البشير الخنتوش النائب السابق لرئيس مجلس النواب التونسي لـ الزمان الحكام الجدد تنقصهم المعرفة والمشهد يسوده الغموض والإرباك

البشير الخنتوش النائب السابق لرئيس مجلس النواب التونسي لـ الزمان الحكام الجدد تنقصهم المعرفة والمشهد يسوده الغموض والإرباك
التجربة العراقية لا تضاهيها تجربة جيوستراتيجية
احمد عبد المجيد
يبدو المشهد السياسي في تونس غائماً.. فمن الثورة الى الفراغ الامني الى الصراع بين الفرقاء، ثمة قلق عربي على بلد اشعل شرارة ثورات الربيع، التي امتدت الى الشرق الاوسط بدءا من سوريا وامتدادا الى بلدان مرشحة الى التغيير العاصف. فما حقيقة الامور؟ نائب رئيس مجلس النواب السابق الناشط الحقوقي البارز البشير الخنتوش يكشف لـ الزمان عن التداعيات والآفاق ومشتركات التجربة العراقية بما تلاها في بلاده.
كيف تصف المشهد السياسي الحالي في تونس؟
المشهد السياسي الحالي في تونس يسوده الارباك والغموض والضبابية وغياب الشفافية نتيجة التجاذبات النيابية بين الاحزاب وعدم وضوح الرؤية الحاضرة والمستقبلية للحكام الجدد الذين تنقصهم المعرفة بحقائق الاوضاع ويفتقدون الى التجربة السياسية على ارض الواقع وحكمة ادارة الشؤون العامة والقدرة على مخاطبة الجماهير واقناعهم وادارة شؤون البلاد. ومع ذلك فهم لا يسمعون ولا يرون ولا يبصرون الا فيما بينهم، الامر الذي ادى الى اهتزاز الثقة اكثر فاكثر بين الحكام الجدد والشعب الثائر وضربت هيبة الدولة وضعف دور قوى الامن وظهرت عصابات امن موازية من حركات دينية متشددة او متدثرة بالدين تقوم بدون الامن والعدالة ووصل الامر الى الاغتيال السياسي لاحد رموز المعارضة اليسارية وهو المرحوم شكري بلعيد، وهو من خريجي كلية الحقوق بالعراق، والى تنفيذ الحد حتى على بعض اعوان الامن وغيرهم والتمثيل بجثثهم، الامر الخطير الذي لم يعرفه المجتمع التونسي المتماسك فذلك صدمة صارمة صاعقة له، اضافة الى المزيد من تفشي الفساد السياسي والمالي والمحسوبية في الانتدابات من طرف الحاكمين من حركة النهضة، اضف الى ذلك الانهيار الاقتصادي وفقدان فرص العمل اي تفاقم البطالة في صفوق الشباب، وتهديد المرأة في حقوقها المكتسبة منذ الاستقلال والذي كانت تونس رائدة فيه ويضرب بها المثل لا في العالم العربي والاسلامي فحسب بل وحتى في العالم الغربي.
ما حقيقة هذا الانحراف للثورة في البلاد؟ هل هو استيلاء ام اطاحة ام انقلاب؟
اولا ــ لا يمكن ان نعتبرها ثورة لان قواعد الثورة وشروطها المتعارفة جلها لم تتوفر فيما حدث.
ثانيا ــ هي ليست انقلابا لان الجيش كان جيشا وطنيا محايدا وكان في امكانه الاستيلاء على السلطة بسهولة تامة لكنه رفض مثلما رفض قمع المتظاهرين من الشعب ولم يقم باي دور سياسي سوى المساهمة بصفة فعالة في حماية الشعب والدولة ومكتسباتهم في ادق ظروف الاحداث.
ثالثا ــ ليست اطاحة لان الاحداث ادت الى هروب الرئيس الفاسد المخلوع لخفايا لا زالت مجهولة حتى الان في دقائق حقيقتها. وبقي النظام الذي كان جموع المتظاهرين العفويين غير الممنهجين وغير المؤطرين ودون قائد يقودهم فكانوا ثائرين اكثر منهم ثوريين ينادون بسقوط النظام الذي لم يسقط سوى رأسه وحل ومحله حكم مؤقت يشبهه في الظلم والقمع والانتهازية، فالذي حصل هو استيلاء من اغلبية نسبية على ثورة بسطاء الناس ونتيجة قانون انتخابي شارك في اعداده ـ بدقة ودهاء ـ اجانب عن تونس كليا وساهمت في تنفيذه ـ لايطال الطبقة الحاكمة حاليا ـ اموال مشبوهة طائلة، وان تلك الاغلبية نسبية جدا ولا تمثل الا جزءا قليلا من الشعب ومن عدد من الناخبين الذين لم يشارك جلهم في العملية الانتخابية، ومع ذلك تعتبر هذه الاغلبية نفسها الحاكم الشرعي الابدي الذي يفعل ما يشاء دون حسيب او رقيب وهي تتشكل من قدماء المساجين والمقيمين بالخارج من الحركة الاسلامية النهضة التي اهتمت في حكمها باقتسام الغنيمة وتوزيعها على الموالين لها باعتبار الولاءات لا الكفاءات، ولم تهتم بمشاكل الشباب ولا مشاغل المواطنين التي ثار الشعب من اجلها مثل البطالة وخاصة بين شباب خريجي الجامعات والظلم الاجتماعي وعدم التوازن التنموي بين الجهات والظلم الاجتماعي والاضطهاد السياسي وقمع الحريات الفردية والعامة من قبل رموز النظام السابق المخلوع رأسه بل وتواصل قمع الحركات الاحتجاجية باكثر غلظة وقساوة منها استعمال نوع من الذخيرة الممنوعة دوليا التي ادت الى اضرار جسيمة باجسام المحتجين على اوضاعهم المتردية بل والى فقدان البعض لبصرهم.
واصيب الشاب الذي كان في مقدمة الاحداث متحديا رصاص البوليس بالصدمة وخيبة الامل اذ كان هو رائد الثورة التي استولى عليها من لم يشارك فيها اطلاقا ومن تجاهل استحقاقاته المشروعة التي ثار من اجلها بل ان الفقير ازداد فقرا وتكونت طبقة مالية جديدة من الانتهازيين باسم الثورة والدين وتلاشت الطبقة الوسطى التي كانت تشل اكبر جزء من الشعب نتيجة سياسة اقتصادية واجتماعية فيها اكثر عدلا في توزيع الثروات زمن حكم بورقيبة المعروفة بنظافة يديه ومات ولم يكسب شيئا من حطام الدنيا.
مقدرات البلاد الاقتصادية
هل تتطابق دعوات العزل السياسي المطروحة مع اي معايير قانونية ام اخلاقية؟
لا شك ان هناك طبقة من بطانة الرئيس الهارب الفاسد المخلوع كانت تتكون من اقربائه واصهاره استولت على مقدرات البلاد الاقتصادية وكانت ادارة فوق الادارة الشرعية وحكاما فوق الحكام ولصوصا محترفين فوق القانون ومن رجال اعمال شركاء لتلك البطانة في نهب ثروات الوطن والشعب. وهنا ولئن كانت دعوات العزل السياسي من الطبقة الحاكمة بالخصوص لها ما يبررها مما قلناه الا ان ذلك يجب ان يكون في اطار مساءلة ومحاسبة قانونية قضائية بالنسبة لمن ثبت تورطهم فيجرائم الفساد وارجاع المسروق الى الشعب، لا ان يتم ذلك بصفة اعتباطية مزاجية وتصبح ما يسمى بالعدالة الانتقالية عدالة انتقائية انتقامية استغلالية ابتزازية لتصفية الخصوم السياسيين الذين قد يشكلون خطرا في الانتخابات المقبلة على الحكام الجدد وخاصة منهم الاسلاميين من حزب النهضة ولا يجب ان يكون العزل السياسي او العدالة الانتقالية فرصة للحكام الجدد للابتزاز وابرام صفقات مسترابة تحت الطاولة مقابل اموال طائلة لافلات المتهمين بالفساد من مساءلة او محاسبة او محاكمة او عفو علني بعد المحاسبة القانونية.
وآنذاك تكون العدالة الانتقالية او الاجتثاث السياسي ابعد ما يكون عن المعايير القانونية او الاخلاقية بل تصبح مجرد اجتثاث تعسفي غير شرعي للقضاء على الخصوم السياسيين الخطيرين من حيث الاهمية التمثيلية الشعبية ومجرد ابتزاز لبعض رجال الاعمال الذين يشكلون عمودا اساسيا لانعاش الاقتصاد واحداث مواطن شغل او ان يدفع بهم الابتزاز الوحشي الى الهجرة قسرا والاستثمار خارج حدود الوطن وهو ما حصل فعلا لمئات رجال الاعمال مع ما في ذلك من خسارة فادحة على الاقتصاد وعلى التشغيل الذي هو من اهم استحقاقات الشباب الثائر.
خلاصة القول نعم يجب لا اقول اجتثاث بل مساءلة ومحاكمة الفاسدين الطغاة المرتشين من الساسة او من اللصوص لكن ضمن اطار ونظام قانوني واخلاقي واضح وبشرط ان تكلف بهذه المهمة هيئة قضائية مستقلة لا مطمع لها مؤلفة من قضاة ومحامين متقاعدين مشهود لهم بالنزاهة والا يكون ما نشهده اليوم في الموضوع عبارة عن مسرحية ابتزازية من فاسدين ومفدسين يكونون ملفات فساد لكسب المال لصالحهم ولتلهية الشعب وصرف نظره عن امهات القضايا ولا تكون سوى ذر الرماد في العيون ليس الا.
هناك من يقول ان رموز الثورة من العلمانيين تتجه للانسحاب من الحياة السياسية ردا على مشهد الفوضى، هل هذا رد ايجابي ام تعميق لاستفراد القوى الدينية بالحكم؟
اولا لا يجوز القول ان هناك رموزا لما سمي بالثورة سواء من العلمانيين او من الاحزاب الدينية، لان الانتفاضة او التمرد لم يقم به رموز من اي حزب او حركة سياسية بل هي كانت حركة تمردية تلقائية من كل اصناف الشعب من حيث العمر والمهنة الذي صفع به كيل الظلم بل وكان في مقدمة الاحداث الشباب والمحامون دون تصنيف سياسي او اجتماعي او ديني يذكر.
كان حدثا جللا حتى مدويا نتيجة تراكمات سنوات من الظلم والقمع والاستبداد من طرف حكام رسميين وغير رسميين جهلة ولصوص في شعب متعلم ملم بحقوقه وواجباته وبخطورة التجاوزات التي تعدت تلك الحدود الحمراء.
ولنقل ان كان بعض رموز العلمانيين يفكرون فعلا في الانسحاب من الحياة السياسية نتيجة الفوضى الموجودة حقيقة، الامر الذي لا علم لي به في صفوف العلمانيين فان كان هذا صحيحا كما تقول فهو في نظري شيء خطير وسلبي يعمق حتما استفراد الحركات الدينية في الحكم والبقاء فيه لمدة اخرى قد تقصر او تطول حسب المستجدات والعوامل الداخلية والخارجية، الا انني اعتقد ان العلمانيين اذكى من ذلك واكثر نضجا وحكمة ووعيا بدورهم في هذه الفترة الحساسة، اذ من ايجابيات ما حدث من تمرد او ما يسمى بالثورة هو استرجاع شيء لا بأس به من الحرية التي يحرص الجميع على عدم التفريط فيها، وبالتالي عدم الانسحاب من الحياة السياسية في كل الحالات بما فيها النهوض المعاشة خاصة وان المجتمع التونسي عرف بنسيج اجتماعي منسجم من حيث الدين والعقيدة ونمط العيش الوسطي، فالتونسيون مسلمون سنيون مالكيون لا ميز بينهم ولا وجود فيهم لطوائف دينية او عرفية، لكن ما نعيشه اليوم من اختلاق اصطناعي للتفرقة الدينية والاجتماعية وحتى العرفية الوهمية احيانا، تحركها عناصر داخلية وخارحية ادت الى نوع من الفوضى وانعدام الامن.
الساحة السياسية
يعتبر العلمانيون ـ وجلهم مسلمون طبعا ـ يعتبرون انفسهم مسؤولين عن التصدي لها بكل قوة الامر الذي يحول دون انسحابهم من الساحة السياسية لشعورهم بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقهم، حاضرا ومستقبلا، للحفاظ على الدولة المدنية ومكتسباتها العامة بالنسبة للشعب عموما والمرأة خصوصا التي من اشد المقاومين لحماية حقوقها المكتسبة.
ما الذي تراه شبيها بالتجربة العراقية يتكرر اليوم في وقائع التجربة التونسية؟
بداية اقول انه ليس من منطلق محبتي الشخصية واكباري الخاص والموضوعي للعراق الحبيب العظيم وللانسان العراقي الاستثنائي في شهامته ورجولته وصموده وشجاعته وللاحباء العراقيين والعراقيات النشامى ان التجربة العراقية لا تضاهيها اخرى من حيث المكانة الجيوستراتيجية للعراق، واقول دوما ان العراق مهما دمر في بنيته التحتية وفي مؤسسات دولته بل وحتى في محاولات تدمير الانسان العراقي ثأرا من الاعداء من التاريخ السحيق القديم والمعاصر فسينهض العراق حتما والتاريخ شاهد على ذلك بعد المعرفة التأريخية القديمة قبل اكتشاف البترول، ومن زمان اقول ان العراق سيكون المانيا العرب، ذلك البلد الاوربي الذي دمر تدميرا فظيعا واستطاع ان يكون اليوم في مقدمة الدول الاوربية نهضة وتقدما على كل الاصعدة وارى من زمان ان العراق طال زمنه المتردي ام قصر سينهض من جديد بالرجل العراقي الاستثنائي البطل الابي وبالمرأة العراقية الشامخة شموخ النخل وبقدراته الاقتصادية الهائلة المنهوبة اليوم بعد ان استثمرت سنوات طويلة لصالح التنمية العراقية الشاملة التي جعلت منه بلدا خطيرا على القوى الاستعمارية وبالخصوص الكيان الصهيوني وحاميته امريكا. الا ان هذا التفاؤل المبرر لا يحول دون تكرار تجربة شبيهة اخرى في سوريا مع اعتبار بعض الفوارق وكل ذلك يصب في المصلحة المادية للدول الاستعمارية المهيمنة الكبرى وفي مصلحة الكيان الصهيوني بالاستيلاء على ثروات العرب ومحاولة وأد القضية الفلسطينية سبب بلاء الامة العربية والعائق الاكبر لاتمام تقدمها بل وحتى تعاونها الاقتصادي المأمول على طريق الوحدة المنشودة التي تتوفر فيها كل المقومات التي لم تتوفر في اي مجتمع مهما كان في العالم. المثال الثاني المشابه هو ليبيا دون ان ننسى السودان وبدرجة اقل دول المغرب العربي وما يحصل الان في ليبيا وفي تونس التي نرى فيها بوادر انشقاق وتفرقة ومحاولة تخريب ما بناه الرئيس الراحل بورقيبة واسماه الوحدة الوطنية الصماء ، نرى اليوم بوادر انشقاق وتفرقة مصطنعة لا بين المذاهب الدينية والطوائف غير الموجودة اساسا في تونس خلافا لما نراه موجودا في العراق او مصر او سوريا بل ما نراه من سعي للتفرقة صلب الدين الواحد والمذهب السني الواحد وهو امر خطير يهدد وحدة الشعب التونسي، لكن وعي الشعب التونسي بنخبه واصنافه الاجتماعية حتى من البسطاء يتصدى لتلك المظاهر الغريبة عليه منذ اربعة عشر قرنا ويقاومها يوميا بكل الوسائل حفاظا على محبته للحياة في كنف مجتمع مسلم وسطي ونمط عيش معتدل في مجتمع مدني يتسع للجميع ويتحمل الجميع فيه الجميع.
AZP02