البريكان شاعر ذو نزعة عالمية – اضواء – نوزاد حسن

البريكان شاعر ذو نزعة عالمية – اضواء- نوزاد حسن

لا ابالغ لو قلت ان البريكان شاعر لم ينل حظه من النقد وذلك بسبب قصور طريقة تفكيرنا وادواتنا النقدية..لذا اجد من الضروري عدم قراءته كشاعر منفرد يمثل حقبة فنية عاش البريكان كل تعقيدها وهواجسها،بل علينا ان نجد تفسيرا لنزعته الفنية الغريبة عن اتجاهات التفكير والكتابة لدينا.لذا سيكون شيئا بلا قيمة ان نكتب عنه باسلوب تبجيلي يعترف بغرابته كانسان وشاعر،وانه سار وحيدا في دنيا الفن مزودا بطاقة عظيمة من نكران الذات الاجتماعية..نعم البريكان اكثر الشعراء كرها للظهور والبهرجة وحضور الامسيات.كان وحيدا وكتب شعرا صعبا للغاية اراد ان يؤسس من خلاله لرؤيا مغايرة عن التجارب التي كان الشعراء الاخرون يسعون وراء الكتابة عنها.ويبدو ان هذه مشكلة جديدة واجهها البريكان بكل طاقته الشعرية،ومن هنا يجوز القول ان البريكان كان يريد ان يصف جوهر الحياة لا ما يظهر منها.وهو يعتقد ان القصيدة تغوص في عالم مختلف عن عالم المادة الذي نراه.لان هناك افاقا اخرى لا بد ان يصلها الشاعر ليتوقف عندها ويتاملها.

    لن اقدر في هذه المقالة الا الحديث عن قصيدة صغيرة هادئة رصينة قد تبدو قصيدة ساذجة غير فخمة ولا يكتبها الا شاعر مبتديء.ربما يعتقد البعض ان هذه القصيدة هي حقا علامة برجوازية على شاعر يهرب من الحياة وينسحب كلص لئيم.عنوان هذه القصيدة هو:احتفاء بالاشياء الزائلة.البريكان في هذا النص القصير يجازف لانه يتحدث عن اشياء زائلة غير خالدة في حين ان الوطن يغرق بمشاكل كثيرة جدا.هذا النص بكل بساطته الظاهرية ينافس اكبر القصائد التي كتبت وهي تناقش موضوعات خارجية.نعم ساتمسك بمصطلح الموضوع الخارجي الذي يتناوله الشاعر واضعا اياه في قصيدة.انا اتحدث هنا عن تركيب لقطعتي غيار وهما:الموضوع واللغة.هاتان القطعتان تخضعان لعملية قص وبتر وتلميع وصبغ حتى يصل الشاعر في النهاية الى نصه الشعري الفخم الطويل.ما تقوله لنا قصيدة البريكان هو غير ذلك ولا علاقة لها به.ساظلم الشاعر لو قلت انه يهمس فنظرية الهمس لا تنطبق على هذه القصيدة ولا غيرها.ساقول ان البريكان غامر بفنه حين حاول ان يمشي في طريق ليس مالوفا،ومن الجائز القول ان ذلك الشاعر البصري سعى لترويض اللغة وتركيبها بطاقة خالقة اسميها:طاقة الكون.لو قلت ان قصائد البريكان في مراحله المتاخرة هي مرايا تعكس تجلي طاقة الكون فيها لما اخطأت في قولي هذا.وتعني طاقة الكون لا المعرفة العقلية المباشرة ولكنها تعني الشعور القوي بوجود الانسان محاطا بهذا الكون المليء برموز لا تتوقف عن اعطاء الشاعر القدرة على جعل كل الموضوعات الخارجية تفقد صورها الظاهرية.على سبيل المثال،لو ان قضية سياسية شغلت المجتمع ككل واثارت هذه القضية ردود افعال كثيرة ومختلفة فان هذه القضية ستكون في عين الشاعر المتواصل مع طاقة الكون هي غيرها في عين اصدقائه واهل بلده.القضية السياسية لها رمز او جذر يتصل لا بهذا المكان فحسب ولكن جذر القضية يتصل بالكون الممتد دون حواجز.واذا امن الشاعر – اي شاعر- انه يعيش في مكان محدد ومفصول عن ابعاد العالم والكون فهذه مشكلة اخلاقية وفنية.ان كثيرا من القصائد التي نقراها اليوم نحن هي قصائد ديكورية لاهثة ارادت ان تواجه المواقف المختلفة برد فعل لغوي محدد.يلجا الشاعر في هذه الحالة الى عملية تركيب مصطنعة تهدف الى جعل الشاعر عضوا فاعلا في المجتمع.لم ينخدع البريكان بهذا السلوك الفني الظاهري.وكان عليه ان يصبر على سخافات تدور في العالم من حوله لانه اكتفى باندماجه بطاقة الكون الخالقة.

ينتمي البريكان الى نوعية مهمشة من البشر لا يتوقفون عند حدود المظاهر العامة..انه جزء من عالم زائل ويسير نحو الزوال.لنقرا جزءا من قصيدته وفي اقتباسنا منها دلالة على سخرية البريكان من قشرة الواقع التي يتعلق بها كثير من الشعراء.يقول:

ان كنت بسيط القلب

فستفهم مجد الارض

سحر الاشياء المالوفة

ايقاع الداب اليومي

وجمال اواصر لا تبقى

وسعادة ما هو زائل

سيكره النقد الماركسي هذه الابيات،كذلك لن ينظر كل الادباء الملتزمين والمؤمنين بوظيفة النقد الاجتماعية باحترام كبير اليها.لكن من المهم جدا ان نحاول الاقتراب من طبيعة هذا الشعر.ولا طريق امامنا الا الاعتراف باننا نقف امام بلاغة جديدة لم نالفها في كثير من كتابات الشعر المعاصر.واذا قلت ان مسؤولية البريكان كانت ثقيلة فلن ابالغ لاني اعرف مدى الصعوبة التي يواجهها شاعر يكتب بلغة لا تتورط بالاحتيال على القاريء فتثير حماسه.ان اهم نقطة ننطلق منها لفهم قصيدة احفاء بالاشياء الزائلة هو ان البريكان لم يكن مخدوعا بما انخدع به غيره من الشعراء..لذا لم تهمه ابدا فكرة الريادة الشعرية لانها قصة تتعلق بلحظة تاريخية.وما اراد الشاعر البصري ان يكتبه كان نابعا من طاقة الكون السارية في كل شيء.ولعل هذا ما عنيته حين تحدثت عن الورطة الادبية التي يقع فيها كثير من المثقفين.وهي تعني في اعتقادي استخدام اللغة لتلقي صدمات الواقع كي نتفاداه او نبدو اننا مسيطرون عليه.في كثير من القصائد نشعر ان اللغة الشعرية تريد ان تقنعنا باننا قادرون على مواجهة الواقع والدخول معه في معركة.هذه اللغة لم تكن تستهوي البريكان لانها لم تكن داخلة ضمن منطقه الشعري.فالاشياء كلها يمكن ان تكون نوافذ نطل منها على حقيقة الكون والحياة.ومن هذا المنطلق اطن ان البريكان شاعر ذو نزعة عالمية ولن نفهمه جيدا دون مقارنته بشعراء عظام كي نرى الاسلوب الذي جعله يهمل بشجاعة ما كان البعض يراه قمما شعرية وموضوعات لا بد من الكتابة بها.