إنطباعات أساسية عن سيد الرواية العربية

مدونة نجيب محفوظ

 

إنطباعات أساسية عن سيد الرواية العربية

 

احمد خلف

 

قبل عام من الان شرعت بكتابة نص سيري عن علاقتي المعروفة للعديد من الاصدقاء بأدب نجيب  محفوظ ( القصصي والروائي ) الذي ارى فيه ليس مجرد كاتب قصة ورواية محترم على مستوى الادباء العرب او انه احد المعنيين بهذا النوع من الكتابة انما باعتباره ظاهرة ادبية وابداعية مشهود لها بالتميز المستمر  ،  كان ذلك الشعور الفياض بالتقدير العميق لنجيب محفوظ قبل نيله جائزة نوبل وبعدها مقرونا بالقراءة الجادة لمعظم ما انتجته قريحتة من ابداع متميز  وهو الذي وصفه ادورد سعيد بقوله : (( …. على الرغم من اسلوبه الصريح يعتبر حاذقا الى حد بعيد ليس فقط لكونه صاحب اسلوب ادبي عربي مميز ولكن ايضا بصفته دارسا مجتهدا للمسار الاجتماعي ونظرية المعرفه .. مجلة العربي ـــــ نجيب محفوظ  عدد خاص ـــــ  العدد 577 ـــــ   ديسمبر 2006 ))  .. اعود واقول كتبت قبل الان نصا يليق بسيد الرواية العربية ،  لكن النص هذا اختفى من مكتبتي او بالحري تلاشى وجوده من منضدة الكتابة بصورة غامضه  / ولو كنت نهبا للشك لاتهمت من هو يريد الكتابة عن نجيب محفوظ من معارفي واصدقائي،  اقول لم يراودني الشك باحد قط ولكن النص الذي بذلت اقصى ما املك من طاقة في الكتابة والتأني بل والصبر على تشكيله ضاع ،  وقد جمعت خلال اعدادي له مصادر عنه  : مقالات ودراسات ودوريات ومجلات  صدرت باعداد خاصة عن ادبه :  كالهلال وقضايا الرواية وكتاب  للدكتور جابرعصفور وما صدر عن الدورية الخاصة بادبه ،  واخيرا العدد الخاص من مجلة العربي وعدد الهلال المخصص له ايضا قرأت معظم هذه الصفحات الطوال بحمية روائي يعرف عن دراية من هو نجيب محفوظ بالنسبة للقصة والرواية العربية وما قدمه بسخاء لنا ،  وعليه اضطررت الى اعادة قراءة ما تيسر لي قراءته من رواياته المتأخرة ،  اعدت قراءة اللص والكلاب  والشحاذ للكتابة عنهما ضمن مشروع المدونة وكذلك الطريق وميرامار والمزيد من القصص القصيرة  كل هذه الحصيلة تصورتها  تلاشت مع فقداني للمدونه وكانت المقالة بالعنوان ذاته ( مدونة نجيب محفوظ ) لكن الهاجس بالعثور عليها لم ينقطع وواصلت البحث في كل زاويه من زوايا المكتبة واركانها وما يمت لها  بصلة ولكن دون جدوى ،  ومضت الايام والامل بالعثور على المدونة تخف حماسته لأن اليأس عنصر لعين ولا يغفر لنا اهمالنا لأمورنا التي تعنينا ،  حتى جاء يوم انزلت الستارة على المدونة وتركتها الى الزمن ،  ولكن الاخير هو الاخر لا يقل مكرا عن النسيان وربما هما من طينة واحدة  يعملان معا ضد ذاكرتنا التي نحرص ونأمل ان تظل تحافظ على نشاطها بل وحيويتها لأننا بحاجه للذاكرة ولعدم النسيان مهما كانت ظروفنا عصيبة في هذا الزمان الذي لايرحم ،  مضت المدونة مع مضي الايام  أي  ضاعت ،  حتى جاءت الساعة التي لا يدري بها الكاتب كيف تحل وتتحكم وتفرض نفسها عليه ليشرع في الكتابة من جديد خصوصا انه سبق وكتب عن الموضوع ذاته ،  اذن حان الوقت او حلت اللحظة التي لا مفر منها في الكتابة عن احدى الظواهر الابداعية في وطننا العربي ،  نعم ارى ان نجيب محفوظ ليس مجرد كاتب قصص وروايات انما ظاهرة ثقافيه ،  ينبغي لكل مثقف عربي ان يدلي بدلوه تجاهها ..

 

       عندما اضطرت عائلتي للرحيل المؤقت خارج بغداد وفي احدى ضواحيها ،  تسمى بالزعفرانيه وذلك سنه ( 1964) لغاية سنه (1966)  كان معي عدد من الكتب لعل من ابرزها والذي ظلت الذاكرة تحتفظ بصورته حية حتى الان : قصص همنغواي ورواية المسيح يصلب من جديد وزوربا اليوناني والروايتان الاخيرتان للكاتب الشهير نيكول كزنتزاكي والأم لمكسيم غوركي وامراة في الثلاثين لستيفان زفايج وروايه لألبيرتو مورافيا ربما هي الشقيقتان  وكتاب عن باسترناك  وعدد اخر من الروايات والقصص العربيه والعالميه لا اتذكرها بالتمام ومن الطريف كان من بينها كتاب لميخائيل نعيمه  (  الغربال )  اما نجيب محفوظ الذي تعرفت عليه من قبل عام تقريبا ،  كان معي من كتبه كفاح طيبه ومجموعة قصص اغلب الظن انها كانت ( همس الجنون  ) غير أن القصه القصيرة التي شغلت بالي ردحا طويلا من الزمن من هذه المجموعه كانت بعنوان : ـــــ ( بدلة الاسير )  .. في هذه القصه توفرت مجموعه من عناصر ديمومة فن كتابة القصة القصيرة هذا الفن الرفيع الذي شغل العديد من المؤلفين والكتاب والمعنيين بالكتابة السرديه وقد عرفت سوزان لوهافر القصة القصيرة بانها (( قصة قصيرة   ))  وهذا التعريف وحده يكفي تماما .. ماهي ميزة قصة بدلة الاسير  لنجيب محفوظ عن غيرها من قصصه ورواياته الاخرى ؟

 

ولا يخفى على احد التنوع الذي عرف به ادب نجيب محفوظ  سواء في القصة او الرواية  ..

 

     هذه القصة جاءت ترجمه لحالة مصر في الحرب العالميه الثانيه التي تشبه حالة العراق ولا اختلاف بين ما عاشته مصر او سوريا او لبنان أوالعراق ،  وهي حالة اتسمت بالفوضى والخراب وتدمير الانسان في هذه البلدان لذا كان الميل لها صريحا بدافع من كثرة الكلام عن العرب وعلاقتهم بحروب العالم وما جرته هذه الحروب من ويلات على شعوب المعمورة     ..

 

     وثاني دوافع الميل لهذه القصة هو جانب العبث والفوضى لا بل قل المأساة التي حملتها بين طياتها وبالقدر الذي كان السرد فيها سردا تقليديا لاتوجد فيه اجتراحات كبيرة  لكن نجيب بحيويته الواضحه جعل من النص هذا نصا خالدا في الاذهان بدليل ان التلفزيون المصري اشتغلها كتمثيليه ناجحه  في وقت  متأخر من نشر القصة التي عاشت بين الناس لسنوات .

 

والقصة عبارة عن رجل يبيع السجائر ..  لأنه ((  كغالبية الناس برم بحياته ،  ساخط على حظه ،  ولعله لو ملك حرية الاختيارلآثر ان يكون سائق سيارة احد الاغنياء فيرتدي لباس الافنديه ويأكل من طعام البيك ويرافقه الى الاماكن المختارة في الصيف والشتاء ..ص 150 همس الجنون / مطبوعات مكتبة مصر )) عند محطة القطار في القاهرة ابان الحرب العالمية الثانية ،  في تلك الساعة من النهار يمر قطار لجنود اسرى ايطاليين ويتوقف في المحطة ليتزود بالوقود او للاستراحة ،  ينتبه الجنود الاسرى وهم في القطار الى وجود بائع السجائر في المحطة  ويندفعون نحو النوافذ الضيقة ينادون على البائع  يطلبون منه ان يبيعهم علبة سجائر بنقود اجنبيه والذين لا نقود لديهم عرضوا بعض ملابسهم يقايضونها بثمن علبة السجائر وقد فوجئ البائع رث الثياب بالملابس العسكريه التي ارتداها قد بدلت من هيئته  حتى اكتشف نفسه مكسيا بثياب عسكرية كاملة القيافة بالتمام ،  اي أن المؤلف ابتلاه ببلوى التنكر لحقيقته اي استبدال كينونته بأخرى ،  وهذا النكران للهوية الاصليه له ثمنها الباهظ مثلما يريد المؤلف ان يقول لنا عن حالة نكران الذات التي  تشكلت عبر الزمن واعطيناها الصفة التي هي عليها كما يعرفها الاخرون ويتعرفون علينا من خلالها واذا ما تورطنا لاي سبب في ذلك التبدل في الكينونة والهيئه فان الاخرين قد لا يتعرفون علينا وربما نجد لهم العذر في حالة نكرانهم لنا ،  ويعود هذا كله الى معنى الهوية بكل صنوفها واصولها وانواعها ،  من الهوية الفردية الى الهوية الوطنية الى القومية كلها تشترك في صياغة المرء وتحدد ماهيته ،  ولقد انكر بائع السجائر هويته اذ لم يعد مصريا وانكر هويته الشخصية او الذاتية اذ ارتدى ثيابا ليست له وقد صنعت هذه الملابس ذات الصبغة العسكرية الى اناس اخرين يقومون بمهمات غير بيع السجائر في محطة القطار ،  وعليه يكون من حق العسكري حارس قطار الاسرى ان يظن ان الرجل الواقف قريبا منه هو جندي اسير تنكر بمهنة بيع السجائر ،  عندئذ ينادي عليه ويأمره بالصعود الى القطار ،  غير ان الرجل بائع السجائر والمرتدي ثيابا جديدة وان اتت بلون عسكري الا انها تختلف عن ثياب الاخرين في المحطة او في اي مكان اخر ،  يستمر بائع السجائر بممارسة مهنته في بيع السجائر ولكن هذه المرة بثياب اسير عسكري ،  وعندما يتحرك القطار مجرد حركة بسيطة يصرخ حارس الجنود الاسرى ببائع السجائر المصري اصعد الى القطار وبالطبع الرجل لايعرف اللغة التي يناديه بها حارس قطار الجنود الاسرى ،  وحالما يبدأ صوت الفرامل بالارتفاع يطلق الحارس رصاصة من بندقيته على بائع السجائر ويرديه قتيلا في المحطة ولكن القطار يمضي براكبيه نحو الجهة التي تم تحديدها له ،  ولا يظن القارئ المتابع ان نجيب محفوظ قد ختم القصه بحكمة زائله او موعظه او وبلاغة واطناب ،  ابدا بل سينتبه المتابع الادبي الى البذرة الحية في ادب نجيب فهو في قصصه كما في رواياته يترك للقارئ حريه في التفكير والتأويل دون تدخل السارد او المؤلف انما نعلم ان حارس قطار الاسرى اضطر الى اطلاق الرصاص على بائع السجائر وارداه قتيلا في الحال  (( وتناثرت علب السجائر والكبريت ،  وانقلب على وجهه جثة هامدة . ص153. همس الجنون   )) وينبع حرص المؤلف على نبرة الحياد في السرد من فهمه المتقدم لمعنى القصة والرواية الحديثتين وكيف ينبغي لنا معالجتها على ضوء فهمنا المعاصر لمعنى الفن .. والان لنسأل  : ماذا اراد المؤلف ان يقوله لنا في قصته هذه ؟  ..  اشياء كثيرة اراد نجيب محفوظ ان يقولها لنا عبر هذه القصة القصيرة التي شغلتنا او بالحري ظلت عالقة في اذهاننا حتى الان ،  وهي قصة لا تختلف عن بقية قصصه في تلك المرحلة او غيرها من مراحل كتابته  القصصيه و الروائيه التي تنوعت بها لغته واسلوبه ورؤياه  الفنيه العميقه التي لا ينكرها عليه احد ..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 هذا هو القسم الاول من الكتابه عن سيد الرواية العربية ويتبع القسم الثاني وقد تناولت فيه روايتي : الشحاذ واللص والكلاب  ..