إياد كنعان.. القلق الوجودي وتفاحة آدم
فضاء تشكيلي يتقلب بين الواقع والذكريات
مؤيد داود البصام
شكل العصر الحاضر بتطوراته العلمية والتكنولوجية امتحانات متعددة للفنان، ووضعه في تجربة بعض الأحيان لا يحسد عليها تاركا إياه في خضم هذا الموج المتلاطم من الرؤي والاتجاهات والمناهج التي تسارعت في الظهور ما بعد منتصف القرن العشرين، حتي أصبح من الصعب الفرز إلا لمن امتلك ناصية التخصص، ولكن هذا لم يمنع من ظهور التعدد في احتواء الأنساق، والعمل علي استجلاء مكنونات الداخل من خلال هذا الاحتواء، فالأنساق الفنية والأدبية المختلفة، منابع يستقي منها المبدع ما يشحن داينمو إبداعه، وتطوير تلقيه السمعي والبصري،
ويأخذ هذا الشحن إبعادا ً كثيرة لدي بعض المبدعين في تطوير المهارات الحسية والروحية، وكثير من المبدعين من امتلك أكثر من نسق إبداعي وأبدع فيه، أو امتلك هذه المواهب ولكنه ركز علي نسق وأستمر في التذوق وتفعيل الأنساق الأخري لترفد النسق الذي كرس له وقته ومعرفته، ومثالا وليس حصرا ً، جبران خليل جبران الذي كان شاعرا ورساما وكاتب نص..الخ، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا المتعدد المواهب والفنان جواد سليم الذي كان عازفا للموسيقي، يركن للعزف عندما يريد أن يعيش لحظة تأمل وقتل للسأم والقلق، ليغذي حماسه للرسم أو النحت، أو ما كتبه من شعر، وهناك الكثير في بقية الأقطار العربية وفي عصرنا ليس حصرا وإنما للمثال الفنان الأردني مهنا الدرة متعدد الأنساق ولكنه يكرس حياته للرسم فقط، ويترك الأنساق الأخري لدعم النسق الأساس الذي يبدع فيه، والفنان الأردني محمد العامري الذي يبني رؤاه من خلال هذا التنوع في الأنساق الفنية والأدبية، ويحاول أن يحاور الرؤية والرؤيا لإظهار قيمه الجمالية، والشاعر والفنان والناقد العراقي فاروق يوسف والفنان والشاعر والموسيقار الراحل حسني أبو المعالي الذي احتوته المغرب بأنساقه بعد أن أقام فيها وقدم إبداعاته، وآخرون في العراق والأردن ومصر والعالم العربي، والكثير من هذه الأمثلة وأحدهم الفنان المصري فاروق حسني، والسوداني عنتر حسن أحمد وغيرهم كثر في العالم الفيلسوف فريدريك نيتشه والشاعر لوركا…، فتماثل الفنون وتلاقحها يوجد المبدع القادر علي التفاعل لاستخراج مكنونات القيم الجمالية بتفاعلاتها غير المقروءة والمرئية، من اندماجه في هذه الصيغ الجمالية وأحاطته بالرؤية الواقعية، التي تولد حالة المتعة والدهشة، ومهما حاول فن ما بعد الحداثة المشوه، أن يجر فكرة ما بعد الحداثة للتخصص وإخراجها من روح الجمع وعدم التمسك بالقواعد، لم يفلح إلا ضمن محيط ضيق في الدول الرأسمالية، بينما تعالت روح الحداثة وما بعد الحداثة التي أبقت روح الجمال ضمن واقع الجماعة هي السائدة في بقية أنحاء العالم، وعادت الفنون الواقعية وغيرها تأخذ دربها في أعمال الفنانين الأوربيين الآن، والفنان إياد كنعان لا يخرج من هذا التعريف فهو يمارس لحظة التجلي حسب مخرجاتها ولا يقصرها بشكل واحد، فهو يمارس الفنون التشكيلية رسم ونحت ويكتب الشعر ويهوي التصوير إلي جانب انساق أخري، هذا التنوع أثر بشكل وآخر علي أسلوب اللوحة لديه، فلوحته فيها هذه الموسيقية والشعرية، تونات موسيقية متناثرة علي سطح اللوحة، مع تداخل سطوح اللوحة وإدخالاته بأسلوب الكولاج والألوان المعدنية «الميتاليك»، ثم تحديد الشكل بالخطوط الحادة، أو جعل الملصقات مجرد ظل لأصل الصورة الفوتوغرافية، فهو يحاول أن يختزل الزمن في لحظة واحدة، تمتلك روح الجمال والإبداع، وتشكل البعد التأملي في انفتاح النص علي دلالات متعددة.
الدلالات والرموز
الفنان إياد كنعان كرس ما حصل عليه معرفيا ً في الاستفادة لإضافته إلي إشغالاته علي اللوحة، فاللوحة تحمل علي سطحها الكثير من الدلالات والرموز التي يسردها النص، ولهذا تجد هناك تعدد في الرموز والدلالات السيميائية، «التفاحة وجذع الشجرة…الخ» وكما في الرسم نجد تكرار هذا الرمز «جذع الشجرة» في أعماله النحتية التي قدمها في معارضه السابقة، وبالذات في أعماله النحتية علي الخشب، وبالرغم من تصريحه المباشر بتأثره بأعمال ميكل أنجلو وهي مسألة شائعة وطبيعية في الحراك الإبداعي بين المبدعين في كل الأنساق الإبداعية في مؤثرات عمالقة الفن الأوائل بالأجيال اللاحقة، إلا أننا نجد انه يشتغل علي رمزية رسوم أنجلو كفكرة روحانية، وليس البناء ألاستنساخي للوحة ميكل أنجلو، يستمد منها التحولات الفكرية بين كائنين يريان نفس النقطة برؤية مختلفة، وهو ما يجعله يشتغل علي طرق تنقله من حال إلي حال علي لوحته بأسلوب تسطيحي وتبسيطي، فعلي الرغم من عالم الرموز الذي يستخدمه في لوحته بصورة متناثرة، كتونات موسيقية، إلا أنه يترك للفراغ المجال الأرحب لينمو في ترسيب الفكرة أو الدلالات ورموزها علي ظهر اللوحة، فلوحته تكريس للفراغ وعمق أبعاده، إذا عرفنا أن الفضاء هو المجال الواسع للتأمل وتكوين الأفكار والتخيل، وهو الذي يحتوي كل العناصر التي تكون البيئة، ولكن هذا التأكيد علي الفراغ وانحسار الكتلة، لم يخل في التوازن العام للوحته، لأنه أستطاع بمدركاته الشعرية والموسيقية أن يقيم تونات تتوزع لتبني كتلة في محيطها العام للرؤية البصرية، تحددها هذه الزوايا المدروسة لحركة التونات، هذه الرؤيا الوجدانية المصحوبة بالقلق الوجودي والوحدانية، مما أدركه من الواقع الذي عاشه ويعيشه كانسان وفنان، أن هناك فجوة بين ما يطمح له الإنسان وبين الواقع أوضحت بتواجدها علي ظهر اللوحة حجم معاناة التغريب التي تلح عليه، وما يتركب في رؤيته تجاه الواقع والعالم، متمثلة في التقلب بين الواقع والذكريات وانبعاثها في لحظات وجدانية تجبر الباعث علي أخذ مسارات الرؤية لإزاحتها إلي أماكن من مجاهيل النفس البشرية العميقة التي تشير إلي التغريب، وهو ما نجده علي ظهر اللوحة بإيقاعات شعرية وتونات موسيقية تتداخل فيها الألوان لإيجاد سطوح متغايرة ومتقابلة وكأن كل سطح يختص بنفسه، إن العالم الذي يشتغل عليه الفنان إياد كنعان يتحقق فيه هذه النظرة التي تحملها فكرة تغيير العالم، وإيجاد عالمه الخاص من فلسطين الأرض التي تدور عليها اعتي الصراعات، الذي ينكر ما هو عليه، لإنسان هذه البقعة وإيجاد الواقع الذي يتواكب مع حلمه غير المتحقق، وقائع الحياة التي يعيشها في كل البقاع التي يحتويها عاطفة وعقلا، يرمز لها بهذه الكتلة الصماء التي لا يزيحها لتظل تعلن عن وجودها بهذه الضربات البسيطة والمعمقة من الفرشة لتونات لونية، تخترق عالم الفضاء المتسع علي ظهر لوحته، إن الفنان إياد كنعان الفلسطيني المولد والأردني الجنسية والمولود في مدينة بنغازي. ليبيا عام 1972 والحاصل علي دبلوم الدراسات العليا في الرسم والتصوير من معهد الفنون الجميلة – الجامعة اللبنانية عام 1998، والذي شارك في العديد من المعارض العربية والأجنبية في الأردن والسعودية والسودان والمغرب ولبنان وتونس وإيران وبنغلادش، وله العديد من الدراسات والمقالات النقدية حول الفن التشكيلي، وصدر له ديوان شعر «المدينة نهر» عام 2005. يتحاور مع هذا العالم عبر ما يحمل هذا الهم المترسب من استمرار مأساة امة وشعب، ما زالت تتعاقب عليها الأحداث الجسام والأزمات المتتالية، من دون أن يجد في القادم ما يفتح الكوة، التي يعطيها هذه المساحة من الفراغ ويحسر الكتلة ضمن أبعاد محددة في اللوحة، أنه يلاحق الفكرة بالرؤية الجمالية التي يطورها ضمن محور الرمز والتشفير الذي يخدم فكرته.
/2/2012 Issue 4113 – Date 4- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4113 – التاريخ 4/2/2012
AZP09