إنشطار النص.. رؤية طبقية
عيسى الصباغ
بغدادهذه المقالة جزء من دراسة موسعة، اتخذت من المنهج اللغوي- السيميولوجي طريقة لتحليل شعر رشدي العامل، وقد اخترت نصا شعريا من ديوان الطريق الحجري، وجهدت أن أتوصل الى الدلالات الخفية التي كانت تضطرب في لا وعي الشاعر، ووَجدتْ متنفسا لها في صياغاته اللسانية ، وبناء على هذا يكون الصوغ اللساني بوصفه البنية السطحية هو السبيل الذي يوصلنا الى تلك المعاني والأفكار والدلالات التي تجول في خاطر الشاعر.
والمقالة بعد ذلك تبين لنا آلية اشتغال اللغة، وتتابع كيفياتها التعبيرية وأزعم أن في رصد الظواهر النحوية واستنطاقها قدرة على الكشف والإفصاح والتفسير والتأويل، فالرصد والاستنطاق، إذن، مغامرة نقدية تتطلب من الناقد إن يحبس أنفاسه ويغوص في أعماق النص لاستخراج مكنوناته، كاشفا بذلك رؤية الشاعر ليس الشعرية فحسب، وإنما الفلسفية والاجتماعية أيضا.ولابد للقارئ المتابع للتحليل من الرجوع الى النص الشعري في أثناء قراءته ذلك إن النص في صياغته اللغوية دائم الحضور في عملية التحليل، ولكي تتحصل الفائدة منها، أورد النص أولا ومن ثم الكتابة عنه.
يقول الشاعر:
في بيتي
ما كان سوى الحبّ
وفي مملكتي ما كان سوى قلبي
وغبار القافلة القادم
من رمل الصحراءْ……………(أ)
طرقت امرأة بابي
تسأل عن قطعة ماسْ
عن قرط ذهبيٍّ
عن إسورةٍ بيضاء……………(ب)
ما وجدتْ في بيتي
إلا كسرة َ خبز ٍ
وقليلا ً من حبّات الزيتون
وقـُلة َ ماءْ…………………..(أ َ)
لإغراض الدراسة قسمنا النص على حقلين دلاليين(أ و ب) وحقل ثالث معلّم بـ(أ َ) تابع للحقل الأول (أ) ومتمم له.
عناصر الحقل (أ): (الحب، قلبي، غبار القافلة) وعناصر الحقل (ب):(قطعة ماس، قرط ذهبي، إسورة بيضاء). يرتبط الحب بالوجدان فهو هنا قيمة معنوية والقلب عادة ما يكون مكمن العواطف النبيلة ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به ، من الروح والعلم والشجاعة وغير ذلك، وسمي بهذا الاسم لان قلب كل شيء خلاصته وزبدته.
إن ارتباط القلب بهذه المعاني الدالة على النبل ، إنما جاء لوقوعه مع الحب في سياق واحد، أما التعبير :غبار القافلة ، فهو يوحي بالفاقة، ذلك بان القافلة عادة ما تكون محملة بالثروات وليس له شيء منها سوى غبارها، والتعبير يشير الى طبقة اجتماعية معينة تجد تكريسها على نحو أوضح في الحقل(أ َ) وبهذا يتصل الحقل(أ) بتابعه الحقل(أ َ) فالمكوّنات الأسلوبية في هذا الحقل الأخير إنما هي تنويع بنيوي لغبار القافلة.
من جانب آخر ، إن القافلة دالة علامية توحي بالتفاؤل وسميت القافلة قافلة تفاؤلا بقفولها عن سفره الذي ابتدأته. وبهذا المعنى تتناسب مع الحب والقلب، ذلك إن للجميع هنا قيمة معنوية.
يتضح من هذا إن الحقل(أ) دل على عالم تسوده قيم الحب والنبل والتفاؤل، إذ انتظم هذا النسق المعنوي في مملكته (في مملكتي).
أما الحقل(ب) فان عناصره اللفظية ذات طبيعة معدنية تتسم بالغلظة والثقل، كما دلت على الثراء والامتلاء المادي في مقابل الامتلاء الروحي والمعنوي في الحقل (أ) وتابعه (أ َ) .
وردت لفظة مملكة في الحقل(أ) ولم ترد في (ب) ما يعني أن الملك الحقيقي هو امتلاك القيم المعنوية الدالة على الروح وليس المادة. التوزيع الحقلي نابع من طبيعة النص الشعري بما يعني أن الشاعر تحدث عن الفقراء في (أ) ثم خصّ الموسرين في (ب) وبعد ذلك عاد الى الفقراء في (أ َ).
الحقل الدلالي(أ) وتابعه(أ َ) يمثلان شريحة مستلبة اقتصاديا، منهوكة ماليا لا تملك من الحياة المادية سوى مستلزماتها المتواضعة (كسرة خبز، قليلا من حبات الزيتون، قلة ماء)(لاحظ التقارب الصوتي بين قلة – بضم القاف- وقلة – بكسرها- في الصائت القصير). في حين أن الحقل (ب) دل على الموسرين ممن يتطلعون الى زيادة ثرائهم لذا كانت تسأل عن قطعة ماس وقرط ذهبي وإسورة بيضاء، فهذه الشريحة الثرية مسؤولة عن الاستلاب الاقتصادي الذي تعانيه شريحة الفقراء، ظهر ذلك على المستوى الخطي الكرافيكي في تجزئتها الى حقلين (أ، أ َ). فالتجزئة دالة علامية على الضعف المادي والاستلاب والانتهاك الاقتصادي.
ومن المناسب القول إن الذي قام بهذه التجزئة (الاستلاب) هم الأثرياء، فالمقطع (ب) شطر الحقل المخصص للفقــراء الــى (أ) و(أ َ) ، إذن الشاعر يلقي تبعات الاستلاب والمصادرة على عاتق الموسرين. يلاحظ أن الشاعر في الحقل(أ) استعمل أسلوب القصر بـ(ما) و(سوى) في الجملتين (في بيتي ما كان سوى الحب) و(في مملكتي ما كان سوى قلبي) فاختص اللفظتين (الحب، قلبي) بالوجود في بيته ومملكته دون سائر الأشياء.
وللقصر بـ(سوى) معنى يختلف عما في (غير) (وذلك انك إذا قلت عندي رجل سوى زيد فمعناه عندي رجل مكان زيد اي يسد مسده ويغني غناءه). ويميز الدكتور فاضل السامرائي بينهما قائلا(إن قولك جاءني رجل غير زيد، يختلف عن جاء رجل سوى زيد، في أصل المعنى، وذلك إن معنى الأول جاءني رجل ليس زيدا أي مغايرا لزيد، ومعنى الثاني، جاءني رجل مساو لزيد أي يقوم مقامه ويغني غناءه، والشاعر في موضع الموازنة بين شريحتين اجتماعيتين وهو منحاز الى إحداهما كما تبين قبل قليل لذا استعمل سوى ليدل على إن ما لديه مساو لما في الشريحة الأخرى من ثراء مادي ولا يمكن أن يتميزوا ،بما لديهم ،على شريحة الفقراء هذا فضلاً عن التغاير من وجه آخر، ومبتغى قول الشاعر : إننا متساويان فيما نملك على الرغم من تغايرهما. وفي مستوى آخر من التحليل قدم متعلق خبر كان (في بيتي، في مملكتي، ليدلّ على تعلق الفقراء بالمكان الذي ينتمون اليه في حين أن الحقل(ب) خلا مما يدل على هذا النوع من الانتماء وإنما انصبّ همّ الموسرين على الثراء فحسب. فحذف اسم كان لأنه مرتبط بالشريحة الموسرة فقد أراد إبعاد أيّ ذكر لها ، فلو قال (ما كان في بيتي شيء سوى الحب) فان الشيء المنفي مقصود به هنا هو أية قيمة مادية، وعلى هذا فهي من مقتنيات الحقل(ب) لهذا أبعده بعدم الذكر. أما الحقل التابع (أ َ) فهو الوجه الآخر لـ(أ) ويجسّد صور القناعة والاكتفاء ويكشف عن اصطفافهم الطبقي ذلك إن الفقراء إنما هم أغنياء بقيمهم المعنوية والروحية وليس بمظاهر الثراء.