الإخوان وأمريكـا /د. حسن حنفي

الإخوان وأمريكـا
د. حسن حنفى
سرت شائعات روجت لها أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية على التعاون الخفى بين الإخوان وأمريكا قبل الثورة المصرية فى يناير 2011 وبعدها وحتى الآن. فقد كان الحوار بينهما قائما قبل سقوط النظام السابق لرغبة أمريكا فى البحث عن سند شعبى لأنظمتها التسلطية المتحالفة معها، حفاظا على هذا التحالف، وخوفا على هذه الأنظمة من السقوط. والإخوان هم أوسع القواعد الشعبية انتشارا ثم الوفد. فلو أن النظام السابق تحالف مع الإخوان والوفد لضمنت أمريكا بقاء النظام بعد أن وردت إليها التقارير بقرب سقوطه. وقد غضب رأس النظام السابق من هذه المحاولات للحوار بين أمريكا وخصومه السياسيين. وحذرهم إن هى تخلت عنه إما أنا أو الإخوان ولمزيد من التخويف إما أنا أو القاعدة ، إما أنا أو الفوضى كما هو الحال فى الصومال وهو لا يعرف الفرق بين مصر الدولة والصومال القبيلة. فقد يحكم مصر بعقلية القبيلة أو العشيرة كما حكم الرئيس المقتول قبله مصر باسم العائلة كبير العائلة أو الطائفة مسلمون وأقباط مثيرا للفتنة الطائفية التى لم تعرفها مصر الا ورقة بيد الاستعمار لاحتلال مصر دفاعا عن الأقليات. واستمر هذا التعاون بعد سقوط النظام وأثناء مرحلة التحول الديموقراطى التى كانت مفتوحة لكل القوى السياسية كى تحصل على جزء من نصيبها من مكاسب الثورة حتى قبل أن تتحقق أهدافها. وربما قوى هذا التعاون بعد نجاح الإخوان فى الانتخابات والاستفتاءات التى تمت بعد الثورة، وحصولهم على الأغلبية فى المجالس النيابية وفى اللجنة التأسيسية لوضع الدستور الذى سيقوم عليه النظام السياسى فى مصر لعدة عقود قادمة حتى أصبح الإخوان فزاعة للعلمانيين فى الداخل والخارج. وبصرف النظر عن هذه الشائعات أو الروايات أو الافتراضات فإن التحقق من صدقها واجب على المفكر الموضوعى المحايد والمتعاطف مع كل الحركات الوطنية فى مصر، بصرف النظر عن أيديولوجياتها السياسية. مهمته البحث عن الأدلة أو الأدلة المضادة. فالبينة على من ادعى، واليمن على من أنكر.
فماذا يعنى التعاون بين الإخوان وأمريكا؟ هل هو الحوار الواجب بين القوى السياسية فيما بينها أو بينها وبين الخارج؟ هل هو التفاهم لمعرفة كل طرف ماذا يريد الطرف الآخر، وإزالة الشبهات عنه، والتمييز بين ما هو حقيقى وما هو من صنع الإعلام؟ هل هذا التحالف بصرف النظر عن المبادئ؟ والتحالف بهذا المعنى خيانة للثورة واستمرار لسياسة النظام السابق للاستقواء بأمريكا على الداخل فى حالة قيام ثورة ثانية ضد من استولى على السلطة فى الثورة الأولى حتى لو أتى بانتخابات حرة تعبر عن إرادة الشعب؟ هل هو تفاهم وقتى على مصالح حاضرة أم هو تفاهم استراتيجى دائم بصرف النظر عن مصالح مصر وأمنها القومى؟ هل هو اتفاق مصالح فى الظاهر، واختلاف فى العمق أم اتفاق مصالح فى العمق، وخلاف فى الظاهر؟ هل هو اتفاق نفعى برجماتى أم اتفاق أيديولوجى فى رؤية العالم؟ هل هو تبادل منافع فى لحظة تاريخية معينة طبقا لضرورات متغيرة أم هو اتفاق جذرى، وزواج كاثوليكى لا طلاق فيه فى حين أن الزواج الإسلامى يحتمل الطلاق أكثر من مرة حتى ولو كان أبغض الحلال عن الله بحيث لا يتجاوز ثلاثة مرات. وقد جربت مصر الزواج بأمريكا قبل 1952 ثم فى عهد الرئيس المقتول عندما شرع بأن 99 من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة، والمرة الثالثة فى عهد الرئيس المخلوع الذى أيدها فى صداقتها لإسرائيل وعدائها لإيران فى مقابل تأييد استبداده وفساده. والآن هو طلاق بائن لا يجوز الزواج بالولايات المتحدة من جديد إلا إذا جربت تحالفا آخر ربما يكون مع النفس أولا ومع العرب ثانيا ومع إيران وتركيا ثالثا وبالتالى يتحول إلى زواج دائم لا حاجة إلى العودة إلى الزواج الأول كما هو الحال فى طلاق سعاد هانم .
إن التناقض بين الإخوان والولايات المتحدة الأمريكية تناقض جوهرى مثل التناقض بين الاشتراكية والرأسمالية، بين الديموقراطية والاستبداد، بين التحرر والاستعباد. هما نقيضان. وهذا لا يمنع من تفاهم النقيضين كما هو الحال فى قانون الجدل، بين الموضوع ونقيضه. إذ لا ينفى أحدهما الآخر. التحدى هو إيجاد المركب بين الموضوع ونقيضه كما حاولت مصر والهند ويوغوسلافيا فى أوائل الستينيات فى حلف مجموعة عدم الانحياز وتأسيس كتلة العالم الثالث التى تمثل ثلاثة أرباع العالم فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لقد اتهم الإخوان من قبل وحتى الآن بأنهم أصحاب تحالفات، وليسوا أصحاب مبادئ. وربما فرضت الظروف ذلك حتى يقل تعذيبهم ومطاردتهم ووضعهم فى السجون. اتهم الإخوان بأنهم كانوا ممالقين للقصر قبل ثورة يوليو 1952، وأن حسن البنا بعد زيارته للملك فاروق أعلن أنها زيارة كريمة لملك كريم . ولم يكونوا جزءا من لجنة الطلبة والعمال فى 1946. فهم ليسوا فقط جماعة سياسية تشارك فى النضال الوطنى بل هى ايضا جماعة تريد أن تعيش وتستمر. ومع ذلك حدث لها ما حدث. فقد استشهد زعيمها ومؤسسها حسن البنا فى 1949 بتآمر الإنجليز والقصر. كما اتهم الإخوان بأنهم الجناح العسكرى لمصر الفتاة التى كان لديها تنظيمها الخاص، القمصان الخضر. وكلاهما يؤمنان بالعنف. وكانوا على صلة بالضباط الأحرار منذ 1948 فى فلسطين. وكان جزء كبير من الضباط الأحرار ومن مجلس قيادة الثورة من الإخوان. وقد اتهموا بعد اندلاع الثورة بأنهم على صلة بالأمريكيين ربما لمساعدتهم على إخراج الإنجليز من مصر قبل أن تحدث القطيعة بينهما بعد عقد انفاقية الجلاء بين مجلس قيادة الثورة وبريطانيا على الجلاء على أن يعودوا إلى مدن القناة ومطاراتها فى حالة الضرورة القصوى. ثم خرجوا من السجون فى 1956 لدرء العدوان الثلاثى على مصر والدفاع عن بورسعيد. وأعدم سيد قطب شنقا فى 1966 بتهمة تأسيس تنظيم سرى وهو فى السجن للانقلاب على الثورة. ثم أخرجهم الرئيس المقتول من السجون ليسا حبا فيهم ولكن لاستعمالهم ضد خصومه الناصريين والماركسيين واليساريين الذين عارضوا سياسة الانفتاح الاقتصادى، وقوانين الاستثمار، والارتماء فى أحضان أمريكا، والقطيعة مع العرب بعد زيارة القدس تحت الاحتلال فى 1977، واتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل فى 1978، ثم اتفاقية السلام فى 1979 التى جعلت سيناء منزوعة السلاح منقوصة السيادة، وبداية التطبيع مع العدو الصهيونى والأراضى العربية فى الضفة والجولان مازالت ترزخ تحت الاحتلال. ثم استمروا فى السجون طول عهد الرئيس المخلوع صاحب الحلف الدائم مع الولايات المتحدة الأمريكية واستمرار التطبيع مع العدو الصهيونى مادام يقبض الثمن بنهب المال العام هو وأسرته وحاشيته. واستعملهم فزاعة لتخويف أمريكا. فكانوا هم الذين تحملوا العبء الأكبر فى معارضة نظامه.
بين الإخوان وأمريكا هناك تعارض جوهرى وتناقض جذرى على المستوى الأيديولوجى وتصور العالم. فللإخوان تصور مركزى للعالم. لا يقبل المساومة أو التحالف مع تصورات مركزية أخرى. فالإسلام آخر الأديان الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ . الإنسان خليفة الله فى الأرض وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ وهو ما عبر عنه المودودى وسيد قطب باسم الحاكمية. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفى مرة ثانية الظَّالِمُونَ ، وفى مرة ثالثة الْفَاسِقُونَ . فالإخوان ترفض أى سلطة فى العالم غير سلطة الله. وهم الذين يمثلونها. ولأمريكا أيضا تصور مركزى للعالم. فهى التى تمثل القوة والثروة الأولى فى العالم. لا تقبل إلا سلطانها على الأرض وترفض أى سلطان آخر غير سلطانها. لذلك انقسم العالم قسمين المعسكر الرأسمالى بقيادة أمريكا، والمعسكر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفيتى. وعاش العالم قبل انهيار المعسكر الاشتراكى عصر الاستقطاب ممثلا فى هذه القطبية الثنائية. والإخوان ترى أنه لا فرق بين الرأسمالية والاشتراكية. فكلاهما نظرة مادية للعالم. يمثلان قطبا واحد فى مقابل الإسلام كقطب آخر كما حدث أولا فى مواجهة الإسلام إمبراطوريتى الفرس والروم بعد أن ظن كلاهما أنهما اقتسما العالم قبل أن يخرج الإسلام كقطب جديد يرث القطبين القديمين. وكلاهما يستعملان العنف، أمريكا فى العدوان، والإخوان فى الجهاد فى درء العدوان وليس البداية به. كانت أمريكا هى البادئة بالعدوان فى أفغانستان ثم فى العراق وكانت الحركة الإسلامية هى التى بادرت بالدفاع. وكان الاتحاد السوفيتى هو البادئ بالعدوان على الجمهوريات الإسلامية فى أواسط آسيا بعد الثورة الاشتراكية فى 1917 ثم فى أفغانستان فى 1979. وكانت الحركة الإسلامية الممثلة فى طالبان هى التى بدأت بدرء العدوان. ونفس التناقض الجذرى بين الإسلام والاستعمار هو نفس التناقض الجذرى بين الإسلام والصهيونية حول الخلافة فى الأرض. الإسلام يريد توحيد الأمة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً والاستعمار بقيادة الولايات المتحدة تريد تجزئتها كما فعلت مع دولة الخلافة الرجل المريض حتى أسقطتها.
العلاقة بين الإخوان وأمريكا إذن هى مثل العلاقة بين الملاك والشيطان، بين الله والطاغوت، بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية بلغة سيد قطب فى معالم فى الطريق الذى مازال يكوّن ذهنية الإخوان دون بديل له لأنه يعبر عن نفسية السجين. والإخوان مازالوا سجناء تاريخهم بالرغم من وصولهم إلى السلطة. فَلِمَ الشائعات التى لا أساس لها حول علاقة الإخوان العلنية أو السرية بأمريكا إلا إذا كان القصد هو تشويه الخصوم، وهو ما تفعله الأنظمة السياسية فى اتهام اليسار بعلاقته بالاتحاد السوفيتى؟ قد يكون القصد هو الإزاحة عن السلطة والإحلال محلها. وهو منطق التكفير والتخوين والفرقة الناجية الواحدة.
هذا ليس دفاعا عن الإخوان بل تبصرة لمزيد من الرؤية. وتذكرة لمزيد من الوعى التاريخى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ .
AZP07