعيل جملة من الملاحظات, منها:
- ملاحظة مجموع السورة من حيث بدايتها ووسطها ونهايتها .
- ملاحظة علاقة كل آية بما سبقها ولحقها من الآيات .
- ملاحظة العناصر القصصية واللفظية والصورية والإيقاعية وغيرها من العناصر التي تنتظم النصوص الأدبية وتميّزها عن النص العلمي الصرف, ملاحظة هذه العناصر ومدى إسهامها في عملية الربط بين أجزاء السورة .
- ملاحظة كيفية توظيف هذه العناصر من أجل إنارة الفكرة التي يتضمنها النص. من خلال ما تقدم نجد ان المفسر قد اهتم بالسمات الفكرية إلى جانب السمات الفنية ، حيث لا ينفصل أحدها عن الآخر، في محاولة لإظهار الوحدة العامة التي تحكم السورة الكريمة، فكان ينظر إلى هذه الوحدة من زوايا متنوعة، منها:
أولا: من حيث الموضوعات والأهداف
إن السورة الكريمة تتخذ أحد الأبنية الآتية من حيث علاقة موضوعاتها بالأفكــــار المطروحة فيها :
- وحدة الفكرة ووحدة الموضوع : مثل سورة (الكافرون) التي تتضمن فكرة واحدة وهي ان لكل شخص حريته في العقيدة, وتتضمن موضوعا واحدا هو علاقة المؤمنين بالكفار, وهي علاقة سلبية .
- وحدة الفكرة وتعدد الموضوع : فقد جاءت في سورة (الكهف) موضوعات متنوعة كعرضها لحياة أهل الكهف, وذي القرنين, وصاحب الجنتين, وموسى, وغيرها من الموضوعات, إلاّ ان الهدف الذي تريد إيصاله للمتلقي هو الفكرة الذاهبة الى نبذ زينة الحياة الدنيا .
- وحدة الموضوع وتعدد الفكرة : كما في سورة (يوسف) حيث تناولت حياته الشريفة ولكنها عرضت أهدافا وأفكارا متعددة مثل: الصبر, العفة, الغيرة, والحسد .
- تعدد الفكرة وتعدد الموضوع : وذلك في سورة (الماعون) فقد تضمنت موضوع المكذب بالدين, وموضوع الساهي عن الصلاة, وتبعا لذلك فهي تحمل أكثر من فكرة, فالمكذب بالدين كافر, أما الساهي عن الصلاة فهو فاسق .
ثانيا: من حيث الأشكال البنائية
تتخذ السورة المباركة إحدى الأبنية الآتية :
- البناء الأفقي: وهو أن تبدأ السورة بموضوع معين وتختم بالموضوع ذاته عبر سلسلة من الموضوعات المتنوعة, نحو ما جاء في سورة (الواقعة) فقد بدأت بتمهيد الواقعة الأخروية عبر تقسيمها الناس على فئات ثلاث: أصحاب الميمنة, أصحاب المشأمة , والسابقون , ثم تحدثت بالتفصيل عن الفئات الثلاث , وفي النهاية ختمت النص بالعودة الى البداية وعرض خلاصة عن الفئــــات الثلاث .
- البناء الطولي: وهو أن تبدأ السورة بموضوع معين وتتدرج في عرضه، حتى تنتهي الى خاتمته وفق رحلة متسلسلة بحيث يُختم الموضوع مع نهاية السورة مثل سورة (نوح) التي بدأت بإرسال نوح الى قومه إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ… ثم إنذارهم أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وانتهت بالإغراق مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً… .
- البناء المقطعي: وهو أن ينتقل النص بين جملة محطات بادئا كل واحدة منها بموضوع ينتهي بالمحطة ذاتها, بمعنى أن السورة المباركة تطرح جملة من الموضوعات وتقف عند كل موضوع بفقرة متكررة تكون بمثابة محطة أو رابطة بين الموضوعات, مثل سورة (المرسلات) إذ ينتهي كل موضوع منها بفقرة ويلٌ يومئذ للمكذبين وسورة (الرحمن) التي تنهي موضوعاتها بمحطة فبأي آلاء ربكما تكذبان .
ثالثا: من حيث العلاقات
تتخذ السورة المباركة إحدى ثلاث علاقات :
- السببية: ويُقصد بها أنّ الموضوعات في السورة يترتب أحدها على الآخر على نحو السببية, بحيث يكون الموضوع سبباً للاحقه، ومسبّباً عن سابقه .
- النموّ: ويقصد به أن الموضوع ينتقل أو يتحول أو يتطور من مرحلة إلى أخرى كما يتنامى النبات ويقطع مراحل متــنوعة حتى يصل إلى نهاية نموّه .
- التجانس: ويُقصد به مجانسة كل عنصر من عناصر النص مع الآخر، أي مجانسة الموضوعات مع الأفكار بالنسبة إلى الأدوات الفنية المستخدمة كعنصر القصة , والصورة , والإيقاع ، وغيرها.
هذه المستويات من (الوحدة) التي تنتظم عمارة السورة الكريمة، تتجسد بحسب ما تقتضيه السورة ذاتها، إذ إن كل سورة تتخذ لها شكلاً خاصّاً من العمارة التي تتناسب خطوطها مع طبيعة الأفكار التي يستهدفها النص القرآني .
أنموذج من تفسيره (سورة الرحمن) :
شرع المفسر بدايةً بالنظر الى سورة (الرحمن) المباركة نظرة كلية شمولية, فقد افتتحت بمقطعين يتحدثان عن جملة من الظواهر الإبداعية, ثم تلاهما مقطعان وصفيان عن الجنتين العاليتين والدانيتين؛ ولذلك فقد شطرها الى قسمين, كل قسم ينشطر الى مقطعين .
وربط بين ختام المقطع الأول ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وختام المقطع الرابع تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ؛ فإن لهذا الختام المتجانس سره الفني المرتبط بعمارة السورة المباركة, فالأول يتحدث عن الظواهر الكونية في ميدان الثواب والإنارة الاجتماعية لها, والأخير يتحدث عن الجزاء الأخروي الإيجابي, أي أن كليهما يصب في رسم ما هو إيجابي من جانب, ويتصل أحدهما بالدنيا والثاني بالآخرة من جانب آخر, وهذا هو أحد الخطوط الجمالية التي تنتظم عمارة هذه السورة المقسمة الى ثنائيات
أما المقطع الثاني من القسم الأول فقد عرض للجزاء السلبي دنيويا وأخرويا بدءً من آية سنفرغ لكم أيها الثقلان وانتهاءً بآية يطوفون بينها وبين حميم آن .
وفي تصوّر المفسر ان لهذا الرسم أهميته الهندسية من حيث كونه يعدّ استكمالا للبيئات الثلاث: (الجنتين العاليتين) (الجنتين الدانيتين) ( جهنم) .
قصة الجنات الأربع:
في سورة الرحمن المباركة سردٌ وصفيّ لجنات أربع في بيئة الآخرة على نحو مزدوج, أي جنتين لكل بطل, وكل جنتين ينتظمهما وصف متميز عن الآخر .
الجنة الأولى تبدأ بالسرد الوصفي : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان… , والجنة الثانية : ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان…, والسؤال المطروح من قِبل المفسر هو : هل أن كلّا من الجنتين المزدوجتين قد رسمتا لعنصر بشري واحد من حيث موقعه العبادي؟
إن الناقد القصصي أو المتذوق الفني بعامة بمقدوره ــــ حتى بعيدا عن النصوص المفسرة ــــ أن يستخلص أن الجنتين الأولتين خصصتا لطبقة متميزة عن الطبقة الأخرى التي لابد أن تكون أقل درجة من الطبقة الأولى .
ويبدأ المفسر بالتحدث عن الدلالة الفكرية للبيئة الأخروية مبينا أن الخوف من الله أو التقوى بعامة يعنيان: ان الشخصية تلتزم بأوامر السماء ونواهيها بالنحو الذي يستاقها الى الظفر بمكافأة تتناسب والتزاماتها .
وإن هذه البداية القصصية تكشف عن ان هاتين الجنتين تجسدان موقعا علويا مادام الخوف والتقوى يحجزان الشخصية عن الوقوع في المعصية, مما يتطلب مكافأة أعلى وأرفع بالقياس لمن يمزج الطاعة بالمعصية, أو يتردد فيها . أما من ناحية الدلالة الفنية الصرفة فإن المفسر يعقد مقارنة مفصلة بين السرد الوصفي للجنتين العاليتين والدانيتين, مبينا عناصر كل منهما, ليخرج بنتيجة مفادها أن الوصف الذي يبدو بادئ ذي بدء متشابها بشدة , هو في العاليتين غيره في الدانيتين .
أبعاد وعناصر البيئة الأولى:
- ذواتا أفنان .
- فيهما عينان تجريان .
- فيهما من كل فاكهة زوجان .
- متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان .
- فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان كأنهن الياقوت والمرجان
أبعاد وعناصر البيئة الثانية:
- مدهامتان .
- فيهما عينان نضاختان .
- فيهما فاكهة ونخل ورمان .
- فيهن خيرات حسان حور مقصورات في الخيام لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
- متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان .
وبتأمل سريع يتبين بوضوح أن العناصر المشتركة في الجنات الأربع هي خمسة :
النبات أو الزرع أو الشجر , الماء أو العيون , الفاكهة , الفرش , والحور .
بيد أن كلاّ منها يطبعها وصف قد يكون مشتركا في بعض خطوطه لكنه في خطوطه الأخرى متميز عن الآخر , وهذا التميز له أهميته القصوى في رسم المكانة التي يحظى بها عباد الله في الجنان, كلّ بحسب عمله وخلوص نيته .
ولمن أراد الاستزادة فليراجع الجزء الرابع من التفسير البنائي ليمتّع فكره وذوقه الفني لدى تأمله في دقة الوصف وبيان الفوارق التفصيلية بين الجنان العالية والدانية, التي استنبطها المفسر .
في نهاية المطاف وقف المفسر مليّاً عند العنصر الخامس والأخير, بعيدا عن التفاضل الذي طبع الجنتين وخارجا عن الامتيازات التي خصصت لكل منهما, وأسهب في تسليط الضوء على هذا العنصر وربطه بالبعد الأخلاقي في حياتنا الدنيا , فثمة سمات ثلاث أسبغت على الحور العين:
فيهن قاصرات الطرف, فيهن خيرات حسان, حور مقصورات في الخيام, هذه السمات واضحة كل الوضوح في طابعها الأخلاقي الذي ينبغي أن نشدد عليه في غمار السلوك الدنيوي, وانسحابه على المكافأة الأخروية .
وأول ما ينبغي الانتباه إليه هو أن الفارق بين بيئة الحياة الدنيا والبيئة الأخروية هو انتفاء عنصر (الصراع) بين الخير والشر في بيئة الجنة , فالعلاقات الاجتماعية مثلا يسودها تفاهم تام .
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نجد القصة القرآنية تخلع على (الحور) سمة كونهن قاصرات الطرف, وكونهن مقصورات في الخيام, وكونهن خيرات ؟
إن خلع مثل هذه السمات يظل من جانب واقعا له محدداته التي تطبع سائر المعالم الخاصة في بيئة الآخرة , لكنه من جانب آخر ينطوي على حقيقة فنية أيضا هدفها لفت الانتباه الى ضرورة توفر مثل هذه السمات في السلوك الدنيوي , والى الطريقة التي ينبغي أن يختطها العنصر المذكور في تعامله مع العنصر الآخر وهو الرجل . ويمكننا إدراك هذه الحقائق حينما نتابع مفردات الأوصاف المذكورة , فإن سمة (قاصرات الطرف) تعني أن العنصر المذكور يقصر عينيه على الزوج فحسب , كما ان السمة الثانية (مقصورات) تعني انهن مستورات في الخيام لا ينتقلن هنا وهناك بمرأىً من الرجال , وهذه السمات هي ذاتها التي يشدد المشرع الإسلامي عليها في الحياة الدنيا .
فإذا كانت الحياة الأخروية وهي خالية من النزعة الشريرة ومن عمليات الصراع بين الخير والشر قد شُدّد فيــــها على ستر المرأة, وعلى أن تحبس نظراتها على زوجها فحسب, وعلى أن تحصر تحركاتها داخل مساحة الخيمة الخاصة بها, فكيف ببيـــــــــئة الحياة الدنيا , وهي بيئة تتجـــاذبها النزعة الشريرة ؟
وهكذا نجد المفسر لا يتوانى عن استثمار الدلالات الفكرية والفنية في الآيات الكريمة لربطها بالحياة الدنيا والإفادة منها في الوعظ والإرشاد وتعديل سلوك الإنسان .
ونجد أن المنهج أو النمط الذي اختاره في دراسة القرآن الكريم وتفسيره وتحليله يتنوع تبعاً لما تفرضه اللغة (الجمالية) من التناول المقطــــــــــعي أو الكلي للنص القرآني .



















