الأبّوية العربية وتقديس المدنس –  سعد غالب ياسين

الأبّوية العربية وتقديس المدنس –  سعد غالب ياسين

ظاهرة بدوية تتحلّى برمزية في التحليلات النقدية

مقدمة

الأبوية العربية ظاهرة تاريخية واجتماعية تشكلت في نسق واحد ومن خلال عوامل تمكينيّة وتكوينية للمجمتع العربي الأبوي الذي لا يزال يعيش في مرحلة ما قبل الحداثة.

الظاهرة التاريخية للأبوية العربية تعني أن النسق الاجتماعي الثقافي الأبوي قد تشكل من خلال التاريخ وعبر عملية تراكم تصارعت فيها الأضداد والتناقضات في مراحل تاريخية مهمة من التطور المجتمعي والتي تسيدت فيها التكوينات الاجتماعية التقليدية الحياة العربية في الماضي والحاضر. والصراع في هذه العملية كان تحديداً مع القيم الاسلامية التي جاءت بمنظومة عقيدية تنويرية راسخة تقوم على الحرية والكرامة الانسانية والمساواة والتمايز على أساس التقوى والتي حاولت إعادة هندسة الفاعلية القبلية ضمن فضاء الرسالة الجديدة والأمة بمعناها الحضاري والديني والثقافي، إلا أن جدلية الدين والسياسة والدولة والقبيلة قد دفَعتْ باتجاه تعزيز مكانة القبيلة والعشيرة الأبوية في التاريخ العربي.

إذن الأبوية العربية كظاهرة تاريخية ونسق اجتماعي وثقافي يرتبط بتشكيلات اجتماعية تقليدية (القبيلة والعشيرة) لا تزال فاعلة ومؤثرة في الحياة العربية المعاصرة لأنها أكثر من مجرد تمَظهّر لنمط معين من علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية. إنّها في الواقع أعمق من هذا بكثير، وهي كظاهرة أبلغ من سذاجة التفسير الطبقي حتى وإن ارتبطت في مظهرها العام بنمط إنتاجي رأسمالي أو غير رأسمالي. بل يصح القول أن الأبوية العربية تمارس فاعليتها بحرية في جميع أنماط الإنتاج الرأسمالي وهي غائرة الجذور في أعماق الطبقات البرجوازية العربية، مثلما هي متجذرة في جميع طبقات وفئات المجتمع العربي. الأبوية العربية هي بنية اجتماعية  عميقة الجذور في التاريخ العربي، بنية نفسية وثقافية ناتجة عن شروط تاريخية وحضارية تكوّنت في الماضي وتتجلى في النظام التقليدي القائم على العصبية القبلية وتماهي الفرد مع قبيلته التي تبادله الولاء وتقدم له الحماية(1).

أبوية عربية

بطبيعة الحال تمتد الأبوية العربية إلى تشكيلات اجتماعية تتجاوز العشيرة والقبيلة لتصبح علاقات اجتماعية راسخة يُعيدُ المجتمع إنتاجها في المدرسة، المنظمة، الحزب السياسي، وفي الدولة وممارسة السلطة. وعندما تمتّد الأبوية العربية بهذه الصورة من النفاذ اللاشعوري في المجتمع فإنها تتحوّل كما يرى هشام شرابي إلى بطركية وبالتالي فإن مفهوم الأبوية أضيق من مفهوم البطركية لأنه محصور في بنية العائلة والبنى المتفرعة من العائلة كالعشيرة والقبيلة بينما يضُّم مفهوم البطركية البنية الاجتماعية بكاملها(1).

هكذا يرى هشام شرابي العلاقة بين الأبوية والبطركية، على أية حال وبغض النظر عن تمايز المصطلحين والمفهومين فإن الأبوية هي الأصل وتنشأ أولاً ضمن تقاليد العائلة العربية ثم تمتد لتعيد إنتاج علاقاتها ضمن العائلة الموسعة (العشيرة) وامتداد العشيرة وتجمعها من العشائر الأخرى لتشكيل القبيلة ومن ثم حضور القبيلة (القبيلة-الطائفة) في الحزب السياسي، وفي الدولة وأثناء ممارسة السلطة. ولكن ما هي هذه الأبوية من منظور اجتماعي وماذا تعني من رمزية؟ ولماذا تبدأ من العائلة تحديداً؟

هل لأن مركز العائلة العربية هو الأب وبالتالي فإن الأبوية تستهدف سلطة الأب في العائلة، أم لأن العائلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية التي يبدأ منها كل شئ والتي تتشكل فيها ومن خلال كل الظواهر الاجتماعية الأخرى هذه الأسئلة مهمة وتنتظر إجابات ومع ذلك فإن من غير الممكن تقديم إجابات سهلة وجاهزة ولكن دعنا نحاول وضع إطار مرجعي لمفهوم الأبوية العربية ورمزية الأب في العائلة العربية قديماً وحديثاً.

حول مفهوم الأبوية العربية

قبل الولوج في مضان مناقشة ظاهرة الأبوية العربية وتسللّها في شرايين المجتمع العربي لابدّ من العودة إلى تصور هشام شرابي لما يعنيه بالأبوية كمفهوم ورمزية في التحليل والدراسة. يقول شرابي “لا نقصد بالسلطة الأبوية سلطة الأب البيولوجي وحسب أي السلطة الأبوية داخل العائلة التي يقوم بدراستها علم اجتماع الجماعات الصغيرة، بل السلطة المنتشرة في البنية الاجتماعية المتمثلة بالنموذج الأبوي والنابعة منه والمتجسدة في علاقات المجتمع وحضارته ككل”(2). وبتفكيك هذا النص نستنتج أن الأبوية هي سلطة أولاً وأخيراً، سلطة تقوم على ممارسة القوة المعنوية والجسدية (الذكورية) التي يمثلها الأب في العائلة. وباعتبار الأب راعي البيت وحامي الأسرة من كل خطر بما ينطوي ذلك من جُهد حثيث ومشقة وعناء وسفر لتوفير لقمة العيش والمحافظة على وحدة الكيان الأُسري في حين تتفرّغ المرأة في معظم الحالات في شؤون تربية الأولاد ورعاية شؤونهم الصغيرة في الحياة.

إذن هناك سلطة وظيفية يمارسها الأب، وهذه السلطة نابعة من حيوية الدور الذي يقوم به وليس من مجرد امتلاكه لعناصر القوة التي تقود، إلى امتلاك هذه السلطة وممارستها ذلك لأن السلطة ببساطة لا تظهر من فراغ وإنما تتراكم وتعلو تأثيراً من خلال ممارسة الدور الوظيفي الذي لا يستطيع الآخرين ممارسته لعوامل تتعلق بالتوزيع الاجتماعي للعمل داخل الأسرة وخارجها. نقول أن الأبوية سلطة تمارس أنماطاً من القوة وهنا تفوح تأثيرات المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع الحديث وفي مقدمة أعلامها ميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم.المسألة الثانية التي تحتاج إلى وقفة تحليلية لنص شرابي هو أن الأبوية كما يراها لا تعني فقط سلطة الأب البيولوجي بل أيضاً السلطة المنتشرة في البنية الاجتماعية. ويوحي هذا النص أن المواجهة الأولى تبدأ مع سلطة الأب البيولوجي داخل العائلة كما تشمل السلطة المنتشرة في خبايا المجتمع والتي تتسرّب إلى أعماقه وتشرئب من شرايين قيّمة وتقاليده. ومع ذلك لا تبدو المشكلة من ناحية جوهرية في وجود الأب البيولوجي حيث لا يمكن تصور عائلة من دون أب، وإنما كما قلنا في أدواره التي تتسع لتصادر حرية الآخرين داخل العائلة.

صحيح أن العائلة الأبوية هي النمط السائد في كل المجتمعات العربية والآسيوية والإفريقية وحتى في بعض المجتمعات الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية لكن المشكلة في ظاهرة الأبوية العربية هي في رسوخ التسلط الأبوي الذي تغذيه عندنا القيم البدوية والعشائية والقبلية. بينما نرى في المجتمعات الأخرى أن الظاهرة الأبوية من حيث هي ممارسة للسلطة داخل العائلة تكون أكبر وفق العقد العائلي الاجتماعي المتفق عليه من دون تقييد واسع لأدوار الأفراد في المجتمع. ثمّ أن هذه الظاهرة لم تتسلل إلى النظم الإدارية والاجتماعية والسياسية وغيرها كما هو الحال في المجتمع العربي.

وأظن أن المشكلة الجوهرية تكمن في التصور القبائلي للسلطة الأبوية وأداور الأب في إطار العائلة وتحول هذه الأدوار إلى نموذج للعلاقات الاجتماعية خارج العائلة. بمعنى آخر إن الأبوية العربية ظاهرة ممتدة إلى جميع مكونات المجمتع العربي، بل هي الفاعلية الداخلية التي تتخفّى في بنية النظم الإدارية والسياسية والاجتماعية والثقافية لأنها ببساطة فاعلية تتجسد في نموذج سلطة الأب (الراعي). إذن الأبوية العربية سلطة واضحة في ممارسة الأب البيولوجي داخل العائلة وهي بنية اجتماعية عميقة ولكنها مخفية ومسكوتُ عنها وتتجلى في علاقات الحاكم بالمحكوم، الزعيم السياسي بأعضاء الحزب، الزعيم بالجماهير، الرئيس بالمرؤوسين، المعلم بالطلبة وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته والصوفي بالمريدين من اتباعه وزعيم الطائفة بأبناء طائفته. لقد أصبحت السلطة الأبوية العربية رمزاً عتيداً لكل سلطة أخرى في داخل المجتمع العربي فهناك ثبات في قانون إنتاج هذه السلطة وتوليدها في جميع مستويات المجتمع وطبقاته.

 فلا يغرّنك ما يسمى بالطبقة البرجوازية العربية سَمّها ما شئت لأنك لو تمعّنت النظر بممارساتها وعلاقاتها البينية ستجد كيف تتوائم مظاهر الحداثة وقشورها السطحية مع مضامين العلاقات الأبوية العتيقة التي تفوح برائحة التسلط الفردي وتجذّر القيم القبائلية والعشائرية والطائفية وغيرها.

إن الأب البيولوجي، ربّ الأسرة بالمعنى التقليدي لا يمثل إلا رمزاً بسيطاً في ظاهرة الأبوية العربية فإذا كان هناك ما يمكن فهمه وتبريره في تطور السلطة الأبوية داخل العائلة العربية لعوامل اجتماعية واقتصادية لا تخرج أبداً من شعور الأب الذي يريد أن يكون رمزاً لعائلته وحانياً عليها بما يملك من سمعة حتى كأنه يريد عن وعي أو دون وعي ممارسة دور المستبد العادل وسط أولاده وبناته وهو أيضاً الجمل البازل أمام زوجته.لذلك لا يمكن فهم انتشار هذا النموذج الأبوي في التعليم والإدارة والدولة وفي حياة الأحزاب السياسية العربية بمختلف تياراتها القومية والماركسية والليبرالية والاسلامية من دون فهم آليات إنتاج الأبوية العربية في الخطاب والممارسة والعلاقات الاجتماعية وباعتبارها قانون موضوعي يعمل بصفة دائمة ومستمرة. إن الأبوية العربية هي الصدى الأصيل للذات العربية عبر التاريخ.لذلك ما يهمنا ونحن في صدد تفكيك ظاهرة السلطة الأبوية العربية تحليل خوارزميات تشكلّها وإعادة إنتاجها في المجتمع من ناحية ودراسة ما أفرزته على مستوى الزعامة السياسية والحكم الفردي من ثقافة تقديس المدنّس وتدنيس المقدّس لعلنا نستطيع فهم الوثنية السياسية. فعندما يوجد الاتباع المتملقون والأشياع المرائون يوجد الحكم المطلق كما يقول محمد الغزالي(1). ومع ذلك فإن الوثنية السياسية لا تظهر بسبب وجود الرياء بين السادة والاتباع حسب وإنما أيضاً وهذا هو الأهم بسبب وجود جدلية اجتماعية تنتج ثقافة السلطة الأبوية الغاشمة وتعيد إنتاجها في كل علاقة. ما نريد أن نقوم بتفكيكه هو جدليّة السلطة الأبوية العربية وفضاءاتها الفكرية وعلاقاتها بظاهرة تقديس المدنس وتجليات هذه الظاهرة في الممارسة العملية.

خصائص الأبوية العربية

ذكرنا أن السلطة الأبوية لا تقتصر على المجتمع العربي بل توجد في مجتمعات كثيرة أخرى وبخاصة في دول الجنوب. والسلطة الأبوية لا ترتبط بدين معين أو ثقافة محددة وإنما تجدها كظاهرة على مستوى العائلة والقبلية في آسيا وأفريقيا وغيرها. والسبب يعود ببساطة إلى  أن السلطة الأبوية وبغض النظر عن المجتمع الذي توجد فيه تقوم على علاقات الإخضاع والخضوع وممارسة السلطة من حيث هي فاعلية فردية بالأصل لمن يملك قوة الهيمنة والتأثير. ولهذا يرى فوكو أن علاقات السلطة ومسائل الهيمنة لا تخص النظم التوتاليتارية (الشمولية) وإنما تميز كذلك المجتمعات الديمقراطية. وكل هذا صحيح لكن ما يميز الأبوية العربية باعتبارها ظاهرة إجتماعية وتاريخية هي امتدادها الواسع أفقياً وعمودياً في المجتمع العربي حتى يمكن القول أن الأبوية وما أفرزته من قيم وتقاليد وسلوك هي القوة الخفية المحركة للسلوك الفردي والجماعي في المجتمع العربي. وتتجلى هذه القوة بوضوح عند دراسة الأحزاب السياسية العربية والممارسة السياسية لنظم الحكم في الماضي والحاضر. ففي جميع هذه الحالات سنجد كيف تُنتزَع السلطة وكيف تمارس. إنها تنتزع بالقوة والغلبة وتؤخذ بالمجالدة هكذا كان الحال منذ أيام الأمويين والعباسيّين الى الانقلابات العسكرية والثورية العربية. فإذا كانت القوة والغلبة انطلاقاً من عُصبة العائلة، أو القبيلة أو المجموعة المسلحة أو الحزب السياسي هي ميادين انتزاع السلطة فإن ممارسة القمع هو مَهمْزها وأسلوب عملها وفي هذا يصف فوكو السلطة بأنها الحرب المستمرة بوسائل أخرى على عكس مأثور كلوزفيتز.

” السياسة هي استمرار الحرب بوسائل أخرى”(هذا يعني أن السلطة الأبوية من منظور فوكو هي علاقات السلطة كما تُمارَس في مجتمع ما، ولها علاقة بالقوة في لحظة زمنية تاريخية محددة.

وكما هو الحال في كل سلطة فإن السلطة الأبوية تقوم هي الأخرى على القمع لكنه القمع الذي يحظى بقبول أفراد المجتمع. أي القمع الذي يجد لنفسه تبريراً وتفسيراً في البنية المجتمعية ومنظومة القيم والتقاليد التي تُنْتَج أو التي تقوم السلطة الأبوية بإعادة إنتاجها على مرَّ عصور وقرونٍ طويلة في التاريخ.ضمن هذا السياق يمكن القول أن للأبوية العربية خصائص فريدة تميزها عن النظم الأبوية (البطريكية) الأخرى.الأبوية العربية لها إستمرارية تاريخية فالنظام الأبوي العربي لم يولد فجأة وهو ليس ظاهرة مرحلية أو موقتة. الأبوية العربية ظاهرة اجتماعية وتاريخية أصبح لها صفة الديمومة لعوامل كثيرة ترتبط بطبيعة التطور التاريخي للمجتمع العربي الذي تحول تدريجياً هو الآخر إلى مجتمع سلطوي. كما ترتبط الأبوية العربية بعلاقة تواطؤ مع دولة السلطة القائمة (الحاكمة) وبخاصة بعد أن أصبحت دولة الأمة سلطة العائلة أو القبيلة الحاكمة. أقول إن الأبوية العربية ظاهرة ملازمة للمجتمع العربي وستبقى كذلك طالما حافظ هذا المجتمع على بنيته التقليدية ممثلة بالعائلة والعشيرة والقبلية أو الطائفة إلى غير ذلك من التشكيلات الاجتماعية التقليدية.

 وتساهم تقاليد العائلة العربية والعريقة في تعزيز ديمومة الأبوية العربية من خلال التعاقب حيث يخصص الأب لابنه الأكبر كرائم ما خلفه من منصب أو جاه أو غير ذلك وقبل سائر أبنائه باعتباره ولي العهد المرتقب. وما زالت حقوق انتقال المنصب والدرجة والجاه والوضع الاجتماعي أو وراثة الفرق الدينية ومشايخ الصوفية وغيرها مستمرة في المجتمع العربي إلى حد الآن(1). إن ظاهرة التعاقب على مستوى العائلة العربية هي آلية مبتكرة أخرى لإعادة تثبيت الحضور الطاغي (الفعلي والنفسي) للأب البيولوجي، للأب الشيخ أو للأب المؤسس، الأب القائد، الأب الحاكم الذي يختار وليَّ عهد بصفة دائمة في النظام السياسي العربي وبغض النظر عن طبيعة هذا النظام جمهورياً، أميرياً أو ملكياً.

ابن جديد

وعندما لا يكون للأب القائد ولد يمارس السياسة من بعده سيضطر إلى تبني الابن الجديد ليكون وليَّ عهده الأمين كما يتمنى. المهم هو استمرار فاعلية الدور الوظيفي للأبوية العربية بالصورة التي تريدها الفئات المجتمعية المستفيدة.

التعاقب الأبوي هو أيضاً تعاقب وظيفي يضمن استمرار أدوار الأب (الغائب) بسبب الموت لكنه الحاضر المقدس بقوة في حياة أبنائه وأحفاده. والغريب أن القداسة والرمزية التي تؤطر الأب العتيق تزداد كلما توالت الأجيال وتباعدت السنين لأنه يشير ببساطة إلى رمزية وأيقونة مقدسة فإذا لم يكن الأب الأول حاضراً في جسده فهو حاضراً في روحه وتأثيره المعنوي الممتد عبر أحفاده.

إن الأب المقدس يصبح “الطوطم” لأنه الأب الأول للعشيرة والروح الحامية لها والمعين الذي يعرف أبنائه ويصونهم. ثم يصبح الطوطم تابو صاحب المهابة القدسية والذي يضفي رعايته على أبناء بلدته وعشيرته وبخاصة الأشخاص المعتبرين منهم(2). إن الحضور المعنوي المؤثر للجد الأسطوري أو للأب المعبود هو أحد أهم عوامل بناء التضامن التلقائي بين أبناء العائلة أو العشيرة والقبلية الواحد التي تنتمي إلى الجد أو الأب (الأسطورة أو الحقيقة).

وبالتالي يمكن القول أن وجود الأب المعبود واستمرار تأثيره الفاعل في حياة الجماعة يساعد في ضمان استمرارها الرمزي والمعنوي حتى مع استمرار عمليات التفكيك التي تتعرض لها الوحدات الاجتماعية التقليدية (العشيرة والقبلية) في المجتمع العربي.

السمة الثانية للأبوية العربية تتمثل بالبداوة، فالأبوية العربية بدوية في جذورها التاريخية وسياقها الاجتماعي ومنظومتها القيميّة. هذا لا يعني أن الأبوية العربية ظاهرة ساكنة لا تتبدل وعَصّية على التغير. على العكس فإن الأبوية باعتبارها ظاهرة إنسانية وإجتماعية هي في حالة صراع جوهري مع قيم ونظم الحداثة. صراع يضع الإنسان العربي وسط تلاقي قوى تضاد تشده إلى التراث والماضي بتقاليده وقوى حية أخرى تدفع به صوب الحضارة والمدنية وربما صوب الحداثة الحقة. ويبقى الإنسان العربي مشتتاً بين اتجاهين متعاكسين فهو في الوقت الذي يريد أن يبقى على هويته وثقافته يسعى إلى أن يعيش عصره ويساهم في بناء مستقبله. هذه الأزمة الإنسانية والوجودية المزمنة على المستوى الفردي والاجتماعي تشكل مظهراً من مظاهر أزمة بنيوية أخرى للأبوية العربية فالأبوية العربية ليست بدوية تماماً وليست بالتأكيد ظاهرة مستقلة عن البنية البدوية ذات الجذور العميقة في المجتمع العربي المدني.

 المجتمع العربي محاصر بمساحات واسعة في الصحراء وفضاءات البداوة التي تقدم له موجات الهجرة المستمرة إلى “الحواضر العربية” فتختلط البداوة بالحضارة كما تختلط القيم البدوية بالقيم الحضارية. ويغلب على الثقافة البدوية القادمة إلى الحواضر العربية وبخاصة في عراق الرافدين مركب العصبية والفخار بالنسب والثأر والنجدة ومركب الغزو وهو يحتوي قيم الشجاعة والعزة والأباء، ومركب المروءة ويحتوي على الفخار بالضيافة والكرم وحماية الدخيل والجار(1). هذه القيم التي لا تستطيع أن تتعايش مع القيم الحضارية في المدينة العربية وبخاصة القيم التي تتعلق بالسلوك المدني واحترام العمل وحضور سلطة المال والتملك والحقوق الفردية الأساسية يضفى على الشخصية طابع الازدواجية من دون إدراك معنى السلوك المتناقض الذي ينشأ بسبب تأثير نظامين متناقضين من القيم والمفاهيم(2).

 إن صراع البداوة والحضارة هو قانون موضوعي يحكم التطور التاريخي للمجتمع العربي ولا أحد يستطيع أن يتجاهل حقائق صراع البداوة والحضارة منذ أن كتب إبن خلدون مقدمته في التاريخ الاجتماعي للعرب إلا أن الجديد في تحليل عميد علم الاجتماع العربي علي الوردي هو ما ينتجه هذا الصراع من ظاهرة إزدواجية الشخصية كما تتجلى بأحلى مظاهرها في العراق. ولأن الإنسان صنيعة بيئته وثقافته فمن المنطقي القول أن الثقافة البدوية تساهم في صنع جزء مهم من عالم “اللاوعي” ومن “اللاشعور الجمعي” للإنسان العربي بينما تساهم ثقافة الحضارة (القديمة المتأصلة والجديدة الوافدة) مع مظاهر الحداثة الغربية في بناء الوعي الإنساني وهنا يلتقي اللامفكر فيه مع المفكر في ضفاف مشتركة لكنها غير منسجمة وقلقة تبدو معها الشخصية العربية في تجاذب غير محسوم أحياناً، وفي إزدواجية واضحة في أحيان أخرى.

والسبب يعود إلى قلق الإنسان العربي وغياب خياراته الواعية من جهة وضعف إدراك مكوناته اللاوعية من جهة أخرى ناهيك عن الحضور الفاعل والمؤثر والمزدوج لثقافات وقيم متباينة ومتناقضة وفي مقدمتها ثقافة البداوة وثقافة الحضارة.

 بهذا المعنى يقول علي الوردي أن الفرد العراقي أصبح مضطراً أن يقتبس نوعين من القيم الاجتماعية أو يقلد البدوي الغالب والفلاح المغلوب(1). شخصية البدوي والفلاح موجودة معاً في الكينونة العراقية لكن شخصية البدوي والمتعلم (المتحضر) فاعلة ومؤثرة أيضاً. صحيح أن ما يبدو جلياً على السطح هو تمظهر الحضارة والرقي والتمدن لكن ما تختفي في العمق من دون أن تفقد قدرات التأثير والتوجيه هي البداوة التي تتجلى في لحظات الإثارة والغضب أو فترات هيجان العاطفة والمجادلة مع الآخر.

ولا يبدو بالنسبة لنا على الأقل ما يسميه علي الوردي بالاقتباس الواعي للقيم الاجتماعية التي قلنا أنها تتأرجح ما بين البداوة والحضارة لأن هذه القيم بطبيعتها غائرة في اللاوعي واللاشعور وإنما تمارس حضورها التلقائي في لحظات الاستدعاء الذهني كما تقتضي ضرورات الصراع الاجتماعي.

وهذا التحليل هو الأقرب إلى كلام الوردي نفسه حيث يقول في وعاظ السلاطين ما نصه” ولعلي لا أبالغ إذا قلت بأن العربي بدوي في عقله الباطن مُسِلمْ في عقله الظاهر فهو يُمجّد القوة والفخار والتعالي في أفعاله بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله. العراقي أكثر ازدواجاً من بين أبناء الأمة العربية لسببين هما أن العراق كان ولا يزال يتلقى من الموجات البدوية قسطاً يفوق ما تتلقى به البلدان العربية الأخرى والثاني هو أن العراق كان منذ صدر الإسلام منبعاً من منابع الفرق الدينية”(2).

ما يهمنا من هذا النص الفريد للوردي هو مقاربة العقل الباطن حاضن الثقافة البدوية (والأبوية بطبيعتها وسجاياها وقيمها) والعقل الظاهر الذي يتمظهر بقيم الحضارة والحداثة. فطالما سجلت الثقافة البدوية الأبوية حضورها المؤثر والفاعل في بناء الشخصية العربية فإن فرص تراجع تأثير الأبوية العربية ونفاذها الواسع في البنية الاجتماعية يبدو ضعيفاً ومحدوداً للغاية بل ربما يعني هذا بقاء الشخصية العربية حبيسة النظام الأبوي المتوارَث والحديث.

من مظاهر تأثير البداوة في الأبوية العربية المُمَاثلة الواضحة بين السلطة الرعوية والسلطة الأبوية، بين الأب (الراعي) والأبناء (الرعية).

 وهذه المماثلة لا تخلو من تصورات مقدسة مبطنة بين وحدانية (الأب) المنفرد والكثرة من الأبناء والرعية، كما لا تخلو هذه التصورات من أولوية عصمة الأب وحاكميته على الغير إنطلاقاً من وظيفته المقدسة.

لقد سبق لفوكو أن كتب عن أهمية المَماثلة بين الراعي والرعية (القطيع) في الثقافات الشرقية بينما كتب الجابري عن تأثير هذا المفهموم في تشكيل البنية اللاشعورية للعقل السياسي العربي أو بنية اللامفكر فيه عند محمد أركون. أما عن تأثير تصور العلاقة بين الراعي والرعية في تعزيز فاعلية الأبوية العربية وحضورها في نظمنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية وغيرها فقد كانت خارج دائرة الضوء لاهتمام الدراسات آنفة الذكر بالتحليل الايبستمولوجي للعقل العربي (الجابري) والعقل الإسلامي (أركون).

إن الأب (الراعي) مقدس بحكم طبيعة وظيفته وما تحتوي من حماية ولأن شخص الراعي الذي يقود رعيته أو لنقل قطيعه يجد نفسه مع الرعية على حافة الحياة دائماً وكأنه في صراع أبدي مع الموت فكل شخص في الصحراء آكل أو مأكول، حياة أو موت وعندما تكون الحالة كهذه يصبح الانشغال بمقاومة الموت أهم من الزمن الذي تتراجع أهميته إلى حد الاختفاء(1). وبسبب هذا الصراع الوجودي تزدهر ثقافة المجالدة والغلبة طالما كانت حياة البداوة كفاح من أجل البقاء.

كما تزدهر طقوس عبادة الأب (الراعي والحامي) لقطيعه من الموت فهو واهب للحياة والساهر على توفير لقمة العيش بشرط أن يحذو القطيع خطوات الأب (الراعي) ويتبعه في حِلِّهِ وترحاله.

 إن النياق الشاردة لا تقوى على الحياة وسوف يتداركها الخطر من كل حدب وصوب إلا إذا التحقت بخط مسير القافلة التي يقودها الأب (الراعي)، حامي الحمى والديار. هذه الرؤية العجيبة تعيد إنتاج نفسها في بنية الأبوية العربية لأنها رؤية متوازنة تسكن اللاوعي الجمعي وتعيد إنتاج نفسها بصورة تلقائية ومستمرة من خلال استمرار فاعلية حاضناتها الاجتماعية من تشكيلات عشائرية وقبلية وجهوية وطائفية وغيرها.

ومثلما تلتحم الأبوية العربية بالبداوة فإنها تلتحم بالعصبية القبيلة. فالأبوة بمعناها السياسي رعاية وحماية ورئاسة والرئاسة لا تقوم عند العرب إلا بالغلبة والغلبة تتطلب العصبية، أي إن العصبية شرط من شروط الرئاسة والزعامة.

يقول إبن خلدون “الرئاسة لا تكون إلا بالغلب والغلب إنما يكون بالعصبية فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدةً واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا باالاذعان والاتباع”(1). وترتبط العصبية بمفهوم القرابة وصلة الرحم والنصرة على ذوي القربى من أهم الأرحام. إن العصبية عند إبن خلدون تقوم على “الالتئام بالنسب أو في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر ومن صلتها النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم تهلكة.

ومن هنا نفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم (تعلموا أنسابكم ما تصلون به أرحامكم).

 بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في هذه الوصلة(2).

إن الرئاسة أو الزعامة الأبوية سَمَّها ما شئت لا تقوم عند إبن خلدون إلا على الغلبة والغلبة لا تتحقق إلا بالعصبية ومن خلال عُصبة أقوى من العصبيات الأخرى. وبهذا المعنى يشير إبن خلدون إلى أن “كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو أخوة بني أب واحد… والنصرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة والرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكل، ولما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها(3)”.

 إذن الزعامة الأبوية لا تقوم إلا بغلبة عصبية ما على بقية العصائب ولذلك يفضَل أن تكون العصبية الجديدة لدعوة دينية أو ولاية أو إمامة أي أن تكون ملازمة للمقدس فإذا لم يجتمع العرب على راية العصبية ودينها القوة والمجالدة فإن قبائل العرب وبطونها تجتمع بالتأكيد إذا حملت رايات “المقدس” إنتصاراً لدين أو مذهب أو إمامة أو أي شرعية دينية أخرى. هكذا كان حال معظم الدول التي قامت من أموية وعباسية وفاطمية وغيرها. يقول إبن خلدون “إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة فقلما تجمع أهواؤهم فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم”(1).

إن المقدس يساعد في تخفيف التناقض العصبوي القبلي وما يكتنفه من منافسة ومجالدة في سبيل الاجتماع على عصبية عامة جامعة تجبُّ جميع الخلافات وتُصِهر جهود الناس لهدف ديني حتى وإن كان في باطنه سياسي يطلب الرئاسة أو الزعامة لبيت أو لعصبية أو قبلية.

إن العصبية القبيلة بجميع أشكالها وتجلياتها الاجتماعية والجهوية وحتى الطائفية كانت ولا تزال من أهم مُحددات العقل السياسي العربي كما يقول محمد عابد الجابري(2). ويمكن أن نضيف إلى مقولة الجابري بالتأكيد على أن العصبية القبليّة أو الطائفية كانت ولا تزال من أهم مقومات تشكيل العقل الأبوي العربي.

 إن العقل السياسي العربي هو عقل أبوي محكوم بمُحددات قوية فبالإضافة إلى سلطات اللفظ والأصل والتجويز الذي تحدث عنها الجابري في كتابه بنية العقل العربي توجد سلطة الأب أيضاً وربما تتقدم سلطة الاب التي تحتوي سلطة الأصل (والسلف) بقية المحددات الأخرى التي اقترحها الجابري.

 إن سلطة الأب التي نقترحها ونناقشها في هذا الكتاب تستوعب سلطة الأصل التي تبدو أشبه بالعودة الحلزونية المستمرة إلى الماضي القريب أو البعيد بحثاً عن حلول أو تنقيباً عن معالجات سابقة.

العودة الحلزونية للسلف تشتد كلما ازدادت قوة علاقة السلف بالخلف إطّراداً ورسوخاً مع استمرار بنية النظام الأبوي القديم والمستحدث، أي مع استمرار ظاهرة الأبوية العربية باعتبارها ديمومة وصيرورة تتشكل من نظام أبوي قديم يعيد إنتاج نفسه في نظام مستحدث ليس له من الحداثة إلا مظهرها وتقنياتها.

هذا التأثير لسلطة الأب باعتباره الأصل والسلف يعود إلى استمرار البنية القبلية والعشائرية والطائفية في المجتمع العربي وإن كان حضورها بنسب متفاوتة هنا وهناك. لكن حتى في الدول العربية التي حاولت تفكيك هذه البنى من خلال برامج التنمية والتطوير الحضاري لا تزال العصبيات التقليدية مستمرة رمزياً وثقافياً وهي لا تألو جهداً في سبيل اعادة انتاج ملامحها في مناسبات معينة وبصورة دورية(3). أما في معظم الدول العربية الأخرى فإن البنية القبلية والعشائرية هي جزء من مكونات النظام الاجتماعي والسياسي لدولة القبلية، دولة العائلة الممتدة أو دولة الحزب الحاكم الذي لا يخلو هو الآخر من تأثير الدور القبائلي والطائفي. ولا يخفي على أحد أن الشرعية السياسية لبعض الدول العربية قائمة على أساس استمرار العقد التاريخي بين القبلية والمذهب، القبلية والطائفة، القبلية والحزب السياسي.

 ولذلك لم يستطع المجتمع العربي في مشرقه ومغربه الخروج من سجن البنى التقليدية السابقة للحداثة وللتطور الرأسمالي إذ بقي هذا المجتمع أسير تشكيلاته القديمة والمتوارثة والممتدة في هياكل الدولة الوطنية.

بهذا المعنى، يمكن القول أن هناك تواطأً خفياً بين العصبية القبلية والطائفية والنظام الأبوي العربي وتواطأ واضحاً وجلياً بين التشكيلات القبلية والعشائرية والطائفية ونظم الدولة الوطنية حيث تقوم كل هذه التشكيلات على التراتبية، الهيمنة وحاكمية الأب (صاحب السلطة) وتبعية الرعية وخضوعها. تبعية الرعية يرافقه شعورها بالعجز وربما الخوف من قوة عصبية الأب (الحاكم) ومن نتائج ممارسته للعنف باعتباره حقاً أصيلاً له وحده ولسلطاته التي تمارس العنف أيضاً وبتخويلٍ منه. وهنا لا تمارس الدولة العنف عبر مؤسساتها باعتبار أن العنف حق محصور في الدولة وفق الدستور والقوانين المعمول بها إنما يصبح العنف حقاً شخصياً يمارسه الحكم على المحكوم بل تمارسه عصبة الحاكم من أقربائه الذين يلازمونه(1). وربما يمارس العنف من قبل الذين يلازمونه من غير أقربائه لأنّ القرب منه هو بحد ذاته حقوق ومزايا إستثنائية وغير مسبوقة على الإطلاق.

ذكرنا أن الأبوية العربية تتميز بالديمومة والتعاقب والبداوة والعصبية بأشكالها الإجتماعية المختلفة (العشائرية، القبلية، والطائفية)، هذه الأبوية لكي تتحقق يجب أن تكون رمزاً مكتملاً للفحولة المنشودة.

 الأب (الحاكم، الزعيم، الرئيس) والأب (الشيخ) يجب أن يكون جملاً بازلاً كاملاً ومكتملاً. الجمل البازل هو وصف الفرزدق للشاعر الفحل المكتمل. والفحل كما يقول عبد الله الغذامي ذات مغلقة لا تُقيم وزناً للآخر فالآخر بالنسبة للفحل ليس سوى صدى للذات التي هي معادل صوتي للمطلق، وهي ذات مُذَكرّة وإذا ما حاولت المرأة أن تقول الشعر فهي دجاجة تصيح صياح الديك(2).

 وما ينطبق على الشعر ينطبق على السياسة وثقافة الإدارة وتقاليد الحكم في الدولة العربية. الجمل البازل والفحل هو ذات متعالية على الآخرين، تشعر بتسامي الذات المقترنة بالنظرة الدونية للآخرين. تعالي ذات الأب الفحل لا تظهر من فراغ وإنما تظهر مقرونة بخصائص شخصية ونفسية تشكل ما يعرف “بالكاريزما”.

 شخصية الأب الكارزمية تقوم في الثقافة العربية على نموذج الفارس (البطل) حادي الركب ورمز الشجاعة والمروءة، والتضحية بالنفس وعنوان الكرم، والشهامة والصدق في القول والعمل. الأب الفحل هو أقرب ما يكون إلى الصورة الجميلة الباهرة للذات العربية والتي رسمها لنا أبو الطيب المتنبي وكانت كما يقال سبباً لمقتله:

            الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني             والسيف والرمح والقرطاس والقلم

الأب (الفحل) هو ضمنياً ذكر أو ذات ذكورية بتعبير عبد الله الغدامي. الذكورة ترمز إلى القوة، فالذكر يجب أن يكون قوياً وخشناً ليقابل المعادل الإنساني الآخر المتمثل بالأنثى والتي يجب أن تكون رمزاً للضعف والرقة والدلال.

 وللذكورة القوية والأنوثة الضعيفة دلالات إجتماعية راسخة في تكويننا النفسي والعقلي. ومن دلالات العلاقة بين الذكورة والأنوثة (القوة والضعف) ما ذكره لنا علي الوردي في تحليله العميق لثقافة الزقاق العراقي وكيف يدور التباهي بين كلمتي القوي والضعيف أو بعبارة اللهجة العراقية المحلية (السبع والمخنث). فكل طفل في الأزقة العراقية يحاول أن يشتهر بصفة القوة ويبعد عن نفسه شبه الضعف لأنه لايريد أن يوُصًمْ بوصمة التخنّث فهو بطل يحاول أن يظهر بطولته بالاعتداء على غيره ممن هو أضعف منه(1).

جدلية العلاقة بين القوي والضعيف، الفحولة والخنوثة هي التي تحكم سلوك الذات الذكورية التي تنشد الفحولة على مستوى (العائلة) والعشيرة والقبلية، وفي المدرسة والإدارة والدولة.

إن الذي ينشد الفحولة السياسية يجب أن يكون قوياً وخبيراً في ممارسة القوة إنطلاقاً من تمارين ممارسة القوة والتسلط على أقرانه في قرى الريف أو أزقة المدينة العربية إلى ممارسات التسلط والقمع في أجهزة الأحزاب السياسية الثورية أو منظومات الدولة الوطنية.

ولذلك فإن السلوك السلطوي الانفرادي لقادة وسياسيين عرب ومعظمهم لا يخلو من الإخلاص والوطنية لا يعود إلى تعطشهم الذاتي للسلطة فهذا هو نصف الحقيقة كما يقول محمد جابر الأنصاري أما النصف الآخر والأهم فهو الفراغ السياسي وغياب المؤسسات وسيادة تركيبة مجتمعية وتوجه مجتمعي عام يسمح بهذا الانفراد بالسلطة أو يُحتّمه ويعزز غالباً هذا النوع من الحاكمين(2).

نعم إن البنية الإجتماعية العربية في الزقاق والأسرة وفي المدرسة وبيئة العمل وفي هياكل الإدارة ونظم المجتمع وأجهزة الدولة تساعد جميعها في إنتاج ظاهرة الأب الفحل لأننا ببساطة نحترم القوة، ونفتخر بالفحولة، ونتباهى بالقدرات الجسدية الخارقة للبطل الذي نتمنى أو نتخيل ونقبل في الوقت نفسه بسلوكه المتعالي والمتسلط لأنه يمارس السلطة ومن يمارس السلطة على الآخرين يشعر بسمو ذاته وأن إرادته تعلو على إرادة الخاضعين.

 إن ممارسة السلطة تخلق لدى الحكام شعوراً بالسمو حتى ولو كان الحاكم عادياً في قدراته فإنه بعد ممارسة السلطة يتولد لديه إحساس بأنه مختلف عن أمثاله من أفراد الشعب وأنه يتمتع بإرادة من طبيعة سامية(1). ومع ذلك، فإن الشيء الذي لا يزال يستعصي على الفهم والإدراك حتى مع كل التحليل الذي ذكرناه هو كيف يمكن فهم قبول المجتمع طواعية أو كرهاً لهذا النوع المبهم من والفج من تعالي الحاكم وتساميه وبالتالي الخضوع لإرادته بإذلال في بعض الحالات؟

 هل بسبب الخصائص الكاريزمية التي نعشقها في الحاكم المُلَهم والأب الفحل، أم بسبب شوقنا الطفولي إلى البطولة التي نفتقدها ولا توجد إلا في مخيلنا الاجتماعي والديني؟ أم لأننا انتظرنا طويلاً الرجل المنتظر المنقذ وعجزنا عن الإنتظار أكثر لقساوة واقعنا وتوالي هزائمنا وإنكساراتنا؟ أم أننا لا نريد ضياع الأمل ونتشبث كالأطفال بالأب الحاني الذي يَقيلُ عثرتنا ويحنو علينا عند كل كبوة وفشل؟

 ربما يعود خضوع الجماعة العربية وشوقها للبطولة والفحولة إلى الشعر العربي. فحولة الشعر في الكلام والفعلُ، وفحولة السياسة التي نريدها في الكلام. إنَّ ما هو ثابت حقاً هو شوقنا الدائم للأب القائد والفارس المنتظر الذي يقود جحافلنا ويحقق لنا أخيراً النصر التاريخي المرتقب. وتبقى المشكلة أننا نبالغ دائماً في إضفاء خصائص القوة والمجد التي نريدها ونقوم بإسقاطها على السياسيين والحاكمين من دون أن يكون لهم هذه الخصائص والقدرات. ولذلك يكون التعالي من قبل الأب والذي يقابله شعوراً بالعجز والدهشة عند التابعين سبباً مباشراً لتقديس الحاكم وتقليده في سلوكه وملبسه وكلامه وطريقة حديثهِ وشكله العام، فإذا كان الحاكم مفتول أو كثيف الشوارب أصبح تقليد المحافظة على الشوارب رمزاً فحولياً لرجولة الحاكم والمحكوم ومظهراً من مظاهر التماهي الجماعي في صورة الحاكم المحببة من قبل الناس. ومن المهم بالنسبة للسياسي والحاكم العربي المحافظة على الصورة المُبَّجلة العامة له عند الناس مع المحافظة على عُنصَري التعالي والغموض الشخصي الذي قد ينسج الأساطير والخرافات من حوله ليبدو الحاكم والزعيم السياسي وكأنه من طبيعة أخرى غير طبيعة البشر. إذن القداسة تولد مع الذات الذكورية، ذات الفحل (الأب) الذي لا يعرف ضعفاً ولا تعباً، الساهر دائماً على أحوال الناس والمتمثل أبداً لروح الأجداد العظام من القادة والفاتحين، وهكذا تصبح الذات الذكورية للأب (الفحل) قصةً أُخرى.

 إن الفحولة كما ذكرنا ذكورة والأنوثة خنوثة وضعف. الذكورة إستحواذ وغَلبَة ورجولة كاملة غير منقوصة. يقول علي الوردي لا يوجد في البادية مكاناً للضَعيف ويقيس البدو الرجولة الكاملة بقياس الغلبة والإستحواذ وهم إذ يمدحون رجلاً يقولون عنه أنه “سبع” أي أسد يأخذ حقه بذراعه ولا يقدر عليه أحد(1).

وإذا اجتمعت الذكورة بالفحولة تكون القدرة على الإستحواذ أكبر إبتداءاً من الإستحواذ على الأشياء المادية ومروراً بالإستحواذ على المرأة (الأنثى) وصولاً إلى إمتلاك السلطة والإستحواذ على الحكم والتفرد به من دون الآخرين. هكذا تبدو لنا على الأقل أخلاق الإستحواذ حيث يقوم السياسي أو الحاكم (الفحل) بتَشِيَّئة كل من حولهِ من البشر والعباد أما الأشياء وثروات الوطن فهي ملكه الشخصي والعائلي يأخذ ما يشاء.

أخلاق الإستحواذ هذه لها علاقة عضوية بالخطاب الأبوي الذي يرى مفهوم الرجولة والأنوثة موجهاً لا للعلاقات بين الرجل والمرأة فحسب بل أيضاً للعلاقات بين الإنسان والعالم. الإنسان هو المبدأ المذكر والعالم هو المبدأ المؤنث(2). وعندما يصبح المبدأ المذكر أصل كل شيء ومصدر كل خلق وإبداع إن لم نقل عنوان كل خصوبة وعطاء فهذا يعني إحالة كل شيء في الحياة وكل تغيير في الفكر وتحول في الأدب وانعطافة في تاريخ الحضارة إلى الرجل الفحل. ولهذا يرى عبد الله الغذامي وهو يَدرْس النسق الثقافي المؤُسِس لظاهرة الفحولة الشعرية كما عرفها الأدب العربي إنَّ من حطم أَهم رموز الفحولة الأدبيةَ وأبرز علامات الذكورة (عمود الشعر) هي نازك الملائكة فكيف حدث هذا من أنثى والأنثى في النسق الثقافي العربي مجرد كائن ضعيف وعاجز(3).

 بطبيعة الحال، لا نريد أن نخوض في قضية ريادة الشعر العربي الحديث وهل كانت الريادة لبدر شاكر السياب أم لنازك الملائكة لكن ظاهرة نازك الملائكة في الشعر العربي الحديث والخنساء في الشعر القديم ثُمَّ ظاهرة لمعية عباس عمارة الشاعرة العراقية الكبيرة وغيرها إنما تعني خُروج وربما إحتجاج على النسق الثقافي الأبوي للأدب العربي وهو النسق الذي كان ولا يزال من أهم إنشغالات المفكر والأديب السعودي العربي عبد الله الغدامي.

هذا التحليل يؤكد مقولتنا التي تنص على شمولية المفهوم الأبوي في المستوى الإجتماعي والثقافي والفكري وفي المجال السياسي والإقتصادي إلى غير ذلك من الأنشطة الإنسانية الفردية والجماعية. إن الأبوية العربية تطوي الذكورية والفحولة في كنفها لأنها ببساطة تَجَّلي للقوة وتَمظَّهر عياني ورمزي للتسلط في المجتمع العربي القديم والحديث.

إنها إستمرار للقبلية والعشيرة في التاريخ وحضور متواصل للهيمنة والاستبداد السياسي والفكري مهما اختلفت العناوين وتباينت المبررات الأيدويولوجية العقيدية والمذهبية والطائفية.

تغرفُ الأبوية العربية من المخيال الإجتماعي والديني الثّرْ برموزه الإنسانية العظيمة وتصوراته وقصصه البطولية وتراثه الغزير الممتد آلاف السنين.

 المخيال العربي هو معين لا ينضب من البطولات والملاحم الفريدة والتجارب التاريخية لقادة ومفكرين وفاتحين وأبطال. المخيال العربي الإسلامي هو قصص الأنبياء والرسالات والدعوة والهداية وبناء الأمة والدولة والتاريخ الزاخر الحي للصحابة والتابعين ورموز الإسلام العظيمة. هذا المخيال هو رأس مال رمزي لا ينضب تستسقي منه الأبوية العربية ما تريد وما تهوى وتنتقي من بحره الزاخر ما تحتاجه من تصورات بديلة للتفكير العقلاني المستقل وهي تصورات تحتاجها لغايات الشحن النفسي وتأجيح العواطف وإثارة الحماسة من خلال الخطاب السياسي الأبوي.

وقد تُسْتَخدم بعض التصورات الرمزية المؤثرة في المخيال العربي كعناصر مكملة أو لتشكيل فضاءاته وترطيب أجواءه وتقديم إستنتاجات تلفيقية بين العقل واللاعقل، بين الحقيقة والأسطورة، بين التصورات الحقة في زمانها ومكانها والإستدلال المطلق لحقائق التاريخ. نقول إن المخيال العربي بمضمونه الإجتماعي والديني هو حُمولة ثقيلة وإرث زاخر بالتجارب الإنسانية والعطاء الحضاري وهو مليء أيضاً بالهزائم والإنكسارات وعصور الظلام والتخلف والتبعية وغياب الدور الحضاري والتنويري للأمة.

 ولا نعتقد أن لدى أمة أخرى غير الأمة العربية هذا الإرث والتاريخ الحضاري والثقافي العريق الممتد عبر آلاف السنين والذي يضفي حمولة تاريخية ورمزية هائلة بل وحتى زائدة عن حاجاتنا إلى الحد الذي يصعب علينا إستلهام ما هو أصيل في ثقافتنا وما هو حديث وحي في عصرنا. والنتيجة واضحة نظرة تراثية للتراث ونظرة عصرية مستلبة للعصر أو تصور تلفيقي بينهما وتوظيف أيديولوجي لتصورات وتقاليد يتم إسترجاعها لتبرير كل إشكالية نواجهها في حياتنا أو من خلال الصراع مع (الآخر). لذلك ليس في الأمر غرابة أن تستولي الأبوية العربية على لقطات حية في ماضي المخيال العربي الإسلامي وتستعيدها من جديد لتبرير أزماتها أو من أجل إضفاء الشرعية التي تحتاجها وعلى وجه الخصوص شرعية الحكم الأبوي العربي أو لنقل شرعية تسلط الحاكم العربي. تستدعي الأبوية المخيال ولا تستحضر العقل لأن ما تحتاجه في خطابها وممارستها لغة المخيال وصورُه المحفزة للحماسة العاطفية بينما يعني إستخدام العقل العربي لآلياته إستلهام معطيات التفكير العقلاني الهادئ الذي لا يفيد كثيراً لأغراض حشد الناس وتوجيه أنظارهم إلى قضية سياسية محددة.

إن الأبوية العربية ظاهرة تاريخية وإجتماعية كما قلنا أكثر من مرة لكنها أيضاً صناعة، صناعتنا نحن، صناعة ثقافتنا وأدبنا وشعرنا وقبل كل هذا وذاك صناعة مخيالنا العربي (الاجتماعي والثقافي والديني) الذي يقدم كل ما تحتاجه الذات العربية من معاني ورموز مدهشة تغذي حَنينُه وتَضرم شوقهُ المرهف والمُمِضْ إلى الزعامة الأبوية المنقذة التي تستعيد ذكريات الماضي العربي المجيد.

إن الصورة في المخيال أهم وأكثر تأثيراً من الفكرة في العقل. الصورة الذهنية المدركة في قصة أو ملحمة وبيت شعر لفارس محارب أو لشاعر فحل. الصورة باعتبارها مقولة حكيمة لملِك أو فاتح أو حاكم لها حضور معنوي مؤثر أكثر من كل نصوص وسرديات إبن الرشد والمعتزلة والكندي والفارابي وإبن خلدون لأن الصورة ببساطة تختزل المعنى بكثافة وتريح الذهن ويمكن بسهولة إسترجاعها بالإضافة إلى فاعلية حضورها المستمر في الذاكرة العربية.

لنأخذ مثلاً صور شاعر العرب العظيم أبو الطيب المتنبي.

يقول أبو الطيب:

                        إن أكنُ معجباً فعُجب عجيب               لم يجَدْ فوق نفسه من مـزيد

                        أنا ترِبُ الندى وَربُّ القوافي               وسِمامُ العِدا وغيظُ الحـسود

           أَنـا في أُمـةٍ تَداركَّهـا اللهُ                    غَريبُ كصـالحٍ في ثـمـود

هل بعد هذه الانا من أنا؟ ألم يساهم أبو الطيب في بناء الانا العربية الضخمة في الوقت الذي يعبر بصدق عن شعور (الانا) العميق للنفس العربية.النفس العربية تنشد الكمال لأنها تطلب الثريا ولا تقبل ما على الثرى

                        كم تـطلبونَ لـنا عَيـباً فيـعجُزكمُ                        ويَكرُه الله ما تأتون والكـرم

            ما أَبعدَ العيبَّ والنُقصان عَن شَرفي      أنا الثريا وذانِ الشيبِ والهرمُ

والأبوية العربية تعشق الفروسية لأنها تمظهر اجتماعي وثقافي لصورة الفارس كما رسمها المتنبي.

            سَتبكي شَجْوَها فرَسي ومهري                        صَفائحُ دَمعها ماء الجسوم

تمظهر الانا العربية واضح للعيان لأنها الصخرة العظيمة إذا ما زوحمت وهي بلاغة البيان وفصاحة اللسان الذي يَلُجْم ويُسكِتْ كل محاولة لمجاراة الأنا في حُسنِ مَنْطقِها وجمال أدبها المُعجِزْ كما يقول أبو الطيب.

أنا صخرةُ الوادي إذا ما زُوحمـت        وإذا نَـطقّتُ فإنـني الجـوزاء

وإذا خفـيتُ عـلى الغبيَّ فَـعاذر             ألاَّ تَـرانـي مُقـلَةُ عـميـاءِ

شِيمُّ اللـيالي أن تشـككَ ناقتـي                          صَدري بها أَفضى أم البـيداء

لله دَرّكَ يا أَبا الطيب من هذا الذي لا يَراكَ؟ ومن هذا الذي لا يستطيع أن لا يراك؟ لكنك في هذا السُمُو والتعالي إنما تُجَسِد حلمكَ العربي في التسامي بالنفس وتُمثِلَ الأنا العليا لكي لا يشغلك من هو فوق التراب.

هذه أمثلة قليلة من صور شعرية صاغها بعبقرية أَخّاذة أبو الطيب المتنبي لكنها كائنات حية تطوف في مخيالنا ونستعيدها بعد مئات السنين لأنها تجد في أنفسنا الرِضا والقبولَ وإلا كيف نَفْسِرُ بقائها حية وطازجة في ذاكرتنا الجماعية بعد كل هذه السنين.

إن الأنا الفحولية، أنا الأب الفارس كما رسَمَّها وصاغها أبو الطيب المتنبي لها مغزى واحد مفاده: مع كل الرزايا والهوان لا تموتُ في النفس العربية أشواق التسامي للكمال والخلود منذ جلجامش مروراً بالمتنبي وإنتهاءاً بأعظم نخلة شعرية من بين كل نخيل العراق والعرب محمد مهدي الجواهري. فبعد أكثر من ألف سنة يظهر شاعر عراقي يحمل من جديد الأنا الفحولية التي غَنّى لها المتنبي طويلاً وبخاصة عندما رأى سيف الدولة الحمداني الفارس الفحل من جديد فما سِرَّ هذا الإستمرار؟ ما معنى هذه الديمومة، ديمومة البحث عن الأنا من خلال الأنا التي يراها الجواهري كبيرة وبليغة في نطقها وصمتها.

إيهٍ عميدَ الدار شكوى صـاحبٍ                        طَفحتْ لواعُجهُ فناجى صـاحبـا

خبَّرتُ أنَّك لسـتَ تبرحُ سـائلاً            عني، تُـناشدُ ذاهبـاً أَو آبـيـا

وتقولُ كـيف يَظلُّ نجمُ ساطِعُ              ملءُ العيونِ عنِ المـحافلِ غائبا

الآنَ أُنـبيكَ اليقـينَ كما جَلا                وضحُ الصَّباحِ عن العيونِ غيابها

فَلقدْ سَكَتُّ مُخاطِباً إذ لم أَجـِدْ               مَنْ يستحّقُ صدى الشكاةِ مُخاطَبا

ثم يقول الجواهري بكبرياء المتنبي

ماذا يضرُّ الجوعُ؟ مجدُ شامخُ             أني أَظَلُّ مع الرعيَّةِ ساغـبا

أني أظَلُّ مع الـرعيةِ مُرهَـقاً               أني أَظَلُّ مع الرعيَّةِ لاغـبا

يتبجََّحونَ بأَنَّ موجـاً طـاغيـاً                        سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومساربا

كَذبوا فمِلءُ فمِ الزمان قصائدي                       أَبداً تجوبُ مَشارقاً ومغاربا

وبينما ينحاز الجواهري إلى الرعّية الساغبة والمتعبة يَظلُ على عهده وإنتمائه، يُرددُ الزمان شعرهُ الصاخب في مشارق الأرض ومغاربها.

ثم يصرخُ هارداً أنَّ شعرهُ هو حَتفُ الارذلين والشُراة:

أَنا حتفُهُم أَلِجُ البيوتَ عـليهـمُ               أُغري الوليدَ بشتمِهمْ والحاجبا

خَسـئوا: فَلم تَزلِ الرجولةُ حُرَّةً                        تأبى لها غيرَ الامائِل خـاطبـا

أَنا ذا أَمـامكَ مـاثـلاً مُتـجبَّراً               أَطأ الطُغاةُ بِشسعِ نعليَ عـازبا

وأَمُطُّ منِ شَفـتيَّ هُزءاً أَنْ أَرى                        عُفْرَ الحياةِ على الحياةِ تكـالُبا

أما الأمـل فلا يـضـيعُ أبـداً     من بين شفتي الشاعر الفارس

            لابُدَّ عائدةُ إلى عُــشّاقِــها                               تلكَ العهودُ وإنْ حُسبِنَ ذَواهبا

ويبقى الفارق بين المتنبي ومحمد مهدي الجواهري أن المتنبي إلتقى بسيفهِ وتفرَّغ له تسع سنوات لم يقل فيها شعراً إلا مادحاً لسيف الدولة الحمداني. أما الجواهري فيبدو من قراءة تاريخه الشعري أن الرجل لم يلتقي سيفَهُ وكان يحاول طيلة عمره المديد الذي قارب القرن أن يجد هذا السيف، لم يَجِدَ الجواهري ما كان ينشده. بل نعتقد أن الجواهري لم يرى السيف المنشود إلا في نفسه. لقد وجد السيف المنشود في نفسه هُو، أي في ذات الشاعر الفحل وكان حقاً كذلك. أو ربما وجد هذا السيف في العراق الذي أرادهُ وتمنّاه.

وبهذا المعنى تقريباً ينشد أحمد عبد المعطي حجازي في مهرجان المربد بالموصل سنة 1971 للمغني الذي طافَ يبحث عن الحلم وعن صاحبهِ الذي اتنظرهُ طويلاً مسبوقاً بوعد الإنتصار الضائع بسراب الحلم الطفولي بحثاً عن الأب المنتظر.

مَنْ تَرى يَحْمِلُ الآن عبءَ الهزيمة فينا

المغني الذي طاف يَبحثُ للحلم عن جُسدٍ يرتديهِ

أم هو المَلِكُ المدعي أَنُّ حلَم المُغني تَجسَّد فيهِ

هل خُدعْتُ بملكِكَ حتى حَسبتْكَ صاحبَي المنتظر

أمْ خدعِتَ بأغنيتي

وانتظرت الذي وَعدتُكَ بهِ ثم لمْ تنتَصِرْ

أَمْ خُدِعنا معاً بسِراب الزمانِ الجميل

إنها حقاً محنة الشاعر الباحث دوماً عن رمز يريده تجسيداً لحلمه بعد طول إنتظار وسواءً ارتدى المغني جَسداً لحُلمهِ أم أن الملَّك المُدّعي أن حلم الوطن والمغني قد تجسد فيه فإن مرارة الخديعة وعبء الهزيمة تلقي بكواهلها علينا جميعاً وبالتحديد على من أراد أن يحلم ويطوف بحلمه مفجراً مخيالاً عتيقاً من الإنتصارات، ومن أَثارَ كل هذه الآمال الجَذْلى التي إنتهت بالإنكسار والخيبة.

الأبوية العربية تصبو نحو صور المخيال لأنها تجد فيه تعويضاً عن فشلها وعقمها وبخاصة فشل الزعامات السياسية العربية الحاكمة في التنمية وتحرير الأرض والإنسان وفي التقدم والبناء الحضاري. كما تستدعى من جديد رموز وقيم وبطولات المخيال العربي لفتح نوافذ جديدة من الأمل والإيمان وهذا أمر حسن إنما لغايات ليست نبيلة دائماً فالمخيال العربي هو كالنحل الطيب الذي يسرق عَسلُه في كل مرة لأنه يستخدم للتبرير والتعويض والتلفيق. تبرير تصرفات الحاكم وتعويض هزائم الحاضر بإنتصارات الماضي وتلفيق المواقف التاريخية العظيمة وإسقاطها لتفسير أخطاء إسترتيجية كبرى للنظام السياسي العربي.

إن آلية عمل المخيال العربي تتمثل باسترجاع الصورة الذهنية لموضوع التخيل كبديل تعويضي عن التفكير العقلي الذي يتطلب منهجية صارمة يطلق عليها نظم المعرفة في الثقافة العربية. وبفعل الصورة الذهنية المدركة من خلال وسائل الإتصال اللينة من شعر وأدب وفن ورواية وقصص وملاحم وأساطير شعبية وغيرها من أنساق ثقافية تتم إزاحة الوعي العقلاني وموضوعه بحيث لا يبقى على المسرح سوى موضوعات المخيال والذات المتخيلة والإرث الغزير من المعاني الخالدة أو المعاني الأخرى المطروحة على الطريق كما يقول أبي تمام.

إن الغياب المؤقت للوعي العقلاني وموضوعاته في الواقع والتاريخ يعني إحلال صور المخيال وإسترجاعها لكي تكون بديلاً للوعي، وعي العقل بإعتباره ملكة وأداة أساسية من أدوات إنتاج المعرفة الإنسانية وهكذا يصبح المخيال وعي الغياب أو الغائب(1) وبديلاً معادلاً لوعي الشاهد، أي وعي العقل المُغَّيبْ.

هناك تداخل بين العقل والمخيال حيث الحضور المكثف للمخيال في داخل الموروث القديم ناهيك عن تداخل الشفوي والمكتوب في الثقافة العربية والإسلامية(2).

تداخل الثقافة الشفهية بالثقافة المكتوبة هو الذي شَكَّل أرضية التداخل بين المخيال الإجتماعي والعقل العربي الإسلامي ذلك لأن الثقافة الشفهيَّة المتحررُة من قيود التأصيل والتوثيق وتثبيت المرجعية ومن شروط القياس والإستدلال وغيرها من قوانين تَقنين الاجتهاد وضبط اللسان كانت ولا تزال المعين الزاخر بالتصورات الإنسانية الولودة دائما بكل ما هو جديد وغريب لفضاءات المخيال الإجتماعي. فلا عجب أَنْ نعودَ دائماً للإستدلال بالمخيال الإجتماعي والخطاب الأبوي الموجه لمجتمع تعوَّدَ على اللغة الفصحى التي يَطْرَبُ لها العربي، لغة المناسبات والخطابات حتى وإن كان قد مَلَّها من كِثرة الترداد والتكرار في إحتفالات نمطية إلا أنه سرعان ما يستجيب لأجراس الألفاظ البليغة ولوحاتها الفنية من تضخيم ومبالغة وتشبيه وتوريَة وتضمين وتَعميم يُحلِقُ بها السياسي الخطيب إلى فضاءات بعيدة عن الواقع وخارج حدود الممكن العملي.

قوة المخيال تكمن في حضوره الفاعل والمؤثر في النفس بينما تختفي آثار العقل وتتبدد في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها. ومن هذا الوجه يبدو أن أفكار إبن خلدون قد جائت إِمّا مُبكِرة أو متأخرة عن أَوانها فلم تَسْتطِع أن تَنْطبع في العبقرية العربية والإسلامية التي فقدت مرونتها ومقدرتها على التقدم والتجدد حتى إذا وهنت الدُفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي كما يتوقف المحرك عندما يستنزف آخر قطرة من الوقود(1).

وينطبق هذا الأمر على معظم مفكري وفلاسفة العرب العظام وفي مقدمتهم إبن رشد والكندي وإبن حزم والشاطبي وغيرهم فنحن لم نرث تراثهم كما يجب ولم نتعامل مع العقل الرشدي والعقل الخلدوني بوسائل المُستلهِمْ والمُجدَّد المبتكر بل كانت ولا تزال عقولنا المهاجرة المُغردة. عقولنا التي لم نستعيدها، عقولنا التي لم نكتشف عبقرياتها إلا في وقت متأخر وبفضل إسهامات عملية فكرية جادة لعلماء الغرب.

ضمن هذا السياق يمكن فهم لماذا كان تأثير العقلانية الإسلامية أقل بكثير في مجتمعنا بالمقارنة مع تأثير “اللامعقول” واللاعقل من خرافات وأساطير لا تزال تختفي بها بعض كتب التراث القديمة.

ومن هنا يمكن أيضاً فهم لماذا يكون من الأسهل على النظام السياسي الأبوي إسترجاع بعض جوانب الثقافة الشفهية التي يحفل بها المخيال العربي لكي تكونَ بديلاً عن الخطاب السياسي الهادئ والعقلاني الموجه للناس.

 ويمكن أن نوجز على ما تقدم، أن الخطاب الهادئ الرصين لا يُناسِب النظام السياسي الأبوي بل يناسبُه الخطاب التلفيقي، الخطاب الذي قد يبدو هادئاً وبسيطاً وعقلانياً ولكنه ينحى منحى التبجيل والترغيب ورُبما الترهيب من خلال كل ما يستعين به من تصورات ومقُولات جاهزة يقدمها له مجاناً المخيال الإجتماعي العربي.

إن الأبوية العربية بُنية تتشكل من عناصر ولها خصائص تكوينية وظيفية تساهم في بنائها وتطويرها كما ذكرنا على وجه التحديد ديمومة الظاهرة الأبوية من خلال الإستمرار والتعاقُب وبداوة الأبوية العربية وعصّبياتها القبلية والعشائرية والطائفية. ثم بسبب البنية الإجتماعية وتأثير التشكيلات التقليدية آنفة الذكر وللطبيعة البدوية الواضحة في أحيان أو المخفية في أحيان أخرى لظاهرة الأبوية العربية ناقشنا خاصية الفحولة بمظهرها العام والفحولة السياسية على وجه الخصوص.

 وأخيراً كان لنا حديثاً مُحببَّاً مع المخيال الإجتماعي الذي قلنا أن الأبوية تَغْرُف من بحرِه وتقتفيَ أثرهُ وأوضحنا ما أسعفنا به العقل والجهد دلالات كل هذا وتأثيره في صياغة الخطاب السياسي الأبوي. أما تقديس المدنس فلنا وقفة أخرى معه.

مشاركة