إسقاط ما يجري بغزة على الواقع العربي – علي إبراهـيم الدليمي

نوفيلا غصة مدينة تعكس الألم بأسلوب أدبي

إسقاط ما يجري بغزة على الواقع العربي – علي إبراهـيم الدليمي

بغداد

صدر حديثاً للروائي الفلسطيني د.عاطف سلامة جنسا أدبيا فريداً على قطاع غزة تحت عنوان نوفيلا “غصة مدينة ” عن دار الكلمة للنشر والتوزيع في غزة، والتي تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط.

“غصة مدينة” نوفيلا تكشف واقع غزة الحقيقي وتتناول وقائع وأحداث من واقع ما جرى منذ زمن، ولا زال يجري في غزة حتى يومنا هذا، حيث أن الكاتب وعلى غير العادة لم يسلط الضوء على المنجزات، بل عكس الواقع المرير لمعيشة أهل المدينة المنكوبة بحصارها، وجسد حالة العوز الشديد والفقر المدقع من خلال عائلة فلسطينية تعيش ظروفا صعبة جدا حيث الخريجين الذين لا يعملون والعوانس اللائي ينتظرن فارس الأحلام وحالات الطلاق المتزايدة وانتشار المخدرات بين الشباب الذين بحث بعضهم عن الهجرة و منهم من انضم على غير قناعاته لجماعات مسلحة كي يستطيع مساعدة ذويه، فيمضي شهيداً.

تحكي النوفيلا بسردية ممتعة وبأسلوب سلامة السلس والفكاهي حكايات ما تعانيه المجتمعات العربية أيضا، وتظهر قسوة الحياة والعوز وحاجة الناس إلى العلاج والدواء، وتدور النوفيلا التي يتقاسم احداثها عدة أبطال وشخصيات، إلا أن القصة الرئيسية تبقى محصورة في عائلة واحدة تجسد الحالة الفلسطينية بأكملها وتعكس حالة العائلة الغزية بتفاصيلها المريرة، فوسام وهو بطل النوفيلا يبدأ بالإجابة على استجواب ذويه له:

 وسام: الموضوع بسيط يا أمي، لقد جازفت في مشروع صغير، ولم أوفق، فتراكمت علي القليل من الديون!

ليفتح بعدها جميع مشاكله وورطاته ويسرد هذا الكم الكبير من تراكم الديون جراء أعماله ومشاريعه الفاشلة كي يستطيع مساعدة أهله في معيشتهم الصعبة، لكن الرياح تأت بما لا تشته السفن، لتبدأ حكايته التي أوصلته إلى الهرب من ملاحقته الدائنين تارة ومن الأمن ورجال الشرطة تارة أخرى، وصولا إلى الاتجار بالمخدرات وملاحقته من العصابات.

لم تستطع عائلته – التي حاولت جاهدة حل اشكالياته- أن تتحمل كل هذا الضغط وطرق الباب الدائم للمطالبة بتسديد الديون تارة والاعتقالات التي تكررت تارة أخرى – وتبدلت حياتهم من الاستقرار إلى القلق الدائم- لتجتمع أخيرا وتقرر طرده والتبرؤ منه كي تستريح من المشاكل التي يجلبها، إلا أن هذا القرار زاد الطين بله، فانتكست العائلة أكثر وصولا إلى البدء في بيع أثاث البيت كي يستطيعوا توفير قوت يومهم..

من النوفيلا: ” كان جالسا وسط سكون قد أطبق على شفتيه، يبحث في زوايا المكان بنظرات ثاقبة، وافترش الوحدة غطاءً، أغلق عينيه وحبس جراحه، وغرق في تفكير متلاطم، كان يهز رأسه بين فينة وأخرى، شاردا بخياله، ينصت لأصوات خفية تهمس في أذنه وتناقشه، حاول عصر ذهنه واستجماع حواسه التي ربما تثمر في عقله فكرة تدله على الطريق الصواب، ليعرف كيف يمكنه أن يتصرف، لكن القهر تراكم أكثر في عقله، وأكل التفكير رأسه وتعبت روحه حينما تذكر تلك الوجوه المفترسة التي تحيطه وتحيط مجتمعه، لتشبع رغبتها التي لم ولن تنته، وحين حاول أن يفلت منها؛ هاجمته الحياة بعنفوانها وقساوتها، فأيقن بأن لا مفر من هذا القدر المحتوم، عدل من جلسته وتربع على الكرسي الإسفنجي وراح يسحب الأنفاس من سيجارته”.

يجسد الكاتب ظروف المدينة وساكنيها – والتي تنعكس على كثير من المدن والعائلات العربية في بلدان أخري – بشكل مشوق وفكاهي في آن معا، ويحاول من خلال نوفيلا “غصة مدينة” وبطريقته الذكية وبأسلوبه الأدبي الشيق، الذي لا يخلو من المرارة تارة ، ومن الفكاهة تارة أخرى، أن يضع القارئ بما يجرى في المدينة المحاصرة – غزة -، بعدما طال انتظار أهلها، فينكشف المستور وتطفو مشاكلها، بعدما تغلغل الفقر بين أهلها، واستشرى العوز، فشحبت الوجوه أكثر وأصابها الوجوم  ولم يعد لساكنيها المقدرة على توفير أدنى متطلبات الحياة، جراء حالة الضنك الشديد التي أصابت الجميع.يقول الكاتب خلال سرده لأحداث النوفيلا: “شحبت الوجوه أكثر وأصابها الوجوم، وباتت العروق تبرز على الجباه لترسم جغرافيا شبيهة بمصبات مياه مجاريها وهي تشق طرقها المعوجة وصولاً إلى بحرها، عبر رمال كانت صفراء ناعمة، فباتت سمراء موحلة، وغارت العيون بعد أن أصيبت بالأرق وأحيطت بالسواد، وتعثرت سبل العيش أكثر، بعد أن فرغت الجيوب، واشتد الحصار، فارتفعت البطالة أكثر وازداد الفقراء فقراً، وتردت الأوضاع إلى أدنى مستوياتها، ودب الإحباط واليأس، فلم تعد وجوه سكان المدينة الساحلية ضاحكة كما كانت، فتأثرت عائلة أبو عبدالله كما الآخرين، وأضحوا يعيشون جملة من المشاكل التي رافقتهم طوال سنوات الانقسام، بل تأزمت أكثر مؤخراً، لتنعكس بكل مآسيها، وأصبحت متلاحقة كأمواج البحر، كما باقي العائلات المستورة.وانتشرت الأمراض، وازدادت حالات الموت المفاجئ نتيجة الضغوط النفسية، ولم يعد أصحاب المحلات التجارية قادرين على سداد إيجار محلاتهم في ظل انعدام الحركة الشرائية، حتى أن أبا عبدالله لم يعد يستدين من البقالة، بعد أن علق صاحبها يافطة “منعاً للإحراج، الدين ممنوع” وكذلك انتشرت شركات تيسير الزواج، فأصبحوا يمنحون العريس قرضاً لتدبير أمور زواجه، وبعد أشهر قليلة يتم حبسه لعدم مقدرته على السداد.وبعد سنوات طويلة مرت على الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، وازدادت أوضاع الغزيين قهراً، خاصة بعد الحرب الأخيرة التي فعلت فعلها، فاشتد الحصار الذي خنق أهالي المدينة البائسة؛ ما انعكس على وجوههم التي أرهقت، فبدا شبابها شيباً، فلم يعودوا يهتموا بهندامهم، وبحلاقة ذقونهم، أو حتى بتهذيبها، وتردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ودخلت بيوتها عنوة، فارتفعت معدلات الفقر والبطالة إلى أقصى درجاتها، وفقد العمال أعمالهم وجلسوا في بيوتهم وأصبحوا يتجمعون على ناصيات شوارعهم ينقلون همومهم لبعضهم، التي تحولت مع مرور الوقت إلى التفكه والنكات، وبدلاً من أن تكون حافزاً للتفريغ النفسي والصمود، أصبحت للحديث الجنسي، الذي انعكس على بيوتهم، ما زاد نسبة المواليد اليومية، وعليه تجاوز تعداد السكان في هذه البقعة الصغيرة عن المليونين نسمة، كان معظمهم يعيشون في مخيماتها المتلاصقة الكئيبة، التي لم تعد تحتمل ساكنيها.إن حالة الفراغ هذه، أثرت على الشباب أكثر من غيرهم، فعدا عن قلة – بل انعدام – العمل شعروا بالتهميش، ما أحدث قلقاً حيال مستقبلهم المجهول، فكانت أعمارهم تجري بسرعة الريح، دون تحقيق شيء، فدب الإحباط في نفوسهم، وازداد شعورهم بالنقمة، ما نتج عنه تعاطي المخدرات من الأنواع الرخيصة، كحبوب الهلوسة، الترامادول والسعادة، وغيرها، ما زاد من الاعتداءات والسرقات والنصب والاحتيال، وكثرت النزاعات والمشاكل العصبية، فكممت الأفواه، وأصبح الهروب مناصاً، والهجرة أو اللجوء إلى أوروبا حديثاً عاماً، ولم يعد الشباب يعبئون بالموت في سبيل البحث عن العيش الكريم، وهذا بالفعل ما انتقل إلى بيت أبي عبدالله، الذي أمسى جميع أولاده يتناقشون على الدوام ويفكرون بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة للخلاص من هذا الواقع المرير.الجدير بالذكر أن د. سلامة إلى جانب أنه روائي وعضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، فإنه أيضا  فنان كاريكاتير وكاتب صحفي وسيناريست، صدر له العديد من الكتب والمؤلفات آخرها رواية “ندبة المرايا” التي صدرت في العام 2020 عن دار موزاييك للدراسات والنشر والتوزيع في اسطنبول، تركيا ، وكذلك “الصحافة والكاريكاتير” غزة 1999? ألبوم كاريكاتير “حنظلة يعود من جديد” 2003? والكاريكاتير.. سلطة السخرية والفن المشاغب صدر في  حيفا عن دار كل شيء للنشر والتوزيع 2018? وكذلك الكاريكاتير.. فن اختراق التابوهات حيفا/ دار كل شيء للنشر والتوزيع 2018? وألبوم كاريكاتير “المقص” غزة/ دار الكلمة للنشر والتوزيع 2018? مشهد من غزة “4 مسرحيات” غزة / دار الكلمة للنشر والتوزيع 2019? وكتب سيناريوهات عديدة لمسرحيات أهمها: مسرحية “آخر العنقود”، مسرحية “فرج”، مسرحية “أبو جنط يتحدى ترامب”، مسرحية “عكاز”، مسرحية “بقايا وطن”، مسرحية “فضاء أزرق”، مونودراما “التحدي الأكبر”، مسرحية أطفال “المرآة والأشقياء” و مونودراما “الحقيبة”، مونودراما “صراع أخير”

وأقيمت له معارض خاصة، أهمها: معرض كاريكاتير “حنظلة يعود من جديد” عام 2003? ومعرض كاريكاتير “المقص” عام 2018.

مشاركة