الأزمة العراقية الراهنة: مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة
1
حركة الإحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة حسب غرامشي لكن الواقع يشي بالتشاؤم
عبد الحسين شعبان
بيروت
مـقدّمـة
يمكن القول إن الدولة العراقية المعاصرة عانت مشكلات أساسية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) العام 1921 (أي منذ تسعة عقود ونصف العقد من الزمان)، وظلّت هذه المشكلات تتراكم وتتفاقم، بحيث أصبحت بؤراً مستديمة للصراع، وعقداً مستحكمة تركت تأثيراتها في المجتمع العراقي والحياة السياسية عموماً.
لكن الأزمة الراهنة التي تعانيها الدولة، هي من نوع آخر مختلف، لأن الأمر يتعلّق بمستقبلها: هل تبقى دولة موحّدة أم أنها صائرة إلى زوال بعد تفتيت وتفكيك وتشظٍّ، ومثل هذه الإشكاليات المحورية هي من إفرازات الاحتلال الأمريكي للعراق منذ العام 2003، الذي وضع مستقبل الدولة لا على بساط البحث فحسب، بل أدخلها في دوامة لا تكاد تستفيق منها، فكل أزمة تلد أزمات أخرى، وهكذا بدأت السبل تتباعد أمام وحدتها، الأمر الذي عرّضها من الناحية العملية لتصدّعات كبيرة، وهو ما يضع اليوم عدداً من السيناريوهات المحتملة بخصوص مستقبلها، فلم تعد المسألة تتعلّق بمشكلة الحكم والتمثيل السياسي والاجتماعي، وبما له علاقة بالقضية الكردية، وبعض قوانين التمييز في الجنسية والمواطنة المنقوصة وغيرها، فالمسألة تجاوزت ذلك، ولامست عمق الدولة، بعد أن تغلغلت في جميع مفاصلها.
وكان المسمار الأوّل الذي دقّه الاحتلال لتحطيم الدولة ومؤسّساتها، وليس السُّلطة، هو حلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي بجميع فروعهما، والشروع بالتأسيس لعملية سياسية قائمة على صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأليف مجلس الحكم الانتقالي في تموز (يوليو) العام 2003، ولا سيّما بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي الشيعة و5 أعضاء لما سمّي السنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين.
وعرفت الدولة “الجديدة” التي تأسّست على أنقاض الدولة القديمة، باسم “دولة المكوّنات”، التي ورد ذكرها ثماني مرّات في الدستور. أما “دولة المواطنة” التي كان العراقيون يتطلّعون إليها بعد انقضاء حقبة الحكم الشمولي – الاستبدادي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، ولا سيّما بعد إقرار صيغة المحاصصة، المستندة إلى الغنائمية وفقاً للنظام الزبائني، وإلى التخادم المتبادل، الذي نَعُمَ المشتركون في العملية السياسية بفوائده وجدواه، عاملين على استمرارها من جهة، وعلى التنافس في إطارها لتوسيع دائرة الامتيازات من جهة ثانية، وهو ما عمل الاحتلال عليه منذ اليوم الأول، ولا يزال هو الحبل السري الذي يربط القوى المشاركة بالعملية السياسية.
إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها، وخصوصاً في ما يتعلّق بفلسفة الدولة والقانون بوجه عام والدستور بوجه خاص. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال، فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.
أولاً: دستور نوح فيلدمان
كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية)(1) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 أيار/مايو 2003 – 28 حزيران (يونيو) 2004) في 8 آذار (مارس) العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى، وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل، بإعداد مسوّدته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وتباعد وتناحر. وعلى أساس قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية صيغ الدستور الدائم، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2005(1).
وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن المشكلات والصراعات التي عانتها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، حيث يدور النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الاستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، وخصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي.
ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.
ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأ الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك بأصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.
وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً ما دامت تتحكّم في الملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف، مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر.
ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً أن المال السائب يغري بالسرقة كما يُقال، ولا سيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب به.
ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً من مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي – الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني(1)، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه. وقد أصبح مجرد الاقتراب من مؤسسة الفساد يعني الدخول في منطقة الخطر، وإلاّ كيف نستطيع أن نفسّر أن وزير الدفاع الذي استجوب في البرلمان العراقي وسعى لكشف محاولات ابتزازه مؤشراً إلى شبهات بالفساد طالت رئيساً و3 من أعضاء البرلمان، هو من تمت إقالته، في حين كان الشارع يهتف ضد الفساد والمفسدين.
ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءٌ الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، ما دامت الدولة غير قادرة على حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟(1).
إضعاف المواطنة
وقد عمل الاحتلال حتى قبل الوصول إلى العراق على إضعاف الشعور بالمواطنة في العراق، ليس فقط للتأثير في قوى سياسية محدّدة ودعمها بمختلف الوسائل، بل لاستدراج قوى أخرى، حتى إنه ورّط عشرات المثقفين العراقيين، وبعضهم من أصول شيوعية ويسارية، بتوقيع عقود عمل مع البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية، وكان الهدف من ذلك، الذي اتّضح على نحو جليّ، هو تحويل هؤلاء المتعاونين إلى أصحاب مصلحة معه، ومن خلال العملية السياسية التي دعمها هو بنفسه، سواء لقوى تعاونت معه أو تواطأت أو نشأت لها مصالح مع المحتل في وقت لاحق، وارتبطت بوجوده وباستمرار العملية السياسية.
لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، ولا سيّما أن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت “المرجعية” الدينية المذهبية(2)، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه “المرجعية” وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.
إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين أن جميع المرجعيات سواءٌ كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية ينبغي أن تخضع للدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار السلاح واستخدامه والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، ومن دون إخضاع المرجعيات الأخرى لها فلا تصبح والحالة هذه دولة.
وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، فإن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوافر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه الحقيقيين في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.
ثانياً: سياقات الأزمة ودوائرها
سأتوقف لمناقشة ثلاث دوائر تتحرّك في إطارها الأزمة العراقية الرّاهنة بما له علاقة بفكرة المواطنة والهويّة، سواء بجانبها الدستوري والحقوقي أو بجانبها المجتمعي والانتمائي والشعوري، فالدائرة الأولى تتمثّل في حركة الاحتجاج الأخيرة ومطالبها، سواءٌ الآنية العاجلة أو المستقبلية الآجلة، التي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقّق أهدافها ، ولا سيّما البعيدة.
أما الدائرة الثانية فترتبط بفكرة الأقاليم، ومعنى الفيدرالية ومبناها، سواء كمفهوم عام أو ما ورد بخصوصها في الدستور الذي أثار الكثير من التنازع في شأن الاختصاصات والصلاحيات ما بين السلطة الاتحادية وسلطة إقليم كردستان، والأمر له علاقة بما هو راهن حيث تروّج فكرة الإقليم السّني، ولا سيّما بعد احتلال داعش للموصل، وتمدّده في نحو ثلث الأراضي العراقية، على الرغم من الهزائم التي مُني بها مؤخّراً. وتندرج الدائرة الثالثة بموضوع مستقبل الدولة العراقية وآفاقها، حيث تعاني التفكّك والتفتّت إلى درجة يصعب لملمة شتاتها، فانتقلت الدولة من مركزية صارمة وأحادية التوجه والأداء، إلى دولة لامركزية، أقرب إلى التبعثر والتبدّد، وتغيّرت طبيعتها من دولة بسيطة كما تسمى في القانون الدستوري إلى دولة مركّبة، سمّيت اتحادية “فيدرالية”، مع أنه حتى الآن لا يوجد “مجلس اتحادي”، وانتقلت الدولة من دولة عميقة إلى دولة رخوة، ومن دولة صارمة القيود، على الرغم من بعض الاختراقات والامتيازات، إلى دولة غنائمية تقوم على نظام الزبائنية.
1- حركة الاحتجاج
إذا كانت حركة الاحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة حسب المفكر الماركسي غرامشي، فإن الواقع لا يزال يشي بالتشاؤم، على الرغم من أن التململ أخذ يكبر وهاجس التغيير ازداد عمقاً، وخصوصاً أن كتلاً بشرية ضخمة أخذت تنضم إلى المتظاهرين من شتى الفئات والتوجّهات اليسارية واليمينية، الدينية والعلمانية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن جميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذين تجمعهم أهداف ومطالب مشتركة، ولا سيّما حياة الناس وحاجتهم الماسّة إلى الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، فلم يعد السكوت عنها ممكناً.
إذا راجعنا شعارات التظاهرات العارمة والمندلعة في مختلف أنحاء العراق منذ تموز (يوليو) العام 2015 ولحد الآن سنلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وهذه تتلخص بـ:
أ- تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولا سيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة وإيجاد فرص عمل متكافئة وتلك أمور آنية ومستعجلة، إضافة إلى تقديم الفاسدين إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، بما فيهم المقصّرون وعديمو الشعور بالمسؤولية والمستهترون بالمال العام، وقد تفشّت ظاهرة الفساد ما بعد الاحتلال، وخصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، بعيداً من الكفاءة والخبرة والنزاهة.
ب- محاسبة المسؤولين عن سقوط الموصل، بيد داعش في 10 حزيران (يونيو) 2014 واستمرار الأمر حتى الوقت الحاضر، بل وتمدّدها إلى مناطق أخرى من العراق بلغت نحو ثلث الأراضي العراقية، وتهديدها العاصمة بغداد، على الرغم من تحرير محافظتي صلاح الدين والأنبار، وانتظار معركة تحرير الموصل الحاسمة، لكن خطر داعش لا يزال ماثلاً إنْ لم يتم استئصال جذوره الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والطائفية، وتجفيف منابع تمويله، وإعادة تأهيل البيئة التي احتضنته.
{ باحث ومفكر عربي