الأبعاد الستراتيجية لإعادة روسيا ضم شبه جزيرة القرم
عماد علو
تمهيد
أتمت روسيا بسط سيطرتها العسكرية على شبه جزيرة القرم، فيما أعلنت أوكرانيا سحب قواتها من هناك، وذلك بعد أن سيطرت القوات الروسية على كل المواضع العسكرية في شبه جزيرة القرم وذلك بعد أيام من إعلان ضم القرم إلى الأراضي الروسية، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن العلم الروسي يرفرف حالياً في نحو 189 مؤسسة عسكرية في شبه جزيرة القرم، وأن الأسطول الروسي في البحر الأسود استولى على عشرات القطع البحرية بينها الغواصة الأوكرانية الوحيدة الرابضة قرب ميناء سيفاستوبول. وتتهم أوكرانيا روسيا بغزو القرم، فيما تقول موسكو إن الحكومة الأوكرانية الجديدة فاقدة للشرعية وتشكل تهديدا لسكان القرم من ذوي الاصول الروسية.
الاهمية الجيوبوليتيكية
تمتد شبه جزيرة القرم في شمال البحر الأسود، ولا تتصل بالبر القاري الا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال. و يحدها من الشرق بحر أزوف، ومساحتها 26 ألف كيلو متر مربع، وسكانها مليوني نسمة وفقًا لتعداد 2001م. أهم مدنها هي العاصمة سيمفروبل، وكان اسمها فيما مضى (اق مسجد أي المسجد الأبيض) قبل أن يستولي عليها الروس. اشتهرت سابقا لوقوع حرب القرم بها في القرن التاسع عشر. وفيها مدن أخرى أقل أهمية، مثل: كيرشوفيادوسيا وبيلاغورسك وسوداك وجانكوك.
وظلت شبه جزيرة القرم ذات أهمية استراتيجية قصوى في لعبة توازن القوى خلال القرن العشرين وقد احتفظت بهذه الاهمية خلال القرن الحالي ، وذلك لاحتوائها على أكبر قاعدة بحرية روسية تعد الوحيدة من نوعها في المياه الدافئة، وهي مقر أسطول البحر الأسود الروسي. ومن مدنها المهمة أيضًا يالطا (مدينة ساحلية سياحية جميلة، وقد عُقد فيها مؤتمر يالطا بين قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في فبراير عام 1945 ستالين وروزفلت وتشرشل)، أما مدينة سيفاستوبول فهي الميناء الذي كان يؤوي أسطول الاتحاد السوفييتي الضخم، والذي أصبح محل نزاع بين روسيا وأوكرانيا.
الاهمية التاريخية
شكلت شبه جزيرة القرم جزءاً من الإمبراطورية الروسية ولاحقاً من الاتحاد السوفيتي . وكانت روسيا قد استولت على القرم اصلا في اواخر القرن الثامن عشر عندما دحرت جيوش الامبراطورة الروسية كاثرين العظمى تتار القرم الذين كانوا متحالفين مع العثمانيين، وذلك بعد حروب دامت عدة عقود في العام 1783م . ولطالما كانت لشبه جزيرة القرم أهمية بالغة بالنسبة إلى روسيا الإمبراطورية والسوفيتية وروسيا المعاصرة لأن امتلاكها كان يعني السيطرة على البحر الأسود والمناطق المطلة عليه. ولم تصبح روسيا دولة عظمى بغض النظر عن توسعها إلا بعد ضمها للأراضي المتاخمة للبحر الأسود، بما فيها شبه جزيرة القرم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. واختارت بريطانيا وفرنسا بالتعاون مع العثمانيين شبه جزيرة القرم بالذات لإجراء أول عملية إنزال بحري واسع النطاق في العالم في عامي 1856 – 1857 ( حرب القرم) بهدف طرد روسيا من شبه الجزيرة وقاعدتها البحرية سيفاستوبول ومنعها بذلك من حق امتلاك أي أسطول بحري قوي في البحر الأسود. ولم يعتزم الحلفاء آنذاك التقدم إلى عمق روسيا، لكن هزيمة روسيا في معركة سيفاستوبول والقرم منعتها من لعب دور هام في الشؤون الأوروبية على مدى عقدين. ولم تستعد روسيا عظمتها إلا بعد استعادتها السيطرة على القرم وميناء سيفاستوبول بعد انتصار روسيا في الحرب الروسية التركية عامي 1877 – 1878. لذلك كله يجب القول إن الهدف المنشود لقياصرة الروس ظل على مدى قرون فرض السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل بغية ضمان الخروج الآمن لأسطول البحر الأسود الروسي إلى المتوسط. ولو انتصرت روسيا في الحرب العالمية الأولــــــــى (أعوام 1914 – 1918) التي خاضتها مع حلفائها فرنسا وبريطانيا وأمريكا لفرضت تلك السيطرة على المضيقين المهمين. لكن ثورة أكتوبر عام 1917 وخروج روسيا من الحرب حالا دون تحقيق ذلك. وكانت القيادة الهتلرية إبان الحرب العالمية الثانية تعلق آمالا كثيرة على القرم بصفتها رأس جسر هام للتوغل إلى آسيا والشرق الأوسط. وغدت سيفاستوبول بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا فيها قاعدة بحرية مهمة للاتحاد السوفيتي في جنوب البلاد. وكانت جزيرة القرم آنذاك جزءًا من أراضي جمهورية روسيا. وعندما أعلن التتار في شبه جزيرة القرم عن ولادة جمهورية القرم المستقلة برئاسة نعمان حيجي خان في العام 1917 بعد أن استغلوا ثورة أكتوبر الروسية البلشفية للإطاحة بحكم القياصرة، وضع الشيوعيين حداً لها واسقطوها في العام 1920م ، واقاموا بدلا” منها جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي . وخلال الحرب العالمية الثانية نفى ستالين التتار من شبه جزيرة القرم إلى سيبيريا. ولم تصبح القرم جزءا من أوكرانيا الا في عام 1954، عندما قرر الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف – وهو اوكراني الاصل – اهداءها الى موطنه الاصلي وألحق القرم بأوكرانيا. ولم يكن لذلك القرار اثر عملي واضح ابان الحقبة السوفييتية، ولكن بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، اثيرت مشكلة تبعية شبه جزيرة القرم بعد أن اصبحت شبه جزيرة القرم جزءا من أوكرانيا المستقلة، ولكن رغم ذلك، لا زال اكثر من 60 بالمئة من سكانها يعتبرون انفسهم من الروس. في حين يريد التتار “وهم مسلمون”، وقد عانوا الأمرين عندما طردهم جوزف ستالين في عام 1944 من القرم لتحالفهم مع النازيين ابان الحرب العالمية الثانية، عادوا اليها ثانية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ويشكلون الآن زهاء 12 بالمئة من سكانها ، ان تظل شبه جزيرة القرم جزءا من أوكرانيا، لذلك فقد تحالفوا مع المحتجين المناوئين للرئيس يانوكوفيتش في كييف في الازمة السياسية التي شهدتها اوكرانيا هذا العام 2014.
الاهمية العسكرية
تتمثل الاهمية العسكرية لشبه جزيرة القرم بعدة عوامل من اهمها قربها الجغرافي من منابع النفط في القفقاس اسيا الوسطى ، بالإضافة الى اطلالها على البحر الاسود المرتبط بمياه البحر المتوسط . وتتوافر شبه جزيرة القرم على اكبر قاعدة بحرية في ميناء سيباستوبول الذي يقع على الساحل الجنوبي لشبه جزيرة القرم، وهو مقر اسطول البحر الأسود الروسي الذي يضم الآلاف من عناصر القوة البحرية منذ الحقبة السوفيتية . وكان الرئيس الأوكراني الموالي للغرب فيكتور يوشنكو قد اثار مخاوف موسكو عندما اعلن في عام 2009 ان على روسيا اخلاء قاعدتها البحرية في سيباستوبول بحلول عام 2017، ولكن الرئيس فيكتور يانوكوفيتش (الذي اطيح به مؤخرا) قرر بعد انتخابه عام 2010 بتمديد مدة بقاء الاسطول الروسي في الميناء لغاية عام 2042. لذلك تعاظمت مخاوف روسيا من قيام السلطات الأوكرانية الجديدة بطرد الاسطول الروسي مجددا من ميناء سيفاستوبول وشبه جزيرة القرم.
لذلك فقد اضطرت روسيا طوال أكثر من عقدين للقيام بمناورات سياسية لإبقاء أسطولها بالبحر الأسود في سيفاستوبول في القرم، وذلك عن طريق عقد الاتفاقيات مع الحكومات الأوكرانية التي كانت تتغير من وقت إلى آخر. وقد وقعت الاتفاقية الأخيرة من هذا النوع في أبريل عام 2010 بمدينة خاركوف الأوكرانية بين الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف والرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا، والتي تقضي ببقاء الأسطول البحري الروسي في القرم لغاية عام 2042 مقابل دفع روسيا مبلغ 100 مليون دولار سنويا وتنزيل سعر الغاز المصدر إلى أوكرانيا بنسبة 30بالمئة .
استنتاجات نهائية
منذ قيام الثورة البرتقالية في اوكرانيا عام 2004 حاولت الولايات المتحدة والدول الاوربية استثمار الواقع السياسي الجديد في اوكرانيا لإنهاء الوجود البحري الروسي في البحر المتوسط من خلال انهاء وجود الاسطول الروسي في القرم والحر الاسود المتصل بالبحر المتوسط عن طريق مضائق البسفور والدردنيل . في وقت ظل الوضع القانوني لوجود او بقاء الأسطول الروسي يعتمد على النهج السياسي الذي تمارسه هذه الحكومة الأوكرانية أو تلك. يذكر أن الأسطول الروسي في البحر الأسود يقل قدرة عن الأسطول التركي. لكن التوازن الستراتيجي في المنطقة ما زال قائما بفضل بعض الأفضليات لدى روسيا وهذه الافضليات برزت بشكل واضح عندما قام الاسطول البحري الروسي في القرم بلعب دورا هاما في حروب إقليمية وخاصة في الحرب الروسية الجورجية عام 2008 والتطورات المتعلقة بالأزمة السورية الأخيرة. لقد اثار الانقلاب الأخير الذي وقع في أوكرانيا مخاوف بالغة لدى حكومة الرئيس فلاديمير بوتن نتيجة لصعود القوى اليمينية القومية المتطرفة إلى السلطة في كييف ، خصوصا” بعد تزايدت احتمالات فسخ اتفاقية الأسطول الروسي في القرم الامر الذي بات يشكل تهديدا” خطيرا” للأمن القومي الروسي ومصالحها في منطقتي البحر الاسود والبحر المتوسط .
وكان كل ذلك دافعا قويا جعل روسيا تدعم الطموحات القديمة لسلطة الحكم الذاتي الروسي المحدود في القرم إلى نيل الاستقلال وإجراء استفتاء عام بهذا الشأن في شبه جزيرة القرم وفي مدينة سيفاستوبول حيث تشكل الطائفة الروسية نسبة 60بالمئة و70بالمئة ، مما سمح لروسيا بإزالة الخطر المحدق بوجودها العسكري في منطقة ذات أهمية ســـــــــــتراتيجـية بالغة بالنسبة لها، كما أنه رفع هيبتها كدولة تدرك مصالحها وتقدر على حمايتها.