إيقاعات الزمن الراقص

إيقاعات الزمن الراقص
المحنة الإنسانية وترميز المكبوت
د. سمير الخليل
ترتكز المجموعة القصصية إيقاعات الزمن الراقص للقاص العراقي علي السباعي والصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق على اربعة مستويات المستوى الموضوعي، والمبنى الرمزي، والمستوى التشكيلي والمستوى اللساني .
ففي المستوى الموضوعي تتصدى نصوص علي السباعي القصصية للتعذيب السياسي وجرائمه بحق الإنسان العراقي متمثلة أشد التمثيل بتصوير معاناة الأديب العراقي إبان سنوات الحصار الجائر على العراق وشعب العراق، فلقد شكل الواقع السياسي الذي عاشه العراقيون أيام الحصار قمعاً واضطهاداً، فكان لتلك السنوات التي مرت على البلاد، والاضطرابات السياسية، وصولاً إلى تغلغل الجيوش الامريكية داخل اراضيه، وشبح الارهاب الذي لم يكن قد عهده من قبل، الأثر الكبير في خلخلة التوازن القيمي وتدعيم الاحساس بعدم الأمن والاستقرار، مما عزز الشعور بعدم الرضا من كل ذلك، وهذا الشعور هو في حد ذاته رفض للأنظمة السائدة في المجتمع آنذاك ونقد للسياسة القائمة. فكان مما لابد منه أن يتجلى انعكاس ذلك واضحاً في كتابات الأدباء، فكانت رؤيتهم لهذه الأحداث السياسية المعيشة تتسم بالوضوح والدقة، فضلاً عن امتزاجها بروح الألم والحزن والرفض والنقد اللاذع. وكتابات علي السباعي تعدّ جزءاً من كتابات تلك المرحلة الأليمة، كانت تفيض بالنقد السياسي وما نجم عنه من خراب عم الإنسانية ككل في بلد هو مهد الحضارات، وعنوان الإقدام، ومنتهى المجد والعنفوان.
قصة ورقة حاولت إلقاء الضوء على الإرادة المنزوعة من شعب طال عليه الحصار، وسحقت كرامته، وصودرت حريته، إذ لم يعد بمقدور الرجل منهم أن يحرك ورقة ملقاة على الأرض اهتزت الورقة الملقاة ما بين الحائط والأرض، تحركت حركة مريبة، الجو ساكن، …. حاولت أن أحركها، لم استطع، تجمدت، تركتها تحركها الريح 1 . على الرغم مما يكتنف الورقة بهذا الشكل من رمزية، إلا أنني أحاول أن أضيء هذا الجانب من موضوع القصة، وهو ضعف الإرادة، وعدم القدرة على التغيير والخوف من المجهول.
وبالنظر لقصر النص الذي يبلغ أحد عشر سطراً، غير أنه يوظف الجمل الفعلية توظيفاً يساعد على إضفاء الحركية للنص، وكأنه يتسع ويبلغ المدى ويستمر باستمرار الحياة، ويترك كل شيء على حاله للريح تحركه، وللأيام تقلبه، ولكن ماذا صنعت الأيام بعد الحصار عندما ظل الكل ينظرون؟
محنة المثقف
ومثلها قصة دم أخضر التي تحاكي المحنة من جانب آخر وهو جانب الهجرة، هجرة الأوطان بسبب ظلم السلطة وبطشها يا رجال لنستل روح الغادر أمام عياله قعقعة الأسلحة بأيديهم، تعالت صيحات النسوة المستجيرة، صراخ الأطفال يملأ المكان استغاثة الرصاص ينتهك السكون…. 2 . عندئذ تأتي نهاية النص بأروع توظيف لتلقي بالضوء على مدى الضعف والانهيار، إذ حتى الهرب من هذا الواقع صعب جداً لماذا لا نهرب؟ توقف عن البكاء، يلتفت ذات الشمال واليمين، يجيبها مرتاباً لأنني جبان يا امرأة… جبان 3 . أما قصة رجل أنيق فهي تمثل محنة الرجل المثقف في أيام الحصار، فقد يكون بملابس أنيقة غير أنه يتعثر في خطاه؛ لأن من خلفه جوع وحرمان يعصفان به وبعائلته التي تنتظره كي يبث في أوردتها شيئاً يعيد إليها الحياة خطى الرجل الأنيق بأحجار الطريق، داهمه نباح كلاب شرسة… 4 . ولكن هل هذا الجوع قد طال العراقيين فقط؟ أم أنه كان متفشياً حتى لدى حيواناتهم؟ ذلك أن هذا الرجل كلما هم بدفع الكلاب النابحة عنه بحجر وجد أن ذلك الحجر ما هو إلا رأس كلب قد أكلته الكلاب الأخرى لعدم وجود حتى القمامة كان الحجر عبارة عن رأس كلب صغير … أنحنى على حجر آخر كبير، فإذا هو كلب برأس أبيض وبوز أسود… 5 .
وعلى مستوى المبنى الرمزي استعان علي السباعي ببعض لوازم ذلك المبنى عن طريق أسطرة التعذيب السياسي لكونه جريمة مروعة ضد الإنسانية من جهة، وترميز علائقه من خلال الاستفادة من كشوف التحليل النفسي من جهة ثانية، وحشد الدلالات وتنظيمها الواعي من جهة ثالثة، فربما يكون الرمز أكثر الدلالات اللغوية تعبيراً عن مدلولاتها، فهي ــ الرموز ــ تتسع وتتسع لتغطي مساحات شاسعة لمدلولها، فتعبر بصدق وعمق كبيرين عن المراد منها، لذا نجد علي السباعي قد عمد إلي توظيف الرمز التاريخي غاندي وخياله الذي يحاوره من أجل تمثيل المحنة المستشرية عند كل عراقي مأزوم، حتى يظن أن كل عراقي ما هو إلا صورة عن غاندي الذي ذاق ويلات العذابات والحصار والإهانة من أجل تمسكه ببلده، ولم يفكر قط، أو للحظة بأنه سوف يتخلى عن جزء منه. فيبقى أبناء شعبه هكذا غير أنهم كالسكارى لا يعون من الوجود شيئاً أو يتغافلون عن ذلك، لأنهم إن نظروا للواقع بجدية فإنهم سوف يموتون حسرة وندامة، وستنفلق نفوسهم كالبالونات الممتلئة حزناً أصبح الكل سكارى.. الكل مجانين، وكأن هذا العالم كله مشحون بأناس يظنون أنفسهم غاندي 6 .
غير أن هذا الرمز يتضخم مرة أخرى ليحاكي الوحدة التي يعيشها كل عراقي ــ آنذاك ــ فمن الخوف من السلطات السياسية لم يتمكن أي رجل من أن يفصح عن المكبوت، غير أن هذا المكبوت يتصاعد فيتحول إلى شيء خانق قاتل، مما يلبث أن يجد له متنفساً بالافصاح عن نفسه بنفسه 7 . لقد أضفى هذا التشريح للواقع نبرة مأساوية حول تبعات التعذيب والظلم وتخريب الإنسان وكيانه وعقله ونفسيته. وقد تعامل علي السباعي مع عناصر بنية نصه رمزياً فجعل شهرزاد في قصة الخيول المتعبة لم تصل بعد رمزاً متكفلاً بسرد محنة ابناء الشعب العراقي، كي لا تنسى هذه المحن وتوارى التراب، وتظل حبيسة الصدور، بل تحكى وتحكى الف ليلة وليلة على لسان شهرزاد، فتسطر المآسي صفحات في تاريخ العراق، وتدون بألم في تاريخ الإنسانية المنتهكة.
غاية موضوعية
وعلى المستوى التشكيلي كان اهتمام القاص منصباً على نصوص مجموعته القصصية، فقد أودعها معاناته مع الحصار، وعما صار عليه ابناء بلده، أودعها الظلم، والاستبداد، والفقر، والعوز، والجوع، والحرمان.
لذلك قلما نراه يصدر قصصه بنصوص موازية تحكم قراءة النص كـ الجمل الاستهلالية، والتعليقات، والتوقيعات، … ذلك أن الاهتمام كان منصباً على فحوى النصوص وثيمها، فالغاية الأساسية ليست فنية بقدر ما كانت موضوعية بدرجة كبيرة.
وللسبب نفسه كان الاهتمام بالنصوص وحدها من دون العنوان، حتى أن بعض قصص المجموعة لم نتمكن من تلمس علاقة بين النص وعنوانه، فعلى الرغم من أن غاية العنوان في أحيان كثيرة إضاءة جانب من النص، إن يكن موجهاً له، غير أننا لم نجد أي وظيفة للعنوان تخدم النص وموضوعه في بعض قصص المجموعة، ومنها قصة الخيل المتعبة لم تصل بعد . ولقد اتسمت المجموعة بسمة واضحة جلية أفردت جناحيها على جميع نصوص المجموعة على مستوى اللغة الشعرية ذات المفردات الأكثر رونقاً وطلاوةً، وكأنها أختيرت أختياراً متمعناً في جماليتها، فأحسن اختيارها. غير أنها على الرغم من جرسها ورقتها، وتناغم مفرداتها وانسجامها كانت مشحونة بعاطفة جياشة تفيض بالألم والفقدان والشعور بالخسارة وضياع الآمال ــ حياتنا ضائعة يا سيدي تتحرك فوقها نسمات من الهواء الصاخب، تكهرب الجو بفعل تنفس الشمس بخار الغيوم، تصاعدت من الأرض أوجاع قديمة لأرواح تلتهم الحاضر، وتجتر الماضي، كل الماضي… 8 . كانت اللغة مسخرة من أجل تمثيل معاناة شعب بأكمله، ليست معاناة وقتية، بل مستمرة لمدة أعوام طويلة تمنت القلوب ــ كل القلوب ــ أن تنقضي هذه الأعوام ــ أعوام الحصارــ ويشرق نور الحرية من جديد، فكانت هذه اللغة كفيلة بالتعبير عن تلك المحنة الجماعية، كما دل التوظيف للمفردات المشحونة عاطفياً على مدى الطرح الواقعي للقاص كونه أحد ابناء العراق الذين عاشوا أيام العوز والحرمان والفقر في سنوات الحصار، وكيف أصبح فيها الإنسان مهاناً، فتحولت المادة إلى قيمة، بينما صار الإنسان بلا قيمة، فتحجرت العقول، وصدأت القلوب ــ أنا من تقرحت قدماه من السير فوق خرائط الدم، أنا عبد الأمير الشحاذ ارتدي الأسمال البالية لأنها زي كل الفقراء يا مولاتي. أحمل الأكياس الثلاثة معبأة بالأواني الفارغة والقناني… 9 . من كل ما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن المجموعة القصصية كانت متميزة باللغة الشعرية العالية، وقد اعطتها خصوصية وتفرداً، غير أنها من جانب آخر لم تكن تختلف عن قصص مرحلة الحصار من الترميز، والاهتمام بالموضوع على حساب السمة الفنية، إذ لم تكن تقنيات القصة موظفة توظيفاً فنياً جمالياً يساعد في غناء النص، وتوسيع دلالاته، وفي حقيقة الأمر ذلك هو حال اغلب القصص في تلك المرحلة.
AZP09

مشاركة