البلدة المغزولة من وردة الشمس

رواية دورا لبشرى أبو شرار

 

البلدة المغزولة من وردة الشمس

 

مفرح كريم

 

 

إن الهدف من أي قراءة إبداعية هو الاحتفاءُ بالنص الروائي واستنطاقُ مكوناته، ومحاورةُ العمل الأدبي ضمن مستويات التحليل والتأويل المختلفة، والوصول إلى رؤية” هي خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعية في نواحي النسج والبنية والدلالة والوظيفة”(1) سواءٌ تلك المرتبطةُ بمستوياتِ القول أو الاستاطيقا أو التحليلِ البنائي أو السيميائيِّ أو الأسلوبي، فالنصُّ كما يقول أمبرتو إيكو:”كونٌ مفتوح”(2)، وفهمُ النص أو تأويلُه يكون حسب تعبير دريدا بـ”إعادة بناء الدلالة القصدية للنص”(3) ورواية (دورا) لبشرى أبو شرار واحدة من الروايات التى تنسج قماشتها من حب جارف، ورغبة عارمة فى العودة إلى المحبوبة (بلدتها)، وحس مشتعل بالفجيعة، وشعور حاد بالاغتراب. ولذلك، نجد أن المكان أو ما اصطلح على تسميته (الفراغ الروائى) هو المركز الذى تدور حوله جميع الأحداث، ورغم أن “المكان” قد يكون البطل المطلق في بعض الروايات والقصص، وتبرز خصوصيته و”عبقريته” في أعمال روائية كثيرة، فهو البطل الأول في رويات: “زقاق المدق، خان الخليلي” عند نجيب محفوظ، وفي “البلدة الأخرى” لإبراهيم عبدالحميد، ومدن الملح لعبد الرحمن منيف، و”ثلة الملائكة” لسعيد الكفراوي، و” قمر على سمرقند” لمحمد المنسى قنديل، و”قهوة المواردي” لمحمد جلال، فإن الفضاءَ المكانى في الرواية العربية المعاصرة لم يعد فضاءً كلاسيكيا يتتبع فيه السارد العليم دقائقَ الأمكنة، ويصفُها وصفا مُسهِباً ومُطوَّلاً، كما كانت الرواية التقليدية في مرحلة التأسيس وما قبل التأسيس، بل إن الفضاء المكاني أصبح يشكل في بعض الأعمال الروائية البؤرة الدلالية للحدث، ويولّد نسيجا من الفضاءات المتناسلة المنفتحة على حمولات دلالية تكشف تناقضات الواقع و ترصد حركاته، وتساهم في تطور العالم التخييلي للمحكي وديناميتِه وتشكِّلُه تشكيلا يتكامل مع باقي العناصر البنائية الأخرى في إنتاج نص مكثف قائم على تساعده على النضال من أجل حقه المسلوب، ولذلك فإن عالم الرواية ليس عالما سوداويا كفكاويا، يدفع إلى اليأس، ولكنه عالم ملئ بالآمال وبالأحلام، وبانتظار الغد الذى يشجع الإنسان على التمسك بنور الحياة، ثم نجد بعد المقدمة أربعة وأربعين فصلا، أسمت كل فصل منهم جدارية، نسبة إلى تلك الجدارية التى أقامها أهل دورا ليسجلوا عليها ما حدث وما يحدث لأهل هذه البلدة، وتعتبر هذه الجداريات هى اللوح المحفوظ الذى نجد عليه الرسم والشعر والنحت وتصوير الموسيقى، والأهم من كل هذا، نجد رسوم الشهداء الذين مازالوا يعيشون فى نفوس أهل البلدة، ويحرضونهم على التمسك بالحق، والدفاع عن بلدتهم التى تختزل كل ما يحدث فى فلسطين، فهذه الجداريات هى أهل دورا الذين تجسدوا وتوقف بهم الزمن ليحكوا للعالم كله قصتهم التى هى قصة الخير والشر فى التاريخ البشرى منذ بدء الخليقة وحتى تقوم الساعة، فالكاتبة تذهب إلى إحدى الجداريات بعد النصف الأول من الليل، تشخص إليها، تذوب فيها، تتكسر على أحجارها، تتماهى وخطوطها السوداء على مساحة الأبيض، تكتب : تصحو كنعان من رماد الأرض، تغزل من خيوط الشمس حكايتنا، (الرواية صفحة 13) ولأن الرواية كيان عضوى واحد، شديد الإحكام، فهى كالقصيدة الحديثة الجيدة التى لا تسمح بأخذ مقطع للدلالة على رأى ما، لأن القصيدة سوف تنهار فى هذه الحالة، ولن يتبقى منها غير جسد بلا روح. فالرواية مبنية على هندسة شديدة التماسك، وكلها تقف على أساس من الحب والقهر والخوف والحزن والاغتراب، كما أنها تؤمن بتناسخ الأفعال والأرواح والطبيعة، والزمن، والتاريخ، والثقافة، ولذلك نجد أن الشهداء سرمديون، يعودون فى كل عصر ليستشهدوا من جديد، ( مثل خليل العواودة الذى استشهد ولكنه مازال يقابلنا فى أغلب فصول أو جداريات الرواية ) ولكن قبل الاستشهاد الثانى، يمتزجون بالمكان، بكل مافيه، بفضائه، وجباله، وبحاره، وأزمانه من ليل أو نهار، ويمتزجون بفصول السنة التى يعيدونها بكل ما فيها من جمال، وكذلك، بكل ما فيها من استشهاد، وأيضا، بكل ما فيها من اغتراب. تقول على لسان بطلتها، التى هى دورا نفسها : ” كم جميل هذا اليوم وأنتم تتوحدون بالأرض” (5) . فدورا، الاقتصاد والتعدد والتعقيد. لقد تطور بناء النص الروائي المعاصر و ” دخلت الرواية العربية مرحلة جديدة من مراحل تطورها، عبر نجاحها في استلهام كل الممكنات الفنية المتاحة” (4). ومن أهم هذه الإمكانات، استخدام اللغة الشعرية فى الرواية، فقد اقترن ظهور اللغة الشعرية في الرواية العربية، مع ظهور الرواية الحديثة التي اتخذت هذه اللغة الشعرية بهدف استخدام سحرها وجماليتها وتوترها للتأثير في المتلقي، من خلال السحر الذي تمارسه هذه اللغة عليه، كما يقول الناقد الروسي باختين. وتتجلى شعرية لغة السرد الروائي، عبر مجموعة محاور تتناول النعت، الذي يعد مظهرا أساسيا للغة الشعرية، من خلال الانزياحات السياقية سواء على مستوى اللون، أو الزمن أو المكان أو الشخصيات أو الحدث. وبشرى أبوشرار، الكاتبة الفلسطينية، تبنى عالمها الروائى وخصوصا فى رواية ( دورا) بناء شعريا مكثفا، فهى لا تكتفى باستعمال الخيال وجماليات الأسلوب الشعرى، بانتقاء الكلمات المثيرة، وباستعمال موروثات الشعر من الصور البلاغية، والبناء الفوقى، وإنما بنت عالمها الروائى بناء شعريا من الأصل، فصارت الرواية وكأنها قصيدة طويلة تحكى ما حدث لبلدة ( دورا) الفلسطينية، وماحدث لأهلها، هؤلاء الذين يطلون على (دورا ) من عليين، وهؤلاء الذين ما زالوا يسبحون بها فى جميع الأزمنة، كل هذا فى غلالة من المشاعر الفياضة الملتهبة، ولا يمكن أن أجتزئ منها كلمات أو عبارات، أو حتى فصولا (تلك التى أسمتها بشرى جداريات)، للدلالة على شعرية اللغة وشعرية البناء الروائى فى هذه الرواية، والرواية تبدأ بفصل وحيد، كأنه المقدمة التى تدخلنا فى جو( دورا) الذى يمور بالحزن والاغتراب، ولكنه مع ذلك، يأخذنا لنعيش معه الحياة بكل ما فيها من حزن وأفراح وأتراح، فالأفراح مهما كانت صغيرة أو بسيطة تساعد الإنسان على التمسك بالحياة، “هى بلدتى، أتناولها بيد واجفة وروح تائهة” (6)، وهى أيضا “عودى المشلوح فى غربتى هنا، دورا لها كل يوم ميلاد جديد” (7) وشخصيات الرواية مزيج من الشخصيات الحقيقية التى عاشت فى هذه البلدة وأكلت من كرومها، ونعمت بضوء شمسها، وتنسمت هواء جبالها، مثل ماجد أبو شرار وهو أخو الكاتبة، فهو مازال يعيش فى ضمير الكاتبة وضمير أهل البلدة على الرغم من استشهاده، فهو الغائب الحاضر، ففى كل مناسبة نجد اسمه يتردد، وآراءه تعيد على القوم كتاباته، كما نجد الشاعر الفلطسينى محمود درويش، حاضرا بقوة فى هذه الرواية، فالكاتبة تذكره باسمه، كما تتلو أشعاره، وتتغنى بها فى السر والعلن، وكذلك يفعل أهل البلدة. وتمتزج هذه الشخصيات الواقعية بشخصيات من صنع خيال الكاتبة، شخصيات أبدعها الفن الروائى، تعبر بشكل أسطورى عن شخصيات أخرى حقيقية، ربما طواها النسيان مع جبال دورا. فالمواطن من أهل دورا هو الكنعانى أو القديس، أو المسيح ابن مريم الفلسطينى، يدخل القدس، فلا يجد منهم (الأعداء ) غير آثار العدوان، هو عربى … هو مصرى، هو أممى، يكتب على حوائط مدينته ” لا تصلبونى مرتين … دعونى أموت، لا تصلبونى مرتين” صفحة 184. ونجد شخصيات مهاجرة إلى مختلف بلدان العالم، مثل (شمس) أخت الكاتبة، وتصبح كل علاقاتها بالوطن هائمة مثل الأحلام، أو الكلمات التى تحمل لها أخبار الوطن، أو أخبار العائلة، أو أخبار مشاعر الحياة الدفاقة. فوائل، حبيبها، يحرص على (أن يشرك شمس بكل منمنمات الوطن، يتوارى بحكاياته لها خلف قلبه الموجوع على غربتها، وأوراق صفراء، خضراء، تصريح .. ممنوع الدخول … يدرك أن كل هذا يحول ما بين شمس وبلاد لها، كم من ليال مضت به يحدث القمر من سطح داره، فى مواسم اكتماله، وحين يصير بدرا … هلالا … حتى من قلب العتمة يدعوه ليعيد شمس )… صفحة 189. وعلى الرغم من كل هذا الحب العارم، فإن الإنسان يعانى من عذابات الاحتلال، كما يعانى من الخوف، ويحس القهر أمام آلة القتل الجبارة التى يجيد المحتل استعمالها، ولا تأخذه أى رحمة بأصحاب الأرض : وكأن الوطن رحل فى النوم “نوم غير طبيعى” (8) ، ولنا أن نتصور أسرة فلسطينية، رحل راعيها وأصبح فى عداد الشهداء، وترك أرملة تعانى من الحياة شظف العيش، وتعانى من جنود الاحتلال، قسوتهم وغباوتهم. والليل يأتى لها ولأولادها ب : ” هدير عربات الجيش يحوم حول الوديان، أصوات يرددها الصدى، طلقات نارية، انفجارات تنقلها الريح عن كمين نصبه الفدائيون، تهب العاصفة، ينهش غضبهم كل بيت، يدخل جيشهم ناشبا مخالبه فى المخادع، يهيل الجدران، ضربات أيديهم على الأبواب، تهاوى باب دارها أمام سطوة قنابلهم، وهى الجالسة أمام فتحة النار، أصوات تثقب الجدران : ” انهضى ياامرأة… أين زوجك؟… وبعد أن يوجه لها الأسئلة عن مكان زوجها يقول : ” نأتى هنا وفى كل مرة نجد أطفاله يفترشون صحن الدار، وأنت كما أنت، فى كل مرة تحملين حملا جديدا.(9) والشئ الجدير بالاتفات،  المقارنة الظالمة بين قوة هذا الجيش الغازى وضعف المرأة الأرملة الوحيدة، ولكنها مع ذلك، تلد مولودا جديدا، مما يخيف العدو، ويجعله فى حالة شبيهة بالصرع وهو يتعامل مع عرب فلسطين، لأنه يخشى زيادة عدد المواليد، لأن كل مولود هو مشروع مقاوم، وهكذا ستظل تلك المتوالية تعمل على زيادة عدد الفلسطينيين الذين لا يسكتون أو يهدأون، وإنما هم فدائيون وشهداء.

 

  لعل أول ما يستوقفنا في قرائتنا للنص، وتوغّلِنا في مادته الحكائية هو الصراعات المكانية الثقافية. وهى صراعات تكشف عن العلاقة بين الأمكنة وامتداداتِها في المجتمع ونُظُمِه وقيمِه السلوكية والثقافية والسياسية والإيديولوجية، وما ينشأ عنها من توتر وصراع سوسيوثقافي. وهذا التصارع يكون بين ” الرفيع والوضيع، بين أعلى الهرم الاجتماعي وأسفله. وفي الدين نجد التصارع بين الأرض والسماء، بين أهل اليمين وأهل الشمال. وفي المجال الأخلاقي نجده بين السامى والمتدني” (10 )، يقول باختين: “يكون القصد الأخلاقي في الرواية ملموسا في قلب بناء كل جزئية من الجزئيات، فهو يشكل بالنسبة لمضمون الرواية، وحتى في أدق تفاصيلها عنصرا فعالا في تشييد العمل الأدبي” (11) .لقد ظهرت هذه الصراعات في النص بشكل كبير على مستويات متعددة، فمن المعروف أن الصراع الإسرائيلى الفلسطينى هو صراع وجود، وليس صراعا على منافع أو مكاسب، ولكنه صراع على الأرض نفسها، إما نحن، وإما أنتم، فهذه الأرض لا تسعنا كلينا معا، ولذلك فهو صراع يستدعى جميع القدرات، بدءا من العمال والفلاحين، الذين تحولوا إلى مجاهدين، ثم إلى شهداء. ومرورا بالفنانين والشعراء، والرياضيين، ولذلك نجد أن حيلة الكاتبة الفنية التى رسمتها على هيئة جداريات، لا تترك شيئا إلا أحصته، فالجدارية لوحة تشكيلية للعلاقة الأدبية بين الرسم والكتابة، كما قال الناقد عذاب الركابى، وهكذا فتحت الكاتبة الباب على مصراعيه لذكر قوى الشعب، ومن أهمها صوت الشاعر الفلسطينى محمود درويش وقصيدته “عابرون فى كلام عابر” كما تتسع لذكر المسيح وتدمجه فى ” دورا” (12) : ” أمس، وبالقرب من المكان هناك كنت بالقرب من المهد، بالقرب من المسيح، وكيف يولد الإنسان من الصمت، بلا أب، بلا مكان “

 

تماما كما قال الشاعر الفلسطينى محمود درويش حينما يسلب من هويته وأرضه وبيته، وهو يحاور هؤلاء القتلة  .. ” (13)

 

احملوا أسماءكم وانصرفوا

 

اسحبوا ساعاتكم من وقتنا

 

وانصرفوا

 

        خذوا ما شئتم من زرقة البحر

 

        ورمل الذاكرة

 

        وخذوا ما شئتم من صور

 

        كى تعرفوا أنكم لن تعرفوا ….”

 

إن بشرى أبو شرار كرست قلمها وعقلها وكتاباتها من أجل (دورا) أى من أجل فلسطين، قضية العرب أجمعين، على الرغم من إقامتها فى مدينة الاسكندرية، فى جمهورية مصر العربية، فهى تحمل (دورا) فى قلبها، وفى كل ذرة من تكوينها. وإذا كانت هذه الرواية والروايات الأخرى لبشرى تكرس كل ما فيها للنضال، فإنها فى نفس الوقت، تفعل ذلك من خلال تقنيات روائية حديثة، تضع هذه الكاتبة فى مكانة أدبية رفيعة، فقد أصدرت تسع روايات، تحمل جميعها الهم الفلسطينى، وترسم تلك الهموم مستواها الفنى الرفيع، فإذا كان النضال السياسى يتطلب تفصيل القضايا وشرحها، فإن النضال الفنى يتمثل فى القدرة على أن تكون تلك الأعمال مبنية على قيم فنية حديثة وراقية، ترفع صاحبها إلى مصاف كبار الروائيين، ولذلك فازت الكاتبة بعدد كبير من الجوائز الأدبية الرفيعة، والحياة الأدبية العربية مازالت تنتظر المزيد من أعمالها الرائعة.

 

الهوامش :

 

1 – المتخيل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1990، ص:5.

 

2   أمبرتو أيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،2000.، ص: 42.

 

3 – من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة: عبد الكريم شرفي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى 2007، ص: 20.

 

4 – بنية النص الروائي، إبراهيم خليل، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2010،ص:131.

 

5 – بشرى أبو شرار، دورا، روايات الهلال، صفحة 139.

 

6 – السابق، صفحة 5.

 

7 – السابق، نفس الصفحة.

 

8 – السابق، صفحة 8.

 

9 – السابق صفحة 10

 

 10   محمد بو عزة، تحليل النص السردي: تقنيات ومفاهيم، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2010، ص:102.

 

11   جورج لوكاتش، نظرية الرواية، منشورات التل، الرباط، ط1، 1988، ص:67

 

 12 – بشرى أبو شرار، صفحة 140.

 

13   بشرى، صفحة 13.