الأمن.. المعادلة الأصعب
سامي الزبيدي
تواجه أغلب دول العالم خصوصاً النامية منها مشاكل عديدة تؤثر على تقدمها وتطورها و أكثر هذه المشاكل تأثيراً على الأوضاع السياسية والاجتماعية ما يتعلق منها بالجانب الاقتصادي و الأمني وقد تمكنت العديد من الدول التوفيق بين هذين العاملين في معادلة متكافئة تضمن تطوراً اقتصادياً ملحوظا ومتصاعدا يؤمن الخدمات المهمة لأبناء الشعب وأهمها الضمان الاجتماعي والصحي والتربوي والقانوني والسكن بالإضافة إلى خدمات أخرى ويرافق ذلك تحقيق الأمن وحماية حياة المواطنين وممتلكاتهم وقد استطاعت العديد من دول العالم المتطورة والنامية تحقيق طرفي هذه المعادلة الصعبة من خلال خطط اقتصادية وأمنية علمية وعملية مدروسة بعناية ودقة تستند إلى إرادة وطنية حقيقة والى كفاءات وعقول خبيرة ومجربة لها القدرة على العمل والإبداع خدمة لشعبها ووطنها وهذا ما حصل في أكثر من دولة في أمريكا الجنوبية وشرق أسيا وبعض الدول الإفريقية بالرغم من محدودية إمكانياتها والاقتصادية ولو رجعنا قليلا إلى الماضي القريب نجد إن العراق في أواخر الحكم الملكي قد حقق ذلك رغم محدودية إمكانياته العلمية وندرة الموارد المالية التي كانت تأتي من النفط والزراعة واستمر ذلك حتى في فترة حكم المرحوم عبد الكريم قاسم كما تمكنت بعض الدول العربية من تحقيق طرفي هذه المعادلة مثل لبنان وسوريا ودول المغرب العربي في فترة الخمسينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي . ولو استثنينا دول الخليج العربي فأن أغلب الدول العربية الآن تعاني مشاكل كبيرة في تحقيق هذه المعادلة خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول 01 20 في أمريكا وما تلاها من التطورات التي حدثت في العراق وبعض الدول العربية الأخرى ( تونس . اليمن .ليبيا . مصر .سوريا ) فقد عانت جميع الدول العربية مشاكل كبيرة في تحقيق هذه المعادلة التي باتت الأصعب والأبعد رغم الإمكانيات الاقتصادية المختلفة والموارد المالية والبشرية الجيدة . والذي يهمنا في هذا الموضوع هو ما يجري في بلدنا بصدد تحقيق طرفي هذه المعادلة ، فمنذ احتلال العراق عام 2003 وحتى الآن لم يشهد بلدنا استقراراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو تقديم أية خدمات في طرف المعادلة الأول أو أي تقدماً ملموساً في الجانب الأمني في الطرف الآخر للمعادلة فالوضع الأمني في تدهور مستمر حتى بات يشكل كابوساً مرعباً للشعب العراقي كله أما الجانب الاقتصادي والخدمي فبالرغم مما يحصل عليه العراق من إيرادات خيالية من تصدير النفط تراوحت بين 70-90 مليار دولار شهريا وهذا المبلغ يفوق ميزانية دول عديدة لعام كامل وبالرغم من الموارد البشرية ذات الإمكانات العلمية المختلفة الطبية والهندسية والاقتصادية والزراعية والصناعية والفنية والتجارية التي يمتلكها إلا إن العراق لم يستطيع تحقيق هذه المعادلة , فما الذي يحدث ؟ ولماذا لم يستطع ساسة العراق تحقيق هذه المعادلة على أرض الواقع رغم الفسحة الزمنية الكبيرة التي منحت لهم بعد تغيير النظام وهي أكثر من عشرة أعوام ورغم توفر الإمكانيات والموارد الجيدة ؟ ولماذا أصبحت هذه المعادلة (الاستقرار السياسي والاجتماعي والتطور الاقتصادي والخدمي مقابل الاستقرار الأمني ) المعادلة الأصعب على سياسيينا في الوقت الحاضر ؟ هنالك أسباب عديدة جعلت من هذه المعادلة الأصعب على سياسيينا أبرزها النظام السياسي الجديد في العراق الذي اتخذ من التخندق القومي والطائفي والمذهبي منهجاً له حتى أصبحت المحاصصة السياسية والطائفية سمة هذا النظام وسيدة كل المشاهد في العراق فقد أضحت كل الوزارات والمؤسسات والوظائف الحكومية حتى الأمنية والعسكرية منها تحت رحمة هذه المحاصصة المقيتة بل وشمل ذلك حتى منظمات المجتمع المدني وما يسمى بالهيئات المستقلة وأصبحت سياسة (هذا لك وهذا لي ) هي محور العملية السياسية فغلبت المصالح الحزبية والفئوية والمذهبية والقومية على مصلحة الوطن والشعب .والعامل الآخر المهم الذي أدى صعوبة تحقيق هذه المعادلة هو الفساد المالي والإداري الذي استشرى في جميع وزارات ومؤسسات ودوائر الدولة وأصبحت سرقة المال العام ديدن أغلب السياسيين والمسؤولين فنهبت مليارات الدولارات من أموال الشعب التي لو وضفت لخمة الشعب وبناء الوطن لأصبح العراق في طليعة الدول المتطورة اقتصادياً واجتماعياً وخدمياً .
و هناك سبباً أخر يعرقل تحقيق هذه المعادلة هو التدهور الأمني المستمر وتواصل نشاط الجماعات المسلحة والإرهابيين وعصابات الإجرام والاغتيالات رغم الأعداد الكبيرة للقوات الأمنية ورغم مليارات الدولارات التي صرفت على تدريبها وتسليحها وتجهيزها وهذا السبب يحتاج إلى وقفة خاصة لبحثه بشكل منفرد لأنه موضوع خطير يحتاج إلى تشخيص دقيق لمعرفة الأسباب التي تؤدي إلى تدهور الوضع الأمني باستمرار لكننا سنوضح ذلك باختصار هنا فنقول إن افتقار المنظومة الأمنية للحس والعمل ألاستخباراتي الدقيق و الفعال والمهني وقلة خبرة ومهنية العاملين في الأجهزة الأمنية وعدم توفر المعدات والوسائل الالكترونية المتطورة للمراقبة و التصوير والكشف وسيطرة الأحزاب والكتل المتنفذة على المناصب الأمنية والعسكرية المهمة دون مراعاة للكفاءة والخبرة والمهنية والمصلحة الوطنية واستفحال الفساد في أغلب مفاصل الأجهزة وتشكيلاتها المختلفة كلها أسباب أدت إلى تدهور الأوضاع الأمنية .
ومن الأسباب الأخرى المهمة التي أدت إلى صعوبة تحقيق هذه المعادلة هي إبعاد الطاقات العلمية ذات الخبرة والكفاءة والتجربة والكوادر المهنية والتكنوقراط عن المناصب والمواقع المهمة في الدولة كالوزارات والمؤسسات والدوائر الأخرى و ليس إبعادهم فقط بل حتى عدم إشراكهم في الدراسات واللجان التي تشكل لمعالجة الإخفاقات والمشاكل التي تواجه الحكومة في مختلف الجوانب . إذا ما المطلوب من الحكومة ومن السياسيين في العراق الديمقراطي الجديد لتحقيق هذه المعادلة التي باتت الأصعب عليهم لكنها لم تكن كذلك على غيرهم في الكثير من بلدان وشعوب هذه المعمورة التي لا تملك ربع ما يملكه بلدنا من إمكانيات اقتصادية ومادية وبشرية وثروات هائلة حباها الله لوطننا المعطاء .إن معالجة الأسباب التي تعيق تحقيق معادلة التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي من جهة مع تحقيق الأمن والأمان والحياة الهانئة والكريمة من جهة أخرى يتطلب إعادة النظر بشكل جدي بالنظام السياسي في العراق برمته وبالذات المحاصصة الحزبية والطائفية المقيتة وإبعادها عن كل مؤسسات الدولة ووزاراتها وهيئاتها وإقرار قانون رصين للأحزاب وتعديل قانون الانتخابات بما يؤمن اشتراك جميع مكونات وأطياف الشعب دون (فيتو) على أية جهة واستقطاب الكفاءات العلمية الموجودة في الخارج واحتضان ورعاية الموجودين منهم في الداخل والعمل على تطوير العمل الإداري في مؤسسات الدولة بالقضاء على الروتين القاتل واستخدام الوسائل والأساليب الحديثة في ذلك ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين وتقديمهم للعدالة للحد من عمليات سرقة المال العام وتوضيف هذه الأموال لخدمة الشعب والوطن والاهتمام بالجانب الأمني بدأً من اختيار القيادات الأمنية الكفوءة والمهنية والوطنية وتأمين مستلزمات العمل الأمني المتطورة من تجهيزات ومعدات وتفعيل العمل ألاستخباري وإتباع أساليب جديدة في عمل منظومات الاستخبارات وتوحيد مرجعيتها لتفويت الفرصة على عصابات الإجرام للنيل من أبناء شعبنا وإيقاع الخسائر بهم بكشف نوايا هذه العصابات وخططها قبل تنفيذها إضافة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمية بإقرار خطط خمسية يعدها ويشرف عليها متخصصون في الاقتصاد والمال والأعمال والتخطيط والأعمار والخدمات للنهوض بالواقع الخدمي و الاقتصادي والصناعي والزراعي والتنموي ويجب أن تكون هذه الخطط عملية وعلمية واقعية تبدأ بالبنى التحتية من طرق وجسور ومحطات الماء والكهرباء والمجاري والإسكان والمستشفيات والمؤسسات العلمية والتربوية والثقافية والقضائية والفنية والأخذ بنظر الاعتبار تطوير العمل بالمؤسسات التربوية من مدارس وجامعات وبما ينسجم و التطور الذي يشهده العالم في هذه الجوانب وتطوير اقتصاد البلد وتنويع مصادره بدلاً من اعتماده على النفط فقط وتحديث النظام المصرفي والاهتمام بمؤسسات وشركات القطاع الخاص وتطوير المعامل و المصانع وانتشاء مصانع جديدة لاستيعاب الأعداد الهائلة من الخريجين والأيدي العاملة التي سحقتها البطالة المستشرية في البل إن هذه الإجراءات ليست صعبة أو مستحيلة على بلد يملك من الثروات والإمكانيات والمقومات التي تكفي لبناء عدة دول وليست دولة واجدة وليست صعبة كذلك على دولة تتبنى نظام ديمقراطي حقيقي وفيها سياسيين وطنيين يضعون مصلحة الوطن والشعب فوق أي اعتبار حزبي أو فئوي أوقومي أو طائفي أو مذهبي .