أعادت الازمة الراهنة بين أربيل وبغداد الى الاذهان ما كان يقال عن مخاطر قيام كيان كردي في شمال العراق وكيف أنه قد يهدد وحدة البلاد ويثير الرعب في الدول المجاورة، فمنذ العام 1992 واكراد العراق يعيشون عملياً في وضع مثالي ضمن اقليم كردستان المكون من ثلاث محافظات هي أربيل والسليمانية ودهوك، وللمرة الاولى في تاريخهم يديرون شؤونهم بمعزل عن بغداد وسلطتها ويفعلون ذلك بضمانات وحماية أمريكية. ثم تطورت الى ضمانات شرعية اقرها دستور عام 2005، الذي صوت عليه العراقيون كلهم بما فيهم الاكراد في اقليم كردستان واختاروا مصيرهم بأن يكونوا ضمن العراق الاتحادي الديمقراطي. ومع ان كردستان العراق لم تعلن دولة رسمياً، فان لها برلماناً منتخباً وحكومة ولها عَلَمُها الخاص وقواتها الامنية (الأسايش) وجيشها الخاص(البيشمركة) ولها صحفها ومحطات التلفزيون الخاصة بها، كما لها جامعاتها ومدارسها حيث اللغة الكردية هي لغة التعليم وقد تراجعت العربية الى لغة ثانية او ثانوية، اما موارد اقليم كردستان فتعتمد اساساً على اموال التجارة مع دول الجوار وباقي مناطق العراق اضافة الى ضرائب مفروضة على السكان. وتتلقى كردستان العراق، اكثر من 17 بالمئة من الموازنة المالية العراقية اضافة الى نسبة مقاربة من عائدات النفط العراقي كما تقوم حكومة الاقليم بعقد اتفاقات لاستثمار حقول نفطية في كردستان تؤمن لها عائدات ضخمة من العملة الصعبة، وقد استخدم الاكراد هذه الواردات لتطوير الاقليم بشكل ملفت للنظر حيث قامت حكومة الاقليم ببناء مدارس ومستشفيات وشق طرق واقامة شبكات مياه وصرف صحي وغيرها من مشاريع التنمية حتى في المناطق الريفية وأقامت صناعات تحويلية مختلفة ومصافي للنفط وفنادق ومراكز تسوق ضخمة، والنتيجة كانت مذهلة للأكراد انفسهم ولغيرهم، فحسب تقارير وشهادات زوار للمنطقة نشرت في مقالات في صحف عربية وأجنبية، بلغ عدد المدارس ثلاثة اضعاف ما كان كما تضاعف عدد الجامعات، في مجال التعليم العالي حيث يتابع الطلاب دراستهم حتى برامج الدكتوراه، وتتواصل مشاريع الترميم والبناء وكذلك شق الطرق السريعة وانشاء المصانع والمعامل والفنادق. وأعيد بناء آلاف القرى التي كانت قد دمرتها القوات العراقية في الثمانينات ومستوى المعيشة يتحسن بشكل متسارع ومتميز، وتنخفض نسبة وفيات المواليد الى ادنى مما كانت عام 1999 وحتى الفقر الذي ما يزال ينتشر في المناطق الكردية لا يقارن بالفقر في المناطق العراقية الأخرى التي تشهد تراجعاً كبيراً في مستوى المعيشة ونوعية الخدمات” منذ العام 2003. ويتزاحم المستثمرون الاجانب والعرب من كل حدب وصوب للاستثمار في اقليم كردستان الذي اقيمت فيه المطارات المتطورة والفنادق الفخمة والمدن والقرى السياحية التي زادت من العائدات المالية للإقليم، وفي هذه الاجواء ازدهرت حركة النشر ويصدر في كردستان العراق اليوم اكثر من 200 صحيفة ومطبوعة باللغات الكردية والعربية والانكليزية وهناك ايضاً عشرات من محطات الراديو والتلفزيون. ويقول زوار المنطقة ان السكان يقرأون كل ما يريدون ويقولون ما يريدون ويمارسون حريات واسعة وانهم متصلون بالعالم من طريق شبكة انترنت فعالة جداً وعبر فضائيات التلفزة الدولية وشبكات اتصال المحمول ! ان حالة الامن والاستقرار في كردستان جعلت منها مكاناً ملائماً لعقد المؤتمرات واللقاءات الدولية الخاصة بالعراق والمنطقة وفيها تجر مباريات كرة القدم للمنتخب العراقي، وفيها الاحتفالات والمهرجانات الدولية، واليها يذهب زوار العراق من الرؤساء والشخصيات الدولية الرسمية وفيها تفتح سفارات تحت عنوان قنصليات حيث تمارس نشاطاتها الدبلوماسية بحرية اكثر مما تمارسه في بغداد ؟
اما على الصعيد السياسي الداخلي فان ما يحكم مواقف اكراد العراق اليوم ويحدد خياراتهم هو الانقلاب الذي طرأ على حياتهم منذ الاحتلال الامريكي للعراق في العام 2003 الذي مكنهم من الامتداد السياسي الى بغداد حيث هيمنت أحزاب وقوى سياسية كردية وشخصيات كردية سياسية بارزة على مناصب ومواقع مهمة وسيادية في منظومة صناعة القرار العراقية التي تكونت بعد سنة 2003 في اطار ما اطلق عليه بالعملية السياسية، ألامر الذي مكن الاكراد من أداء دور واضح ومؤثر في تحديد اتجاهاتها ورسم مسالك تطورها على الصعيدين الداخلي والخارجي، حتى تبلور الوضع السياسي لإقليم كردستان العراق الى ما يشبه دولة أمر واقع، رغم ما يدعي البعض من السياسيين الاكراد من أنهم متمسكون بالفيديرالية.! الا ان دعوات تقرير المصير والانفصال التي اخذت في الآونة الاخيرة تأخذ حيزاً في الخطاب الاعلامي الكردي، الى جانب التصاعد الطردي في المطالب الكردية لجهة تحقيق المزيد من المكاسب في ظل الوضع المرتبك الذي تعيشه بغداد نتيجة المحاصصة الطائفية والصراع السياسي على المناصب بين الكتل والتيارات السياسية المختلفة، وتفشي الفساد الاداري والمالي الذي وصل لأعلى المستويات في سلم الدرجات الحكومية، ليطول شخصيات مقربة من رئيس الوزراء العراقي نفسه فيما عرف بشبهات الفساد في صفقة السلاح الروسية الاخيرة. كل تلك الاوضاع التي تعيشها الاروقة السياسية المتصارعة في بغداد حتى الاسفاف، عكست حالة من الادراك الكردي لأهمية ومحورية الدور الذي يلعبونه في المشهد السياسي العراق بل وفي اي عملية تغيير اي كان نوعها في المشهد السياسي العراقي الراهن، بفضل الدعم والضمانات الامريكية، وبفضل التطور الاقتصادي والاستقرار الأمني الذي تمكنوا من تحقيقه خلال العقد المنصرم ! على عكس بقية اجزاء العراق التي شهدت تراجعاً في الخدمات وتردياً في عملية اعادة اعمار البنى التحتية المدمرة، كما شهدت تردياً مستمراً بالأوضاع الامنية نتيجة التخندق الطائفي والمذهبي للقوى السياسية والاحزاب المهيمنة على العملية السياسية، مما ولد حالة من الاستياء الجماهيري والاحباط تجاه الاداء الحكومي والسياسي للقوى والاحزاب المنخرطة في العملية السياسية. وكل هذا انما يظهر جانباً من الصعوبات والتعقيدات التي تحيط باحتمالات المستقبل للعراق ومستقبل الاكراد فيه. فالفديرالية التي يرى البعض انها الوسيلة لإنقاذ العراق من التفكك، يعتقد كثيرون ولاسيما منهم جيران العراق انها ليست الا مقدمة لتفكيكه وربما تفكيكهم.
لهذا فان موقف الدول المجاورة للعراق بات يتسم بالنفاق السياسي، ولاسيما تركيا وايران. فبالرغم من الرفض المبدئي لطهران وانقرة لقيام كيان كردي قوي ومستقل على حدودها، وذلك لخشيتهما من استلهام اكرادها التجربة الكردية في العراق وذهابهم للعمل على الانفصال. الا أن طهران وتركيا يعملون بشكل متسارع على تحسين علاقاتهما و مغازلة حكومة اقليم كردستان العراق وزيادة استثماراتهما في كردستان في الوقت الذي تستمر قواتهما بالقصف الجوي والمدفعي الايراني والتركي لمناطق عدة في اقليم كردستان العراق بدعوى ملاحقة عناصر البيجاك الكردستاني الايراني والعمال الكردستاني التركي دون اي رد فعل جاد من لدن حكومة الاقليم في اربيل المشغولة بتوسيع مساحة الاقليم على حساب بقية المحافظات الاخرى بذريعة المناطق المتنازع عليها، حيث قامت بنشر قوات البيشمركة في مناطق خارج الاقليم الذي يفترض بها حمايته ! في محافظات التأميم و ديالى في السعدية وجلولاء وفي محافظة نينوى قرب الموصل في وقت لا تسمح حكومة اقليم كردستان العراق بأي تواجد لقوات الجيش العراقي الفيدرالي في مناطق الاقليم كافة حتى وصلت اخيراً على مشارف قضاء طوزخرماتو الواقع الى الجنوب من كركوك بمسافة أكثر من 85كلم. الامر الذي يضع الكثير من علامات الاستفهام على مستقبل الاوضاع السياسية في العراق بعد أن ابتعدت قوات البيشمركة عن حماية المناطق الحدودية المستهدفة من الجوار لتمنع الجيش الاتحادي الفدرالي من الانتشار في المناطق الحدودية للدفاع عنها وتامين استقرارها. وهي حالة تشكل خطراً كبيراً وجاداً على السلم الاهلي في العراق، وهي حالة يرفضها العرب والاكراد في العراق الذين مايزالون يتغنون بـ هربجي كرد وعرب رمز النضال.
AZP07


















