الأخلاقيات الأكاديمية .. بين الأمس واليوم – حسين الزيادي

الأخلاقيات الأكاديمية .. بين الأمس واليوم – حسين الزيادي

لا قيمة للشهادات الاكاديمية والالقاب العلمية مهما علت منزلتها وسمت مكانتها إذا لم تُثمر خلقا سمحاً كريماً، وسلوكاً فاضلاً مستقيماً ، فالشهادات والالقاب لاتصنع انساناً بل هو الذي يصنعها، والشهادة الجامعية ليست بالضرورة جواز المرور الناجح الى الخلق السليم والادلة على ذلك اكثر من ان تعد، والتحلي بالأخلاق الحميدة جزء لا يتجزأ من الحياة الأكاديمية التي تتناغم مع الآداب القويمة وتتوافق مع أهداف المؤسسة الاكاديمية وسلوكياتها – أفرادا وجماعات – وفق اشتراطات ومسارات المنظومة الأخلاقية التي تحقق العدالة الانسانية وتسمو بالإنسان الى اعلى مراتب الانسانية.

قيم معنوية

ما عادت الجامعات اليوم معنية فقط بتزويد الطلبة بالمعرفة فقط، بل اصبحت مؤسسات معنية ببناء الانسان اخلاقيا وقيمياً ، ليكون عنصرا فعالا ومؤثراً في المجتمع ، ومن هذا المنطلق على الجامعات أن تحرص على تنمية بيئة أخلاقية داخلها داعمة وقائدة ومؤثرة وتعتبر ذلك جزءً من رسالتها، فلا انفصال بين تحقيق رسالة الجامعة و بين التزامها بالتنمية الاخلاقية .

والاستاذ الجامعي يمثل صفوة الطبقة المتعلمة ورأس الهرم الاكاديمي يفترض ان يكون قمة في الخلق الرفيع  سواء اخلاقيات المهنة او الاطار الاوسع للأخلاق التي يجب ان يتحلى بها كل انسان قويم، لان عليه مسؤولية تربية الأجيال، ورفد الوطن بخيرة الشباب والخبرات ليتخرجوا من تحت يديه قياديين أمناء على مصلحة الوطن وصون مكتسباته ، فما بالك اذا كان هناك خلل في تلك المنظومة.

الأخلاق هي جوهر وروح الرسالات السماوية وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالأخلاق وجعلتها أمر أساسيّ ، لأنها أهم القيم المعنوية والحضارية والانسانية التي سعت الاديان الى غرسها في النفوس البشرية، وهي الخصلة الاهم التي مدح بها سبحانه وتعالى رسوله الكريم(ص) في القرآن الكريم على كثرة سجاياه ، اذ قال الله تعالى (وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم) على الرغم من وحلم وصبر وشجاعة وفصاحة وعبادة الرسول الكريم وصفاته الاخرى التي فاق بها الجميع، الا ان الاخلاق كانت اهم معايير التفضيل الالهي، كونها أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً ، وعندما أراد الرسول الكريم شرح فلسفة بعثته ورسالته قال: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، كل ذلك يشير الى الأهمية الكبيرة للأخلاق ليس فقط من الجهة الدينية بل أيضاً للحصول على مجتمع صحي خالي من الأحقاد والجرائم.

إن الألقاب والشهادات وحدها لا تكفي للحكم على حقيقة الشخص ولا تمنحنا الحق لتقييمه فهناك العديد من الشهادات والألقاب العلمية لاسيما في المجتمعات النامية لا تعني شيئا على مستوى القيمة العلمية والعملية، لأنها لا تعبر بالضرورة عن الحقيقة الانسانية ، وهي ليست مقياسا للأفضلية، خصوصا وأن اغلب القاب اليوم أصبحت نوعا من مظاهر الترف والتفاخر التي يتم السعي لنيلها بكل الطرق الممكنة ولو على حساب كل ما هو أخلاقي ونبيل ، لان هناك اعتقاداً مغلوطاً بأن الألقاب تعطي السطوة وتمنح القوة وترفع أصحابها لمكانة مرموقة وتجذب الاهتمام المتوهم والتقدير الزائف ، وربما تضفي تلك الميزة لمن يسعى لها بريقاً وقتياً ولمعاناً لحظياً يزول مع أول تعامل ، فالمقاييس العليا للأخلاقيات الشخصية التي تمكننا من معرفة الحقيقة وتحدد لنا من الأفضل لا ترتبط أبدا بالشكليات الخداعة.

والجامعة بوصفها مركز اشعاع حضاري وثقافي ومنطلق فكري وعامل مؤثرً في محيطها المحلي تقع على عاتقها مسؤوليات كبيرة في مجال تعزيز الجانب الاخلاقي لطلبتها ومجتمعها المحلي وهذا لايتم الا من خلال صنع الانموذج التطبيقي الفاعل والمؤثر ليكون اسوة حسنة مؤثرة لدى الجميع، فمهنـة التـدريس رسـالة عظيمـة، ووظيفـة مـن أشـرف الوظـائف وللأســتاذ الجــامعي أهميــة واســعة فــي الحيــاة بشــكل عــام، وفــى الحيــاة الفكريــة والثقافيــة بشــكل خاص وله دوره الفعال في زيـادة الـوعي الثقـافي لـدى طلابـه، وفـى التنميـة الثقافيـة، والحضـارية فـي المجتمع ، ناهيك عن ان الالتزام الاخلاقي في التعليم الجامعي من اهم معايير ضمان جودة التعليم العالي لما له من اثر كبير في تكوين وتوجيه شخصيات وسلوكيات الطلبة وفق فلسفة اخلاقية ايجابية.

لكل مهنة اخلاقيات خاصة بها تتفرع من الاطار العام للأخلاق، وتبدو الاخلاقيات اكثر ارتباطاً واوضح مضموناً بالعمل الاكاديمي لان الاخير يتفرع وتتشعب جوانبه وتتعقد اثاره واسبابه لان المؤسسة الاكاديمية عبارة عن مجتمع مصغر يضم اقسام ووحدات والتزامات مختلفة مما يسمح في وضوح اخلاقيات معينة.

محتوى علمي

إن القول حول أخلاقيات العمل الاكاديمي عادة يتمثل في مبادئ عدة: منها الامتلاك التام للمحتوى العلمي للمادة وبشكل متطور ومستمر، والتعامل  الشفاف مع الموضوعات العامة والخاصة؛ وتنمية التفكير العلمي والاستقلالية لدى الطلبة، وبناء علاقات متزنة مع الطلبة، فضلاً عن احترام الجامعة وتعليماتها والنظام الاجتماعي، والديني، والقيمي، وعدم الخروج عن نظم المجتمع وضوابطه، ومن واجب الجامعة أن تعمل على وضع أطر مكتوبة ومعلنة في هذا الجانب.

 ومن أهم ما يمكن أن يعزز المفهوم الأخلاقي الاكاديمي هو حسن التعامل الأكاديمي والشخصي مع الطلبة او الزملاء او المنتسبين او المراجعين وتعزيز قيم العدالة والمواطنة الصالحة لدعم المجتمع وتقويته، وتعزيز القيمة الايجابية سلوكاً ومعرفةً وفكراً وممارسةً، وأن يعكس الاكاديمي صورة حقيقية وواقعية للمؤسسة التي ينتمي إليها، وبشكل يدعم أهدافها ورسالتها ويعزز من صورتها الجميلة في المجتمع من خلال تقبل الاخر وعدم الإساءة له أو لأفكاره، والرحمة والرأفة بالناس، وفهم معاناتهم ومعاملتهم بالعدالة والتساوي من خلال الإيمان بأن جميع الناس تستحق حقوقاً متساوية، ومعاملة متساوية أيضاً. و الصدق في القول والفعل، لذا فإن الجامعات كانت وما زالت مراكز قوة وبناء للخلق القويم، إذا ما تم تأطير منظومتها وفقا لرؤى سليمة ومتزنة ووفقا للواقع والمستقبل المنشود، لانها منارات للعلم والعلماء، وحاضنة رئيسة للبحث العلمي التطبيقي فيما إذا أحسنت صياغة وقولبة الأهداف إلى منظومة اخلاقية واقعية قابلة للتطبيق ، فهناك  أخلاقيات للإدارة الجامعية، وهناك اخلاقيات للتدريس والمناقشات والاشراف الاكاديمي والعمل الحقلي والميداني وغير ذلك من الجوانب، فضلاً عن اخلاقيات البحث العلمي الذي بات الشغل الشاغل للباحثين في الوقت الحاضر لاتساع القاعدة المعلوماتية وسهولة الوصول اليها وخطورة التعامل معها، اذ تُعَدُّ الأمانة العلمية واحترام الملكية الفكرية من الاخلاقيات التي تتطلب تثقيفاً خاصاً.

سيناريو مستقبلي

ان أخطر سيناريو مستقبلي يمكن تصوره هو التهاون الاكاديمي وعدم ايلاء موضوع المنظومة الأخلاقية الاكاديمية الاهتمام الكافي مما يسبب انهيار الأخلاقيات وهو أمر مفزع، وعلينا ان نعرف ان أي تهاون في مجال المنظومة الاخلاقية في العمل الاكاديمي ستنعكس مستقبلاً على الواقع التعليمي وبالتالي تفشي الظاهرة مجتمعياُ ، لان الحالة التي نحن عليها اليوم هي امتداد ونتاج لسياسة الامس، فالأخلاق عنوان صلاح الامم والمجتمعات وسلامة المجتمع تكون في تمسكه بفضائل الأخلاق.

مشاركة