إمــرأة أخـــــرى – نصوص – عادل المعموري

إمــرأة أخـــــرى – نصوص –  عادل المعموري

كنتُ أجلس في المقعد المقابل لمقعدها في الباص الكبير ،لم أكن منتبها ،فقد كنت أنظر عبر زجاج النافذة القريبة ،نظراتي تتوزع هنا وهناك ..لاشيء يستفز مخيلتي ،لاشيء في الشارع يثير فضولي، لكم تبدو الأشياء أمامي سقيمة تبعث في نفسي السأم .. في السيارة ،راحت نظراتي تمسح الوجوه..سوى وجه واحد أثارني ..طفقتُ أتصفح وجهها إبتداء ًبغطاء الرأس ونزولاً إلى الجسد الممشوق الممتليء ،سرقتني عيناها ،عينان واسعتان يدقان بنهاية الحاجب ،فيهما بريق يشعرني بالفرح ،فرح صغير يتسلل عن طريق عيني ويمتد إلى دماغي دفعة واحدة

..عينان جميلتان بلا كحل ..جمال رباني لم تشوهه المساحيق ..كلما ابتسمت لصديقتها بانً صف من الأسنان البراقة في فمها ،الفم يملك شفتين رقيقتين ينتهيان بانحناءة إلى الأعلى وليست للأسفل .. يبدو ان الغمازتين اللتين ترتسمان على خديها المتوردين ..أجمل منظر رأتهُ عيناي ،،ربما لا يبدو للرائي أنها بذلك الوصف الإسطوري أن أحدا ممكن أن ينتبه لجمال وجهها واستدارته وبخاصة مشبك الشعر وهو يكوَر شعرها كقبة تعانق لون السماء الأزرق ،أشعر أنها مرتاحة وابتسامتها تزيدها ألقا وجمالا ..كلما التفتت لتنظر في الوجوه ،كنت أرفعُ عيني عنها وكأنني أنظر إلى نقطة ما بعيدة ليس لها علاقة بما يدور حولي .. تعود من جديد تتحدث مع المرأة الثانية ،كانت تلك المرأة أصغر منها سناً ..هي تبدو من قسمات وجهها ..في الثلاثينيات أو يزيد

اكتشفت أنه في فمها علكة صغيرة تدورها بين سقف فمها من وقت لآ خر ..

لم يعد يشغلني غير النظر إليها ، شعور بالمتعة والارتياح شيء لا يستهان به

وبخاصة وأنا أجلس قرب الزجاجة الجانبية التي لم ترني شيئا ذا لبال في خارجها

لاشيء جميل سوى تلك المرأة التي تعلقت عيناي بها ،عناصر الشد والجذب في جسدي المحموم في قمة ذروتها ..ماذا يعني لك كمتذوق للجمال مثل هذا الوجه الملائكي .. العباءة التي غفت على كتفيها وغطت جزءا من ربطتها ..تثير في النفس شعورا لا أعرف تفسيره سوى أني اعرف بانني مرتاح ..الا يكفي أنك تشعر بالراحة حينما تنظر إلى كائن جميل .لا يشاركك أحد النظر إليه ..تمنيتُ في تلك اللحظات أن لا أنزل من السيارة ولا أحبذ الوصول إلى مكان عملي كم تنمنيت أن يكون الطريق أطول بكثير ..لا شيء يهمني غير إرضاء الوحش الكامن في داخلي ..أنا قلت _وحش _ لا لم يكن وحشاً ..أمام هذا الجمال ..يتغير الوحش وتشذّب مخالبه ليصبح رقيقا إزاء ربّة الجمال ..أخشى ان يكون هبوطها من السيارة في مكان قريب ..الوقت أصبح عندي ذا قيمة وثمن لا يجارى ..تلك الدقائق الجميلة قلما تحصل .. طوال سنين عمري المليئة بالخيبات والهموم ، قررتُ هذه المرة أن فكرّت تلك المرأة بالنظر إلي ..حتى لو كانت نظرة عابرة ،،أن لا أبعد نظراتي عنها

.أريدُ أن أشعرها أني أنظر إليها وأنها أمست جزءا من ذاكرتي التي أصابها العطب لخلوها من تلك اللحظات التي لن تتكرر ،هاهي تلتفت نحو الركاب تستعرض وجوههم ..عيناها الآن ..تلتقيان بعيني ..أدارت وجهها ثم عادت تنظر إلي ..توقف فمها الجميل عن تدوير العلكة ..الإبتسامة التي كانت مرتسمة على الشفتين الرقيقتين اختفت ..لمحتُ بريقاً آخر في عينيها بريق غريب ..ربما أزعجتها نظراتي ..أو أنها لا تريد أن أركز نظري فيها ..رأيت الحاجبين ..ينعقدان على صفحة جبينها .. تخرجُ العلكة وترميها من فتحة النافذة القريبة منها

،التزمتْ الصمت ،لم تعد تتحدث مع صديقتها ، رأيتها تعدل من وضع عباءتها

،انخفاض بصرها والنظر إلى الأسفل ،اشعرني بالإحباط ..حتما تضايقت من نظراتي ،والا لماذا

رمت العلكة من فمها ؟لماذا اختفت الأبتسامة وحل مكانها وجه مقطب لاينم إلاّ عن شعور بالضيق ..تظاهرتُ أني لم أكن أعبأ بها ..راحت نظراتي ترنو إلى البعيد حيث المساحة الواسعة التي أمامي عبر زجاجة السيارة الأمامية في الشارع الممتد ،عندما التفتت إلي ..كنت أشعر أنها تنظر إلي ،لابد ان اكون على موقفي ..سأتصنع الهدوء واللامبالاة ..أخذتْ تطيل النظر نحوي ..نظراتي مازالت معلقة بامتداد الشارع ،أطالت النظر ..دقيقة وربما دفيقتان ..لا أعلم بالضبط

..ثم بسرعة البرق إلتفتُ إليها بقوة ..خطفتْ هي نظراتها وتشاغلت بالنظر إلى الجانب البعيد من خلف زجاجة السيارة التي اجلس لصقها تماماً .. فركتُ أصابعي بكفي وأنا أتصنّع النظر إلى أسفل قدمي ..وسحابة حزن رسمتها على وجهي متعمدا ً…استهوتني تلك الحركة النزقة ..رفعتُ رأسي سريعاً شاهدتها تنظر ..التقتْ نظراتي بنظراتها ..أطالت التحديق بي ….لم أهتز ولا سادني الإرتباك برغم اتساع عينيها المفاجئ ..رأيتها تخرج لسانها لي ..فوجئتُ بتلك الحركة الطارئة ..ابتسمتُ بارتباك واضح بان على قسمات وجهي ..سمعتها تقول للسائق :

__توقّف ..عندرأس الشارع ..أريد النزول من فضلك .. البيوت المتراصة عند حافة الشارع خمنتُ أن يكون أحدهما بيتها ..هاهي السارة تتوقف ..تنهض وهي تلملم عباءتها وتكورها على جسدها ..سمعتها تستأذن من المرأة التي كانت بجانبها ..

نزلت من السيارة ..تحركت السيارة .إلتوت رقبتي تلقائياً إلى الوراء بلا إيعاز مني ..لتقع عيناي عليها من الزجاجة الخلفية .. أخرجتْ يدها من تحت العباءة وأفردت أصابعها كأنها تقذف شيئا ما ..عرفت على الفور أنها كانت تهينني أو تشتمني بحركة يديها تلك ..تلاشت الصورة الجميلة التي كانت تتربع في مخيلتي قبل قليل وحل مكانها ضجر جديد وشعور بليد باشياء مكرورة تمعن بالخراب في تلافيف دماغي ..عاد السأم يمتطي صهوات ضجري وأحلامي الميتورة .