تدخل حكومي مفضوح من أجل النفط
إنتخابات نيابية بلا دستور للوصول إلى سلطة مشوّهة
محمد مظفر الادهمي
بعد أن صادق المجلس التأسيس على القانون الاساسي (الدستور) وقانون انتخابات مجلس النواب ، جرت عام 1924 اول انتخابات نيابية في العهد الملكي ،لكن سلطة الانتداب البريطاني خالفت ابسط القواعد القانونية عندما منعت الحكومة العراقية من وضع القانون الاساسي موضع التنفيذ قبل البدء بالانتخابات ، فقد إرتأت وزارة المستعمرات البريطانية عدم العمل بالقانون الأساسي العراقي قبل توقيع الحكومة العراقية امتياز شركة النفط التركية في العراق ، لأن وضع القانون الأساسي موضع التنفيذ سيجرد الحكومة العراقية من حقها التشريعي في المصادقة على الامتياز النفطي الذي يمنحه القانون الأساسي لمجلس النواب ، بينما كان البريطانيون لا يرغبون بهذا التأخير لتجنب المشاكل والمعارضة في المجلس النيابي القادم بعد ان رفضوا طلب الحكومة العراقية بأن يكون للعراق حصة 20% في الامتياز . فادعوا أن البرلمان العراقي حديث النشأة ولا يمتلك الخبرة للتعامل مع هذا الامتياز. ولهذا فضلوا توقيع الامتياز قبل اجتماع المجلس النيابي ، ولذلك نشر قانون الانتخابات مرفقاً ببيان رسمي يوضح سبب تأجيل وضع القانون الأساسي موضع التنفيذ إلى حين الانتهاء من انتخابات الناخبين الثانوي . ولم يذكر بالطبع السبب الحقيقي المتعلق بتوقيع امتياز النفط قبل انعقاد مجلس النواب ، وإنما كان العذر هو وجود صعوبات في قضايا مهمة مرافقة للتشريع في ضوء الظروف العامة المتمثلة في الأخطار السياسية المحدقة بالبلاد .
ايقاف الانتخابات
في 12 تشرين الثاني 1924م صدرت الإدارة الملكية ببدء الانتخابات يوم 15 تشرين الثاني. بإعداد قوائم الناخبين الأوليين من العراقيين الذكور الذي تزيد أعمارهم على (20) سنة ،لكن وزارة الداخلية فاجأت متصرفي الأولية وأمين العاصمة بإصدار أوامرها لهم يوم 31 كانون الأول 1924 بإيقاف الإجراءات الانتخابية حالاً . وأوضحت أن السبب يعود أن الإحصائيات التي قدرتها اللجان لعدد السكان من الذكور العراقيين لغرض حساب حصة كل لواء من النواب ، مبالغ فيها ، إضافة إلى المبالغة بأعداد المسجلين من الناخبين الأوليين. وفي حالة افتراض أن هذه الإحصائيات صحيحة فإن نفوس العراق ستكون عشرة ملايين. في حين أنها كانت تقدر بثلاثة ملايين نسمة ، كما أن إحصائيات انتخابات المجلس التأسيسي كانت قد قدرت عدد الذكور الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات بـ 924 و 796فقط.
لقد تزامنت مع هذه المشكلة قضية حيوية سياسية استوجبت هي الأخرى تأجيل انتخابات المجلس النيابي ، وهي مسألة ولاية الموصل والحدود الشمالية للعراق . فقد قرر مجلس عصبة الأمم الذي أحيلت إليه قضية الموصل لاتخاذ قرار نهائي بشأنها ، إرسال بعثة إلى الموصل للتحقيق في القضية). فخشيت الحكومة أن تأخذ اللجنة بالمقترح التركي بإجراء استفتاء لحل قضية الموصل مادامت الانتخابات قائمة في العراق، في حين أن الحكومة البريطانية كانت تريد تجنب الاستفتاء بأي شكل من الأشكال . ولم يكن ذلك صعباً بعد أن ظهرت الإحصائيات المبالغ بها في قوائم أسماء الناخبين الأوليين .
أزمة امتياز النفط
احتلت قضية امتياز النفط وزيارة لجنة الحدود الدولية وموضوع العمل بالقانون الأساسي الصدارة في انشغالات السياسة العراقية خلال فترة تأجيل الانتخابات النيابية . فقد برزت في مباحثات الحكومة العراقية مع شركة النفط أزمة كبيرة نتيجة إصرار العراق أن تكون له حصة قدرها 20% من رأسمال الشركة مقابل الموافقة على منح الامتياز . ولكن الحكومة البريطانية ضغطت على الحكومة العراقية للتخلي عن مطلبها هذا ومنح الشركة امتياز النفط على ما هو عليه .
وعندما تم تأجيل الانتخابات أصبح هذا الموضوع المسألة المركزية في الحياة السياسية في العراق وتوحدت جهود حزبي الأمة والنهضة للاحتجاج على منح امتياز النفط قبل انعقاد البرلمان . وتصاعدت الانتقادات في الصحف المحلية ضد شركة النفط . وهدد وزراء العدل والعمل والتربية بالاستقالة إذا لم تتحقق مطالب الحكومة بحصة 20% من رأس مال الشركة والتي يجب أن تعرض على البرلمان ليكون له قرار الحسم فيها. وبعبارة أوضح فإنهم أرادوا وضع القانون الأساسي موضع التنفيذ قبل توقيع امتياز النفط .
تزامنت هذه الأزمة مع زيارة اللجنة الدولية للحدود إلى الموصل والتي استمرت من 16 كانون الثاني إلى 23 آذار 1925. وقد أبلغت اللجنة الحكومة العراقية بكل وضوح أن العراق لن يحصل على ولاية الموصل إذا لم يوافق على منح الامتياز لشركة النفط التركية والتخلي عن مطلب المشاركة بـ 20% من رأس المال. وبعد مباحثات إضافية وافقت الحكومة العراقية في 5 آذار على امتياز النفط على ما هو عليه ، وقبلت استقالة كل من وزير العدلية رشيد عالي الكيلاني ووزير التربية الشبيبي.
وفي 14آذار وقعت الحكومة العراقية اتفاقية منح شركة النفط التركية امتياز النفط بدون الحصول على حصة 20% للعراق في رأسمال الشركة. وبعد ثلاثة أيام قرر مجلس الوزراء وضع القانون الأساسي موضع التنفيذ في 21 آذار 1925). وغادرت لجنة الحدود الدولية الموصل بعد يومين من ذلك .
وكان التهديد بأن العراق سيخسر ولاية الموصل إذا لم يوقع على امتياز النفط على ما هو عليه ، قد منع المعارضة من استخدام هذا الموضوع مفتاحاً لهم عندما استؤنفت الانتخابات . قائمة حكومية لانتخاب النواب
في 19 شباط 1925 أرسلت وزارة الداخلية إحصائيات الذكور المصححة لكل لواء وأمرت المتصرفين باستئناف الانتخابات. في الوفت نفسه قرر الملك فيصل وحكومته إرضاء جميع الأطراف المتنافسة في الانتخابات ، فأعدت بالتعاون مع المندوب السامي قائمة بأسماء المرشحين لانتخابات النواب على أنها قائمة مرشحي الحكومة . ولم يكن سراً أن الحكومة ستختار مرشحيها ، فقد أعلنت جريدة العالم العربي أن مجلس الوزراء سيجتمع لتسمية مرشحي الحكومة . واحتجت جريدة المفيد على أساس أن الحكومة غير ممثلة بحزب معين أو مجموعة كبيرة من الناس ، وعليه فهي غير مؤهلة لتسمية المرشحين للنيابة .
وقع خلاف قوي في الرأي بين رئيس الوزراء الهاشمي ووزير الداخلية عبد المحسن السعدون حول أسماء المرشحين، تم تجاوزه في النهاية عندما قدم الملك فيصل قائمة جديدة بالأسماء قدمت إلى مستشار وزارة الداخلية كورنوالس من خلال السعدون.
وقد أعطيت لكورنوالس في القائمة بعض الخيارات فقام بشطب اسمي الشيخ أحمد الشيخ داود رئيس حزب الأمة وعبد الرزاق منير نائب الرئيس السابق للحزب ، إلا أنه أبقى اسم أمين الجرجفجي سكرتير حزب النهضة .
كما شطب أيضاً الأسماء المرشحة للواء السليمانية ، وفي 26 مايس 1925 أصدر تعليماته إلى المفتش الإداري البريطاني في السليمانية لأن يختار هو والمتصرف أسماء مرشحي اللواء. كما أن تسمية مرشحي لواء كركوك قد تركت هي الأخرى للمفتش الإداري ومتصرف هذا اللواء. ويبدو أن البريطانيين قد أرادوا بهذه الطريقة أن يراعوا مشاعر الكرد والتركمان وغيرهم بأن يستشاروا في تسمية مرشحيهم بدلاً من تسميتهم من قبل الحكومة في بغداد .
لقد أجرى الملك فيصل توازنات في قائمته لجميع القوى السياسية ، ولذلك وضع فيها أيضاً أسماء قيادات ( حزب الاستقلال ) في الموصل وهم كل من سعيد الحاج ثابت وثابت عبد النور وإبراهيم كمال ، رغم أن البريطانيين يعتبرون هذا الحزب مناهضاً لهم . ويبدو أن الملك قد رشحهم لأنهم قد أعلنوا عند زيارته للموصل ولاءهم له ومساندتهم لحق العراق في ضم ولاية الموصل إليه.
وفي 28 مايس 1925 أرسل مستشار وزارة الداخلية كورنوالس إلى المفتشين الإداريين البريطانيين في الألوية قائمة أسماء المرشحين من قبل الحكومة كل حسب لوائه وجاءت المذكرة على النحو الآتي :-
( إن رئيس الوزراء ووزير الداخلية قد وافقا على المرشحين التالية أسماؤهم لانتخابات النواب في لواءكم
(الأسماء)
ويرغب رئيس الوزراء أن تبقى هذه القائمة سرية للغاية .
ولذلك فإن على المتصرف أن يتعامل معها بحذر شديد وبالطريقة التي يرتئيها في مساندة الحكومة لها . لقد أخبرت رئيس الوزراء أنه مادام لن ينشر أسماء مرشحي الحكومة فإن على المتصرفين أن يكونوا حذرين فيما سيقومون به ، ولن يوجه لهم اللوم في حالة عدم فوز بعض المرشحين . وقد وافقني رئيس الوزراء بأنه لن يلام في مثل هذا الأمر أحد منهم . يجب عليك ، كما فعلت من قبل ، أن تبتعد عن الانتخابات ).
وهكذا نأت السلطة البريطانية نفسها عن التدخل خلال عملية التصويت لانتخابات النواب ، ولكنها لم تترك الأمور سائبة فمرت من خلالها جميع الإجراءات المهمة وآخرها الموافقة على قائمة مرشحي الحكومة بعد أن أجرت التعديلات عليها ، وتركت لها حرية التصرف في ضمان فوز مرشحي الـــــــقائمة دون أن تتدخل ، فأصبحت وزارة الداخــلية والمتصرفين ومن يتبعهم في واجهة الانتخــــــــابات دون غيرهم .
وفي مطلع شهر حزيران أُرسلت أسماء مرشحي كل لواء إلى المتصرفين.
ومع ذلك فقد كانت هناك مرونة في التعامل مع آراءهم ، فقد استبدلت بعض أسماء المرشحين بناءً على طلب من المتصرف والمفتش الإداري البريطاني في اللواء .
وفي 8 حزيران 1925 أجريت انتخابات النواب دون أية معوقات ، وفاز بعضوية مجلس النواب (76) مرشحاً من مجموع (79) مرشحاً من قائمة الحكومة . وقد حصل شيوخ العشائر على (18) مقعداً من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغة (88) مقعداً ،
من جانب آخر لم يظهر أي تأثير في الانتخابات لحزبي الأمة والنهضة المعارضين لدرجة أنهما لم يتمكنا من الحصول على مقعدين لرئيسيهما في مجلس النواب .
وقد أثار هذا الفشل انتقادات للحزبين في الصحف المحلية ، التي عزت الأمر إلى عدم ولاء الأعضاء لحزبيهما ، ولأن قادته كانوا مهتمين بطموحاتهم الشخصية أكثر من أي شيء آخر. وأشارت جريدة السياسة إلى أن كل عضو من أعضاء حزب الأمة قد رشح نفسه للانتخابات ، وأن الذين لم يدعم الحزب ترشيحهم قد تركوه وانضموا إلى مجموعة أخرى.
ان الطريقة التي اديرت بها اول انتخابات نيابية في العراق قد شكلت سابقة غير صحية بتدخلا حكومي مفضوح وبتوجيه بريطاني مستور ، واظهرت النتائج أن اول مجلس نيابي عراقي قد تألف من مجموعات من مؤيدي الحكومة تقابلهم مجموعة صغيرة من المعارضة ، بطريقة انتــــــــخابية كان لها تأثيرها على الانتـــــــخابات النيابية اللاحقة في العراق ، فصارت سياقا لا يتمسك به المجتمع كعادات وتقاليد ديمقراطية راسخة ،وانما وسيلة للوصول الى السلطة بطريقة مشوهة لا تعتمد ارادة الشعب الحقيقية.