إيقاع الموج والزبد للكاتبة آمال الشاذلي
الكتابة حياة.. الحياة حلم
عذاب الركابيّ
حين أكتب، كنت أقول هذه طريقة جيدة للحياة، إنّ أكثر ما أعشقه في الحياة هو الكلمات ــ آندرس نيوامان .
الألم يقدح روحي، وقلمي يطفئها ــ الرواية ص71.
إنّها كتاب ألم رماديّ السّطور، وفي جمل أنيقة، شفّافة وجارحة، لحالة مابعد الألم، ترسم عواصفه التي لا تحمل إلاّ مطر أحزان، وثلج مواجع، بين الواقع والحلم، وبين الخيال والحقيقة، وهي حقيقة الحقيقة، وخيال الخيال، تجسّدها لغة كثيفة راقية، تسرق من القصيدة كيميائها، لتكتب الرواية ــ القصيدة بامتياز فالروائي يكتب روايته، كما لوْ كانْ يكتب قصيدة ــ ميلان كونديرا.. حبرها الحلم المصهور بالواقع، لا لتغيير ما هو واقع، وماهو مثقل للنفس بغيم الهموم، بلْ لتجاوزه بكلمات تبحث عن كلمات، وخيال يغرق في سحب من الخيال.. هي حالة البحث عن الذات، بلْ ذات الذات المرهونة لدى بنك القلق والخوف، ولا مفرّ إلاّ أنْ تفسّر بأدوات القصيدة، متعدّدة القوافي، وخارج ما استحدث من تفعيلات وأوازن قديما وحديثا، ولا تدرك إلاّ بخيال الخيال الذي يقرّب الواقع، ويجعله أكثر تركيزا.. لحظة صراع مريرة في اللازمن، حين يبدو الزمن في حالة سيولة وحركة جارحة، إثرها تبدو الروح نحيلة.. واهنة لحظة مجافاة الكلمات والحروف والإيحاء والأخيلة لها، وهي في أشدّ الحاجة إليها،.. وقوية حين تكون الدليل والمنقذ ، وتستطيع ترجمة أحلامها، لتغزو رؤاها الآفاق، عندها تطربها خطى النور الكونية وهو يسجّل انتصاره التاريخي على الظلمة، حتّى لوْ بدا هذا الانتصار ضبابيا أوْ بعيدا، لحظة يصبح فيها الزمن تجليات ومظاهر تتعجلني الرغبة في الكتابة، تتنازعني الذكريات، وأنا لازلت في منتصف الطريق ــ ص7.
إنّ الحياة تولد من رحم الشقاء ــ الرواية ص14.
هذا الدفق من النستولوجيا هو لحظة شموخ بالماضي، والأصول وجذور العائلة التي تمثلت بـ الجد الذي صنع من الغربة والمعاناة، ومفارقات الحياة الجارحة المضنية إنسانا صلبا، وتاريخا مشرّفا، ساحرا في حروف أبجديته، ممتعا في إيقاع أخيلته، وقدْ كتبت بحبر الصّبر والجلد والقوة، موصولا بدفء المكان الذي ينتمي إليه الجدّ وأبناؤه وأحفاده من عائلة الحمروش التي تجذرتْ وتشعبتْ، وتوزعتْ على ذرات تراب مصر، وتصل ظلال عراقتها إلى اللامكان تعاقبوا منذ حمروش الأول، لكنهم انتشروا في أرض مصر، وصار بكلّ محافظة حمارشة يملأون السمع والبصر ــ ص13. وبأسلوب شعريّ، وجمل مشغولة أنيقة، مكهربة بتيار إيحاء عال،وإيقاع منغم حالم، جسّدت الرواية، بنزيف أصابع حاد الجدل حول الكتابة ــ حياة، أمْ أنّ الحياة ــ كتابة، وأصبح أكثر شفّافية وعمقا واصلي الكتابة، قدْ تكون لك القارب المنقذ من أنياب الفراغ ــ ص16.. بالإضافة إلى أنّ الكاتب مخلوق جمالي بياني وأثيري في الآن، كما بدت عليه الكاتبة ــ الروائية آمال الشاذلي وهي تعيش مغامرة الكتابة ــ الحياة، من دون تصنّع أوْ زخرفة كلام، بلْ كرؤيا وحلم، تجمّل الواقع بسيل من المشاعر، لا للتفاخر والتباهي بموسيقاها الصاخبة الحزينة أحيانا، بلْ للتخلص منها، وفق حالة شعرية مخملية، يصعب القبض من خلالها على الكلمات، وهي مصدر الجذب والتشويق في الرواية ما أجمل الحياة إذا وجدنا بها منْ يهتم بأمرنا، ينصت لأناتنا، يفرح لنا، يبتئس لحالنا، آه عندما نستطيع أنْ نقتنص لحظات من السعادة الحقيقية ــ ص 17.
. السيرة تاريخ وجود شيء ما ــ برتراند راسل
الكاتب هو مبدعه ، وفي كلّ رواية دم وفكر وحلم، لا ينسب إلاّ للروائي نفسه، وفي رواية إيقاع الموج والزبد تتماهى خطى البطلة بهيجة بخطى الراوية ــ الكاتبة، فالأحلام واحدة، بلْ هما جسد واحد، وروح نابضة بالحياة، والملامح واحدة حين تبدو شاحبة مضطربة، والتوق إلى الكتابة، والخشوع لحظة الإيحاء، بهيجة هي الراوية، وهي تطوع الزمن، وتدير عقارب ساعته لتصبح موقوتة على خطواتها، كلّ سطر، وكلّ جملة في الرواية توحي بذلك، بلْ تقول الكثير، مضافا إليها أوركسترا الماضي شديدة الحزن، والإنسان ــ القريب واسع الحنان، وجغرافيا المكان ــ الإسكندريّة أرض الدفء، والجذور التي تنتسب إليها بهيجة استقرّت يدي القلقة في يد عمّي،كفراشة هجعت في حنايا زهرة عباد الشمس، فأرخت عليها أهدابها، حدبا وعطفا، حملني القطار بصحبة عمّي إلى غد لا أعلم من أمره شيئا، لا أحمل معي سوى فستان اليتامى ــ ص 23.
لا يمكن أنْ أتخيل الأدب شيئا آخر غير الحياة، كلّ الحياة ــ لوكليزيو ــ الباحث عن الذهب ص5.
الكتابة فعل إنسانيّ لاستعادة الزمن، وتجدّده، والتفوق عليه أيضا، ولمْ تصبح الكتابة فعلا ماضيا، لم تنته، ولمْ تتلاش أبدا إذْ لايقهر الموت إلاّ الحجر والكلمة، والكلمة أطول عمرا من الحجر ، هذا الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي لمْ يقو الموت على تغييبه، وعجز عن محو وشطب تراتيله ووصاياه وشتائمه الملائكية، ووريقات بهيجة التي هي بالضرورة أوراق الراوية نفسها، تلوي عنق الزمن، تثأر منه، تجعله ماضيا بائسا، بحسابات القادم المتجدّد والآتي من حدائق الحياة، والأيّام ليس مامضى، بلْ ما سيأتي كما تقول قصائدنا المكتوبة برماد الروح ودمع الصباح، وريّ أصص الزرع هو ريّ وانبعاث وتجدّد روح البطلة ــ الراوية، ونهاية زحف جحافل الظمأ، لحياة أجمل وأكثر هدوءا، وزيارة الطبيب أيضا محاولة جادة وجريئة لرسم خطوات تفيض ضوءا في تربة صباح جديد، وبينها وبين هناء هدف واحد، هو كيف استثمار المعاناة.. والعذابات.. والشقاء، ليصبحوا سلّما حريريا للوصول إلى زمن اقلّ حيرة وقلقا راوغت الساعات لأدفع بها الواحدة إثر الأخرى،فتشاغلت عنها، لتتشاغل عنّي، رويت أصص الزرع التي أهملتها سنوات، وقدْ زحفت الحياة إليها بمجرّد أنْ لثمتها قطرات الماء لبضعة أيّام ــ ص26.
وتتدااخل الأزمنة، ممتلئة بالأحداث والمفارقات، أمام أمنيات تخفق، وأخرى تولد، وتتغير الأمكنة، لتحمل تحت شمسها، وعلى فراش عشبها شخوصا آخرين، من صلب العائلة الحمروشية ومن هم قريبون منها، يضيفون إلى حياة بهيجة الفرح تارة، والحزن والحيرة والقلق تارة أخرى، تشحّ أسباب الفرح، وتتعدّد أسباب الحزن والقلق، بين المرض الذي يداهم العم الطيب، والمدعو يسري إلى الرحيل إلى المجهول المتمثل في شخص أيمن والتحاقه بالجبهة، وهكذا فالرواية فسيفساء أحداث متلاحقة، يأخذ الواقع في مخيلة الروائية شكلا دراميا مضى شهر واثنان، ولمْ يعاودنا أيمن، شوى الانتظار أبداننا حتّى أصبحت أيامنا رمادا مقبضا ــ ص46.
بين الإنسانيّ والسياسي في إيقاع الموج والزبد فاصلة كبيرة،في تهويمات بهيجة وهي في سرير زمن قاس، وترتّب لأحلامها وسادة مخملية، ظهر الجانب الإنسانيّ المكتوب بفسفور المعاناة مقنعا بواقعه وخياله معا، وأحلامه المتلوّة بيقظة عسيرة لاتخلو من إثارة، وتراجع السياسيّ في النسق الروائيّ الذي أخذ شكلا إعلانيا واستعراضيا، بدا فيه الطرح أكثر زخرفية، ولم يضفْ شيئا لـ بهيجة ولا لغيرها، ولا للإيقاع الدرامي في الرواية أتأمل سير الجنازة التي تعجّ برؤساء وملوك العالم، ماعدا عالمنا العربيّ اللهمّ إلاّ القليل، لاوجود للجماهير إلاّ ما ندر، دفعتني الجنازة للمقارنة بين الزعيمين، رجل الهزيمة ورجل الانتصار ــ ص52.
حالة فقد بعض الأهل والأحبّة، وتبخّر الآمال، والأحلام التي ظلتْ سجينة، هي السبب الرئيس لهذا الاضطراب الروحي والحياتي والوجودي الذي تعيشه بهيجة رغم تشبثها بالحلم فلولا الأحلام لمتنا كمدا ــ ص55.حالة حزن تجعل منه العبارات الشعريّة التي تتصدّر بداية كلّ فصل من فصول الرواية حزنا ورديا، غير مفض إلى اليأس والقنوط، وانتحار خطى السعي، وهي ترى الحياة في لحظة قاتمة، وحالة نفسية مضطربة سردابا، وأحزانا، وآلاما، وفراقا، لكنّها تستعين بحكمة الكتب، وتعود إلى الحفر في سطورها، وتسلّم شعريا بأنّ الكون أنثى لا تبرحها آلام المخاض ، يصبح الألم دافعا.. وهاجسا للمزيد من الإصرار على الحياة التي يطرّز ثوبها الملائكيّ ورد الدهشة والمفاجأة، يصبح لللأم لذة التي تسعى إليها الإنسانية كلها ــ كما يعبّر جورج سانتيانا،وموقفها من هناء ليس إسعافا لهناء وحدها، وإخراجها مّما هي فيه، بلْ هو موقف سيكولوجي محض، لتتغيّر وتتجدّد البطلة نفسها، وهي تضع تعريفا جديدا للحياة، أكثر عمقا وجمالا لا أدري هلْ ساقتني الأقدار إلى هناء أمْ ساقتها هي إليّ، فكلانا في حاجة إلى الأخرى،لنكمل بعضنا بعضا، أملأ فراغها وتملأ فراغي، أحزن من أجلها، وتبتئس لحالي، نتشارك ونتقاسم ونتواسى، نفرغ عواطفنا المكبونة ومشاعرنا المسجونة، أتوق لصوت يحدّثني غير أصوات أصداء الماضي، أتوق لعناق إنسان أيّ إنسان ــ ص60.
أيوب لماذا استنفدت الصّبر؟
وتركتني أغرق في ذنوب ضجري ــ الرواية ص82.
بهذه الصرخة ذات الإيقاع الإنسانيّ الجارح، والتي تذكّر بصرخة شاعر الحداثة الكبير الذي انتعل الريح آرتور رامبو وهو يفتح فم جراحه إلهي لماذا تركتني .. تنتهي أحداث الرواية بلحظات تناغم وتبادل الأدوار بين الأمل واليأس، وبين الحزن والفرح.. وبين غزو الظلمة الهمجيّ المفاجيء لحدائق النور، كأنّنا أمام عقد الماس ــ الكلمات، بدفء وطعم القصيدة، وقدْ انفرطتْ حبّاته الضوئية، ابتداء من صحبة ومرافقة الفتاة الوحيدة المريضة هناء التي تشارك بهيجة وحشتين، وحشة غياب الأهل ووحشة الزمن القاسي، إلى الجرح الذي حفره في الروح د. حسين ابن العم الذي ذهب إلى العمرة والحج معا، وانقطعت أخباره شهورا وسنينا طويلة، إلى بزوغ شمس الأمل، وهي ناحلة الضوء، حين تجد بهيجة نفسها محبّة.. عاشقة للحياة، فتغيّر داخلها وترتّب على إيقاع الورد، كلّ ما يحيط بها، بانتظار أمطار الغد الأكثر دفئا، إلى محنة مرضها واضطرار الأطبّاء إلى بتر عضوين من جسدها الغضّ. وإذا كان للرواية حكمة، كما يرى ميلان كونديرا، فأنّ حكمة إيقاع الموج والزبد هي الحياة تولد من الشقاء .. وولادة بهيجة الحقيقية هي في الحياة التي منحتها لـ هناء .
ــ إيقاع الموج والزبد ــ رواية ــ آمال الشاذلي ــ دار التلاقي للكتاب 2010 القاهرة
AZP09