الأواني النحاسية تسترجع بريقها في تونس خلال رمضان

تونس‭ (‬أ‭ ‬ف‭ ‬ب‭) – ‬يقف‭ ‬الحرفي‭ ‬الشاذلي‭ ‬المغراوي‭ ‬في‭ ‬ورشته‭ ‬بالعاصمة‭ ‬التونسية‭ ‬وسط‭ ‬أباريق‭ ‬وأقدار‭ ‬متراصة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬وفي‭ ‬انتظاره‭ ‬عملاء‭ ‬دأبوا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬جلب‭ ‬أواني‭ ‬الطبخ‭ ‬النحاسية‭ ‬لطلائها‭ ‬بطبقة‭ ‬من‭ ‬القصدير‭ ‬وتلميعها‭ ‬لاستعمالها‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬الأكل‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭.‬

والمغراوي‭ (‬69‭ ‬عاما‭) ‬من‭ ‬بين‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬الحرفيين‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬طلاء‭ ‬وتلميع‭ ‬الأواني‭ ‬النحاسية‭ ‬وفيّ‭ ‬منذ‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬لورشته‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1977‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬الخضراء‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬بالعاصمة‭ ‬التونسية،‭ ‬فيما‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بريق‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬يجذب‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬هجر‭ ‬الأعمال‭ ‬الشاقة‭.‬

يحرص‭ ‬التونسيون‭ ‬قبل‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬كل‭ ‬الأواني‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬إلى‭ ‬ورش‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬تنظيفها‭ ‬وطلائها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لتصبح‭ ‬جاهزة‭ ‬لاعداد‭ ‬مختلف‭ ‬الأطباق‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭. ‬يكرّر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العملاء‭ ‬وغالبيتهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬اللاتي‭ ‬يقفن‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬الورشة،‭ ‬طلب‭ ‬الاسراع‭ ‬بتجهيز‭ ‬أوانهن‭ ‬قبل‭ ‬أول‭ ‬أيّام‭ ‬رمضان‭.‬

يرد‭ ‬عليهن‭ ‬المغراوي‭ ‬بينما‭ ‬يعالج‭ ‬نيران‭ ‬موقده‭ “‬لن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬ممكنا‭. ‬لدينا‭ ‬طلبات‭ ‬أخرى،‭ ‬وكما‭ ‬ترين‭ ‬أعمل‭ ‬بمفردي‭”. ‬يذيب‭ ‬بين‭ ‬أنامله‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬القصدير‭ ‬ثم‭ ‬يطلي‭ ‬بسائلها‭ ‬وعاء‭ ‬ليكشطه‭ ‬لاحقا‭ ‬ثم‭ ‬يغرقها‭ ‬في‭ ‬سطل‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الماء‭.‬

أواني‭ ‬البركة‭” ‬

يطلق‭ ‬التونسيون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ “‬القصدرة‭” ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬اكساء‭ ‬الآنية‭ ‬بطبقة‭ ‬من‭ ‬القصدير‭ ‬المُذاب‭ ‬لحماية‭ ‬الطعام‭ ‬وحفظة‭ ‬من‭ ‬الأكسدة‭ ‬التي‭ ‬يتسبب‭ ‬فيها‭ ‬معدن‭ ‬النحاس‭.‬

يصبح‭ ‬اثر‭ ‬ذلك‭ “‬الكسكاس‭”(‬وعاء‭ ‬لاعداد‭ ‬أكلة‭ ‬الكسكسي‭) ‬أو‭ “‬الكروانة‭” (‬وعاء‭ ‬لاعداد‭ ‬الحساء‭)‬،‭ ‬جميل‭ ‬الشكل‭ ‬وشديد‭ ‬اللمعان‭.‬

ويشرح‭ ‬المغراوي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التقليد‭ “‬موجود‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬ويبقى‭ ‬دائما‭ ‬حيّا‭”. ‬تحتفظ‭ ‬الأمّهات‭ ‬التونسيات‭ ‬بأواني‭ ‬النحاس‭ ‬في‭ ‬مطبخهنّ،‭ ‬يرثنها‭ ‬ويورّثنها‭ ‬لحفيداتهن‭ ‬لتكون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المستلزمات‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬تجهيز‭ ‬بيوتهن‭ ‬قبل‭ ‬الزواج‭. ‬تقول‭ ‬سناء‭ ‬بوخريص‭ (‬49‭ ‬عاما‭) ‬لوكالة‭ ‬فرانس‭ ‬برس‭ ‬بكل‭ ‬فخر‭ ‬‭”‬أشعر‭ ‬باحساس‭ ‬جميل‭ ‬عندما‭ ‬استعمل‭ +‬الدوزان‭+ (‬قنينة‭ ‬من‭ ‬النحاس‭) ‬وهو‭ ‬يلمع‭ ‬طوال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭”. ‬وتضيف‭ ‬بوخريص‭ ‬وهي‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬المحاسبة‭ ‬ومتزوجة‭ ‬منذ‭ ‬28‭ ‬عاما‭ “‬يذكرني‭ ‬هذا‭ ‬التقليد‭ ‬بالزمن‭ ‬الجميل‭ ‬واستعداد‭ ‬أمي‭ ‬للشهر‭ ‬الفضيل‭” ‬وتتابع‭ “‬هذه‭ ‬الأواني‭ ‬الموروثة‭ ‬من‭ ‬أمي‭ ‬فيها‭ ‬بركة‭”. ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬دليلة‭ ‬بوبكر‭ (‬53‭ ‬عاما‭) ‬وهي‭ ‬ربة‭ ‬بيت،‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬تلميع‭ ‬قطعتين‭ ‬فقط،‭ ‬بينما‭ ‬تكابد‭ ‬عائلات‭ ‬تونسية‭ ‬أخرى‭ ‬بحثا‭ ‬عما‭ ‬تطبخ‭ ‬وسط‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬حادة‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬البلاد‭. ‬وتعلّق‭ ‬قائلة‭ “‬أصبحت‭ ‬الأسعار‭ ‬جدّ‭ ‬مرتفعة‭”. ‬تبلغ‭ ‬تكلفة‭ ‬عملية‭ “‬القصدرة‭” ‬ما‭ ‬بين‭ ‬20‭ ‬ديناراً‭ ‬و200‭ ‬دينار‭ (‬بين‭ ‬6‭ ‬و60‭ ‬يورو‭) ‬وتختلف‭ ‬الأسعار‭ ‬بحسب‭ ‬مقياس‭ ‬حجم‭ ‬الوعاء‭. ‬تشهد‭ ‬الصناعات‭ ‬الحرفية‭ ‬لأدوات‭ ‬المطبخ‭ ‬تراجعا‭ ‬بسبب‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬معدن‭ ‬النحاس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬ثمة‭ ‬طلب‭ ‬متزايد‭ ‬على‭ ‬تلميع‭ ‬الأواني‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وفقًا‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الحرفيين‭. ‬ينتظر‭ ‬الحرفي‭ ‬عبد‭ ‬الجليل‭ ‬العياري‭ (‬60‭ ‬عاما‭) ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬طوال‭ ‬الخمسين‭ ‬عاما‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬مهنته‭ ‬داخل‭ ‬ورشته‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭. ‬ويلاحظ‭ ‬أن‭ “‬العملاء‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬تجهز‭ ‬أوانيهم‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬وتسعد‭ ‬المرأة‭ ‬لكون‭ ‬مطبخها‭ ‬مزيناً‭ ‬بأوانٍ‭ ‬نظيفة‭”‬‭.‬

ويضيف‭ ‬‮ ‬بينما‭ ‬يدندن‭ ‬أغنية‭ ‬للفنانة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬تُبث‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬راديو‭ ‬قديم‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬الورشة‭ “‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬تعلم‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬اليوم‭. ‬يرفضون‭ ‬العمل‭ ‬وسط‭ ‬ورشة‭ ‬كلّها‭ ‬سواد‭ ‬ويخشون‭ ‬أن‭ ‬يتسخوا‭”. ‬‮    ‬‭ ‬يقول‭ ‬مبروك‭ ‬رمضان‭ (‬82‭ ‬عاما‭) ‬وهو‭ ‬حرفي‭ ‬يملك‭ ‬ثلاثة‭ ‬محلات‭ ‬في‭ “‬سوق‭ ‬النحاس‭” ‬بالمدينة‭ ‬القديمة‭ “‬لم‭ ‬يعد‭ ‬باستطاعتنا‭ ‬قبول‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الطلبات‭”.‬

وسط‭ ‬هذا‭ ‬السوق‭ ‬الشهير‭ ‬بالعاصمة،‭ ‬يعرض‭ ‬حوالي‭ ‬خمسين‭ ‬متجراً‭ ‬مستلزمات‭ ‬المطبخ‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬الحرفيون‭ ‬بحلّة‭ ‬وتصميم‭ ‬جديدين‭. ‬ومع‭ ‬اقتراب‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬يشتري‭ ‬التونسيون‭ ‬أواني‭ ‬للطهو‭ ‬واعداد‭ ‬القهوة‭ ‬وأباريق‭ ‬للشاي‭ ‬وأكواباً‭ ‬صغيرة‭ ‬وقدوراً‭.‬

كما‭ ‬يعرض‭ ‬رمضان‭ ‬للبيع‭ ‬أواني‭ ‬قديمة‭. “‬إنها‭ ‬مثل‭ ‬المجوهرات‭ ‬بالنسبة‭ ‬لبعض‭ ‬العملاء‭”‬،‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬الحرفي‭ ‬الذي‭ ‬يعرب‭ ‬عن‭ ‬أسفه‭ ‬لعدم‭ ‬اكتراث‭ ‬أبنائه‭ ‬بأهمية‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭.‬

وثمة‭ ‬حسرة‭ ‬لدى‭ ‬المغراوي‭ ‬الذي‭ ‬اشترى‭ ‬بنفسه‭ ‬ورشته‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬ورثة‭ ‬صاحبها‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لديهم‭ ‬رغبة‭ ‬فيها‭. ‬ويقول‭ “‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬نفقد‭ ‬زميلاً‭ ‬في‭ ‬الحرفة،‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬خسارة‭ ‬لهذه‭ ‬المهنة‭ ‬وخطوة‭ ‬نحو‭ ‬اندثارها‭”.‬‮ ‬

‮ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬يديه‭ ‬الملطختين‭ ‬بالسواد‭ ‬والمتضررتين‭ ‬بأخاديد‭ ‬عميقة‭ ‬ويخلص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ “‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬سهل‭ ‬ولا‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬هذا‭”.‬

مشاركة