حصار إقتصادي وتضليل إعلامي بشأن أسلحة الدمار الشامل
إستراتيجية أمريكا لتدمير العراق – عماد علو
المقدمة
شكل الاستهداف الامريكي للعراق منذ العقد الثامن من القرن العشرين، واحتلاله في العام 2003 ظاهرة ملفتة للنظر استدعت الكثير من الدراسات والتحاليل التي اجرتها مراكز الابحاث في مختلف انحاء العالم وتناولت أبعاد هذا الاستهداف سياسيا” واقتصاديا” واجتماعيا” وعسكريا” وانعكاساته على الأمن والسلم الدوليين، وهو أمر سيبقى ميدانا” مفتوحا” للتحليل والمناقشة والبحث لسنوات عديدة مقبلة على ضوء تكّشف وظهور المزيد من الحقائق والاسرار التي توضح وتصف خطورة وأهمية تشكيل هذا الحدث التاريخي الكبير. حيث ان الأهداف والغايات السياسية والاستراتيجية من وراء الاحتواء ومن ثم الاستهداف الامريكي للعراق في حروب متعددة لاتزال غامضة وغير معلنة بشكل واضح سواء من قبل الادارات الامريكية المتعاقبة أو من قبل الباحثين والدارسين الذين حاولوا تناول دراسة وتقييم هذا الحدث التاريخي الكبير ، ولكن معظم أولئك الباحثين والدارسين اتفقوا بشكل عام على أن الحروب الامريكية على العراق و احتلاله في العام 2003 كانت عبارة عن تنفيذ كامل لمخرجات استراتيجية امريكية جرى الاعداد لها بوقت طويل استهدفت تفكيك أو تقسم العراق مجتمعيا” وجغرافيا”، من خلال تدمير قدراته الاقتصادية والعسكرية وتمزيق نسيجه الاجتماعي وترسيخ نظم المحاصصة الطائفية في مؤسساته الحكومية والمجتمعية والمناطقية ، وليس مستبعدا” ان تستمر هذه الاستراتيجية الى اجل غير قريب ، على الرغم من الادعاءات الامريكية بانها جاءت لتجعل من العراق واحة للديمقراطية ، حيث ان الاستراتيجية الامريكية في الدفع باتجاه بناء وترسيخ نموذج الدولة الفيدرالية القائمة في العراق على الاساس المذهبي والطائفي والعرقي ستلغي شيئا” فشيئا” مركزية الدولة القوية القادرة على أن تكون عاملا” ايجابيا” في معادلة التوازن الاقليمي وتحقيق الامن والاستقرار الاقليمي والدولي ، لتتحول الى بؤرة اضطراب ودولة أزمات في سياق ما جرى تسويقه من فوضى خلاقة ( Creative Chaos) لتشكيل ما يُعرف بـ “الشرق الأوسط الجديد ” أو ما يسمى اليوم بـ”الشرق الجديد “ومن هنا تأتي محاولتنا هذه في الاجتهاد والتحليل للوقوف على مسارات ونتائج الاستهداف الامريكي للعراق.
الاهتمام الأمريكي بالعراق
تبوأ العراق موقعا” جيوسياسيا” متميزا” في منطقة الشرق الأوسط، جعله محط اهتمام القوى الطامعة بثروات المنطقة وفي مقدمة تلك القوى كانت الولايات المتحدة الامريكية لذلك شهد ولا يزال صراع استراتيجيات دولية واقليمية بحكم امتلاكه لأكبر احتياط من النفط والغاز اللذان يشكلان عصب الحياة الصناعية للمجتمعات الغربية وتقدمها. لهذا كله اتجه التفكير والتخطيط الامريكي لتهيئة الظروف والبيئة الاقليمية التي تعطي مبررات قوية لوجود عسكري امريكي طويل الامد في منطقة الخليج العربي، وافتعال المبررات للتدخل السريع بقصد احتلال منابع النفط العربي وتدمير العراق (1). بالإضافة لما سبق كان من أهم اسباب ودوافع تبني الادارة الامريكية لاستراتيجية تدمير القدرات العراقية منذ عام 1991، لحين حرب احتلاله في العام 2003، وما حل به من مآسي في اعقاب ذلك، كانت لحماية الكيان الصهيوني(اسرائيل)، وضمان أمنه باعتبار أن الكيان الصهيوني القاعدة الاستعمارية المتقدمة الضامنة لاستمرار تجزئة الوطن العربي والسيطرة على ثرواته ومقدراته (2). كما أن (اسرائيل) بالنسبة للغرب أكثر الانظمة الموالية للغرب في المنطقة والاقرب الى المصالح الغربية الحيوية (3).
تشكيل التحالف المعادي للعراق
ففي التاسع من آب 1988 غداة وقف اطلاق النار بين العراق وايران اخذت الكويت قرارا” بزيادة انتاجها النفطي مخالفة بذلك الاتفاقيات المعقودة في اطار منظمة الأوبيك، وقد تم التركيز الكويتي في تحقيق هذه الزيادة الانتاجية على آبار الرميلة ” (4). وقد أدت السياسة النفطية الكويتية الى انخفاض اسعار النفط العالمي وهو ما أدى الى خسارة العراق سبع مليارات دولار سنويا” وأصبح العراق مهددا” بالاختناق الفعلي (5). وتبعهم حكام السعودية والامارات العربية المتحدة في تنفيذ هذه السياسة المضادة للعراق.
تظهر العديد من المؤشرات أن الاعداد لإضعاف وتدمير العراق كان قد اعد له مسبقا” وقبل دخول القوات العراقية الى الكويت في آب 1990 حيث يذكر (رامزي كلارك) وزير العدل الامريكي الاسبق أن خطة الحرب (1002) التي وضعت للحرب مع الاتحاد السوفيتي، نقحت عام 1989واعيد تسميتها بخطة الحرب (1002/90) حيث حل وفق التعديل الذي اجري عليها العراق محل الاتحاد السوفيتي كونه العدو.
آليات ووسائل استراتيجية التدمير الامريكية
ارتكزت الاستراتيجية الامريكية لاحتواء واستهداف ومن ثم تدمير العراق على عدد من الاليات المختلفة كان من أهمها ما يلي:
التوظيف الامريكي للأمم المتحدة: أبرزت وقائع الحياة الدولية بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 الدور الأساسي والمهيمن لولايات المتحدة في الحياة السياسية الدولية . وقد نجم عن ذلك تهميش كافة القوى المحلية منها والجوهرية بما في ذلك القوى التي تشكل أطرافا في الرأسمالية العالمية، بحيث كان كل شيء يبدوا وكأن الولايات المتحدة تملك تفويضا من دول العالم كافة يعطي لها الحق وحدها في إدارة شؤون المعمورة دون شريك . إن ما يثير الانتباه حقا منذ عام 1990 ولحد ألان هو الغياب الكامل للمجموعات الجهوية وللأمم المتحدة نفسها كقوى مؤثرة في الساحة العالمية في حالة أطلق عليها في عقد التسعينات ما سمي بالنظام الدولي الجديد شهد تحولا واضحا وكبيرا في المعايير والقيم الأخلاقية إلي كانت متبعة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
الحصار الاقتصادي: بتحريض، وبدفع وضغط من الولايات المتحدة الامريكية سارع مجلس الامن الى اصدار (12) قرارا” ترمي الى احكام الحصار على العراق (5). فقد تم فرض عزله شديدة عليه عبر هذه القرارات التي اصدرها مجلس الامن الدولي، التي فرضت عقوبات اقتصادية خانقة على العراق استمرت ثلاثة عشر عاماً عانى منها البلد بشدة، واستهدفت بالأساس الشعب العراقي وقدراته على الصمود.
التوظيف الامريكي للوكالة الدولية للطاقة الذرية: من الآليات التي وظفتها الادارة الامريكية لاستنزاف وتدمير العراق الوكالة الدولية للطاقة الذرية International Atomic Energy Agency. التي جرى زجها في عملية تدمير العراق عبر توظيفها من قبل مجلس الأمن الذي طلب من اللجنة الخاصة “أونسكوم” UN – ISCOM بقراره رقم (715) بتاريخ 11 تشرين الأول 1991 أن تساعد وتعاون الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تنفيذ الخطة الجارية بالرصد والتحقق من المجال النووي العراقي. حيث لعبت هذه الوكالة دورا” مهما” هي الاخرى في تجهيز أداته القانونية والتمهيد الاعلامي والنفسي للرأي العام العالمي لقبوله ووضع العالم على شفا الحرب ودعم الاستراتيجية الامريكية في استنزاف واضعاف وتدمير العراق بحجة التأكد من خلوه من أسلحة الدمار.
استثمار اللجنة الخاصة UN – ISCOM : إن تراجع دور وتأثير منظمات إقليمية ودولية مثل منظمة عدم الانحياز والوحدة الأفريقية والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي وحتى الأمم المتحدة وأخيرا الاتحاد الأوربي ، كلها أصيبت بحالة من الوجوم وعدم القدرة على اتخاذ مواقف مبدئية في أي قضية من القضايا الدولية الساخنة دون النظر إليها والتعامل معها عبر نافذة الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت نفسها دكتاتورا مستبدا على العالم تحكمه ولا تسمح بحرية التعبير ولا حتى تستسيغها ، فواشنطن هي وحدها القائمة والساهرة على إدارة شؤون العالم في كل مكان وطرف في كل شيء (6) لذلك استثمرت اللجان التي شكلها مجلس الامن الدولي مثل اللجنة الخاصة UN – ISCOM للتجسس على العراق وارباك الحكومة العراقية ثم استثمرت الإدارة الامريكية لجنة الامم المتحدة لجنة الامم المتحدة للمراقبة والتفتيش والتحقق من اسلحة الدمار الشامل العراقية (أنموفيك UNMOVIC) التي كان مجلس الامن الدولي قد شكلها ، في 17 ديسمبر 1999 على انقاض اللجنة الخاصة السابقة للبحث عن اسلحة الدمار الشامل العراقية (UN – ISCOM) وبموجب قرار مجلس الامن رقم (1284) للقيام باستفزاز الحكومة العراقية وخداع الرأي العام الدولي بان العراق يتوافر على أسلحة دمار شامل وهو ادعاء ثبت عدم صحته بعد احتلال العراق في 2003.
مناطق الحظر الجوي: لقد استهدفت الولايات المتحدة الامريكية العراق منذ العام 1990 واثناء الهجوم على العراق في كانون الثاني 1991 وما تلاه من حصار شامل ، تدمير النسيج الاجتماعي وثقافته وضرب السلم والتعايش الاهليين في العراق من خلال فرض مناطق حظر على الطيران العراقي بصيغة توحي الى ان الدولة العراقية مجزأة الى جزء شيعي في الجنوب وسني في الوسط وكردي في الشمال بهدف اضعاف وتعجيز الموجهات ومنظومات القيّم عن الحفاظ على الحد الادنى من التفاعل الايجابي بين الافراد والجماعات العرقية والمذهبية لجهة تصعيد مظاهر الاحباط والقلق واليأس في المجتمع العراقي بهدف اضعافه واعادة صياغة اتجاه حركته الاجتماعية صوب المواقع التي يريدها له صقور البيت الابيض.
السلاح الخامس (الحرب الاعلامية) :قامت استراتيجية الحرب الاعلامية الأمريكية ضد العراق على ترابط أدوات السياسة من دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ودعاية في شن حرب شاملة على جميع الجهات لتحقيق الأهداف السياسية الأمريكية الاقتصادية والعسكرية منها ، وقد ارتكزت على سياسة محددة الأهداف ومعلومات استخبارية شاملة وموثقة ، كما ارتبطت بالاستراتيجية العسكرية والاقتصادية ، وقد اتسمت بالعلنية والسرية والخداع والتعتيم والتلفيق والتضليل لتشكيل رأيًا عامًا عربيًا وإسلاميا وعالميًا مدعمًا للمصالح الأمريكية ، في اطار استراتيجية واشنطن لتدمير العراق ، شاركت في الحرب الاعلامية ضد العراق وسائل الاعلام في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والاوربية واسرائيل.
الحملات العسكرية الامريكية ضد العراق
ارتكزت استراتيجية الإدارة الأمريكية على اتباع منهجين ومسارين في الوقت نفسه، وهو مسار استمرار استقدام القوات العسكرية بكثافة في منطقة الخليج العربي والشرق الاوسط، وكأن الخيار العسكري هو الوحيد، ومسار استمرار توظيف فرق التفتيش لاستفزاز العراق والاظهار للعالم ، وكأن الأزمة يمكن تسويتها سلميا، وكل مسار يخدّم على الآخر، فاستقدام القوات وجاهزية ميدان الحرب يمثل وضعا ضاغطا على القرار العراقي كما أنه يمنح الولايات المتحدة سلطة مطلقة وحرية حركة في تحديد خياراتها في حسم المسألة عند أي طارئ، أو عند أي بادرة لاعتراض عراقي على عمل المفتشين.
الحملة العسكرية الاولى (عاصفة الصحراء) وهي الاسم الرمزي لهجوم قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على العراق، (من 17 يناير إلى 28 فبراير 1991).
الحملة العسكرية الثانية (الهجوم على قاطع الدفاع الجوي الثالث) في آب 1992 تمثلت أهم عناصر الاستراتيجية الامريكية لاستنزاف وتدمير العراق بعد حرب الخليج الثانية وعملية عاصفة الصحراء بالإبقاء على إدارة الصراع بعد الحرب بأسلوب الحرب، من خلال توسيع مناطق الحظر الجوي لفرض الحصار على العراق والاعداد لتقسيم وتجزئة العراق.
الحملة العسكرية الثالثة (الهجوم على جهاز المخابرات العراقي) تحت ذريعة ان جهاز المخابرات العراقي قد خطط لاغتيال الرئيس الامريكي السابق جورج بوش اثناء زيارته الى الكويت من 14–16 أبريل 1993 وبأمر من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون كرد انتقامي وتحذير، بررت الادارة الامريكية هجومها على مقر جهاز المخابرات العراقي يوم 27 حزيران 1993.
الحملة العسكرية الرابعة (عملية ضربة الصحراء) وهي ما أطلقت عليه القوات الامريكية (عملية ضربة الصحراء Operation Desert Strike) التي شنتها في أيلول سنة 1996 وتزامنت مع دخول القوات العراقية منطقة كردستان العراق في 31 أغسطس / آب1996 لدعم واسناد الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني في صراعه مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طلباني (7)..
الحملة العسكرية الخامسة (عملية ثعلب الصحراء Operation Desert Fox) وتعتبر من اشد الضربات الجوية والصاروخية لقوات التحالف المعادي للعراق تلك التي شنت في كانون الاول 1998 تحت الاسم الرمزي (عملية ثعلب الصحراء Operation Desert Fox) .
الحملة العسكرية السادسة (استهداف الدفاعات الجوية العراقية) في فبراير/ شباط 2001 قامت بريطانيا والولايات المتحدة بشن عدد من الهجمات الجوية والصاروخية في محاولة لزعزعة شبكة الدفاع الجوي العراقي، الأمر الذي لم يحظ بدعم دولي كبير ().
الحملة العسكرية السابعة (عملية غزو العراق او ائتلاف الراغبين Coalition of the willing)واستمرت من 19 آذار/مارس إلى 1 آيار/مايو 2003 واطلقت وسائل الاعلام ومنفذي عملية غزو العراق تسميات مختلفة عدة، منها حرب الخليج الثالثة ، أو حرب العراق أو احتلال العراق ، وأطلقت عليها واشنطن تسمية تحالف أو ائتلاف الراغبين(Coalition fgd;s of the willing) على الرغم من التقرير الذي أصدره كبير مفتشي الأسلحة الدوليين في العراق هانز بليكس في مارس/ آذار 2003: بأن العراق زاد من تعاونه مع المفتشين ويقول إن المفتشين بحاجة إلى مزيد من الوقت للتأكد من إذعان العراق..
ملامح استراتيجية التدمير الامريكية بعد احتلال العراق
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003 اصبح من الواضح ، ان استراتيجية التدمير الامريكية (US destruction strategy) ليست بالمصطلح الغريب او المستحدث بل هي فعلا” نهج عدواني أمريكي يستخدم لردع سلوكيات وخيارات محددة لأنها ستؤدي إلى فرض عواقب عقابية ساحقة من قبل الآخرين و يتوخى تحقيق اربعة اهداف استراتيجية هي (التدمير ، التقسيم ، الاحتلال والسيطرة)(8) ، وقد اعتمدت هذه الاستراتيجية من قبل الولايات المتحدة الامريكية في معظم الحروب التي خاضتها القوات الامريكية لتحقيق المصالح والاهداف الامريكية مثل حرب فيتنام (1955 – 1975) وحرب يوغسلافيا(1991-2001) وحرب العراق (1991-2011) والتدخل العسكري في ليبيا (2011) وغيرها من الحروب الاخرى التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من وراء شنها لفرض هيمنتها على العالم الكبير الذي أصبح قرية صغيرة بفعل التقنية الحديثة ..! وفي هذا الاطار واستنادا” الى استراتيجية التدمير الامريكية (US destruction strategy) جاء الغزو الامريكي للعراق الذي أطلقت عليه واشنطن ولندن “عملية الحرية من أجل العراق”، تمثلت بالعمليات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الامريكية ودول أخرى مثل بريطانيا وأستراليا وبعض الدول المتحالفة مع أمريكا لغزو العراق سنة 2003م، واستمرت من 19 آذار/مارس إلى 1 آيار/مايو 2003، وأدت إلى احتلال العراق عسكريا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. واجهت فيها القوات الغازية مقاومة من الجيش العراقي الذي كان يقاتل دون غطاء جوي طيلة فترة العمليات العسكرية التي استغرقت 19 يوما. ويرى الكثيرون ان الحملة العسكرية كانت مخالفة للبند الرابع من المادة الثانية للقوانين الدولية والتي تنص على أنه “لا يحق لدولة عضو في الأمم المتحدة من تهديد أو استعمال القوة ضد دولة ذات سيادة لأغراض غير أغراض الدفاع عن النفس ومن الجدير بالذكر ان السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان صرح بعد سقوط بغداد ان الغزو كان منافيا لدستور الأمم المتحدة ، وكان هذا مطابقا لرأي السكرتير السابق للأمم المتحدة بطرس غالي وفي 28 أبريل 2005 اصدر وزير العدل البريطاني مذكرة نصت على أن أي حملة عسكرية هدفها تغيير نظام سياسي هو عمل غير مشروع . ومما تجدر الإشارة إليه أن حجم الحشود العسكرية التي أحاطت وتعرضت للعراق وحجم الكتل النارية من المقذوفات والمتفجرات والأسلحة المختلفة التقليدية وغير التقليدية التي وجهت للعراق منذ عام 1991 لحين احتلاله في 9/4/2003 لم تكن تتناسب مع أسباب ومبررات هذا العدوان، ولا مع مساحة العراق وسكانه، وحجم قدراته القتالية والدفاعية وهو ما عبرت عنه التغيرات المستمرة في أهداف وغايات العدوان على العراق التي كانت تطلقها الإدارة الأمريكية بحسب مراحل مخططها لاحتلال العراق وفرض هيمنتها على المنطقة.
انتهاكات غير أخلاقية
ان استراتيجية التدمير الامريكية التي تمثلت بالحروب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة الامريكية منذ العام 1991 مرورا” بالغزو الذي أدى الى احتلال العراق في 2003 وصولا” الى حالة الصراع والحرب التي اعقبت الغزو في 2003 لحين اعلان انسحاب قوات الاحتلال الامريكي في نهاية عام 2011 عبرت كلها عن شكل فريد غير متكافئ من اشكال الصراع الدولي المسلح ،استهدفت أمريكا من خلالها إعادة بناء الذاكرة السياسية للشعب العراقي وإعادة صياغة نسيجه الاجتماعي بما يسمح بتبديد الرؤى والصور والأفكار والثوابت القومية والوطنية التي ترسخت في المجتمع العراقي وذلك بالشروع بحل المؤسسة العسكرية العراقية التي اعتقدوا أنها قد تكون العقبة الرئيسية بوجه المخطط الأمريكي. ان تدمير المجتمع العراقي و محو الذاكرة الوطنية فاقم هذه الخسائر الى مستويات غير مسبوقة من الخراب الثقافي، حيث الهجمات التي استهدفت المحفوظات و المعالم الوطنية التي تمثل الهوية التاريخية للشعب العراقي. وكان من عواقب استراتيجية التدمير الامريكية (US destruction strategy) على الشعب ومؤسسات الدولة العراقية، كان وخيماً على الصعيد الانساني والثقافي: فقد ” نجم عنه وفاة أكثر من 1.3 ليون مدني عراقي وتدهورت البنى التحتية الاجتماعية من ضمنها الكهرباء والمياه الصالحة وشبكات الصرف الصحي…
الانهيار الاخلاقي الامريكي
يرى زبيغينو بريجينسكي، في تحليله للسياسة الخارجية الأمريكية، أن أمريكا تعيش في ظل فراغ من القيم الروحية والمعايير الأخلاقية، لذا لا يمكنها أن تكون أنموذجا للعالم، لان المجتمع يضم أقلية تتسم بالجشع المادي، وأغلبية معدومة ومحرومة من المشاركة الاجتماعية، والتي تبلغ أكثر من 35 مليون أمريكي، ومن خلال ذات المنطق تتجاهل واشنطن، المشكلات الاقتصادية والبيئية التي يتعرض لها عالم الجنوب، وقال (إن الموقف السلبي من المشكلات يثير قضية أخلاقية تدعو للقلق البالغ) (9). هذا الانهيار الأخلاقي انعكس بوضوح على استراتيجية التدمير الامريكية(US destruction strategy) من خلال قيام قوات الاحتلال بتدمير مؤسسات التربية و التعليم العراقي. حيث لخص تقرير اليونسكو ” التعليم في إطار الهجوم” الصادر في 20 شباط 2010، بأن ” على الرغم من تحسن الوضع الامني في العراق، ان الحالة التي تواجهها المدارس والطلاب والأكاديميون لاتزال خطرة”.
وقبل كل ذلك وقبل كل ذلك شكل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرض على الشعب العراقي وسيلة أمريكية واضحة من وسائل الإبادة الجماعية على الرغم من تبني الأمم المتحدة في 11 كانون الأول 1946 القرار (96) الذي يعالج جريمة الإبادة الجماعية، ويعلن القرار:” أن الإبادة الجماعية هو حرمان حق الحياة.. وهو مناقض للقانون الأخلاقي ولروح الأمم المتحدة وأهدافها.. أن الإبادة الجماعية جريمة في نظر القانون الدولي.. ويعاقب عن ارتكابها سواء لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية أو أية أسباب أخرى”. وهذا يعني أن حرمان أي شعب من حقه في الحياة يدخل في نطاق الإبادة.
ان المسؤولية الجنائية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي(مثل جرائم التعذيب في سجن أبو غريب وغيرها) تعتبر من الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي وترقى الى جرائم حرب. ويعتبر جميع الأفراد – مقاتلين ومدنيين – مسؤولين مسؤولية جنائية عن جرائم الحرب التي يرتكبونها. ويمكن اعتبار القادة العسكريين، سواء في القوات المسلحة النظامية أو الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة، مسؤولين عن جرائم الحرب التي ترتكب بأمر منهم.
هل تحقق الهدف الاستراتيجي؟
لقد كان فرض مناطق الحضر الجوي تمهيدا” لمشاريع تقسيم العراق التي طرحت من قبل عدد من الشخصيات الصهيونية والامريكية. وكان من أبرز المؤشرات التي يمكن لأي مراقب للأحداث منذ غزو العراق للكويت عام 1990 وما أعقب ذلك من مواجهة عسكرية بين العراق والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1991 كان دلالة واضحة على نية واشنطن لتقسيم العراق إلى ثلاث دول كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب، وبقيت مسارات تعاطي الإدارات الامريكية مع العراق تشير الى ان الهدف الاستراتيجي لتدمير العراق هو الوصول الى حالة التقسيم والتجزئة.. ترى هل تحقق هذا الهدف بعد مضي 30 عام على بداية الحروب الامريكية على العراق؟
مرحلة الاعترافات
عندما جاءت مرحلة الاعترافات الأمريكية بالأخطاء والإخفاقات في الحرب ومبرراتها التي ألحقت بسمعة الجيش الأمريكي والشعب الأمريكي ما لم يكن يتمناه أي أمريكي متحمس للقيم والأفكار والمبادئ التي يدعي بها المجتمع الأمريكي أكدت بشكل قاطع أن مهمة احتلال العراق، التي أعلن بوش انتهائها في أيار 2003 لم تكتمل بعد وان النصر في حرب لم تنتهي ما هو إلا محض افتراء، ومن هذه الاعترافات:
اعترافات كولين باول وزير الخارجية الأمريكية بعدم صحة المعلومات والادعاءات التي سيقت على أساسها مبررات الحرب على العراق.
اعترافات كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بان آلاف الأخطاء التكتيكية قد تم ارتكابها في حرب العراق.
أما البريطانيون الشريك والحليف الأساسي للأمريكان في غزوهم للعراق عام 2003 فيبدو أن ضميرهم قد بدأ يؤنبهم بعد نقاشات ومناظرات ومراجعات عدة لما تمخضت عنه سياسة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في ذيليته المفرطة للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي رسخ قناعات لدي عدد من الساسة البريطانيين بان تلك السياسة ربما تكون قد أضرت بشكل كبير بالمصالح البريطانية في الخارج وربما أيضا قد تكون عرضت الأمن القومي البريطاني للخطر (10).وكان تحقيق لجنة جون تشيلكوت في شأن التدخل العسكري البريطاني في العراق ونشرت نتائجه في (السادس من يوليو/ تموز 2016) قد خلص إلى أن الأسس القانونية لقرار بريطانيا المشاركة في غزو العراق عام 2003 ليست مرضية” وأن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بالغ في الحجج التي ساقها للتحرك العسكري. إضافةً إلى أن هذه الحرب أطلقت من دون تفويض من الأمم المتحدة.
الخاتمة
تبين من دراسة استراتيجية التدمير الامريكية (US destruction strategy) أن الحروب الأمريكية ضد العراق منذ عام 1991 عبرت عن استراتيجية قذرة بدوافعها وأهدافها لغرض الهيمنة الأمريكية بأسلحة الدمار والابادة الجماعية المطعمة باليورانيوم المنضب، المحرمة دوليا”، وتمثلت بالحصار الشامل الذي استخدمته ضد العراق، بلغ ذروتها في العدوان الذي شنته الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق في 20 مارس/آذار 2003 واحتلاله في نيسان 2003. وقد أشارت دراسة مسحية اجرتها مجلة لانسيت الطبية البريطانية المرموقة إلى أن 655000 عراقي قتلوا منذ بداية الغزو الأمريكي في 19 آذار/ مارس 2003 وحتى 11 تشرين ثاني/ أكتوبر 2006. في حين قالت الأمم المتحدة ان نحو 34000 عراقي قتلوا خلال عام 2006 فقط. ولقد بلغت أعداد القتلى من المدنيين في العراق نتيجة أعمال العنف والحرب حوالي 180,093 – 201,873 حسب احصائية عام 2017.
كما دمرت البنية التحتية العراقية بالكامل نتيجة الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق ولم تبادر الإدارات الامريكية المتعاقبة بتعويض العراق شعبا” ودولة عن الاضرار والجرائم والدمار الذي الحقته قوات الولايات المتحدة الامريكية بالعراق ! لقد آن الأوان للعراقيين حكومة وشعبا” ومنظمات مجتمع دولي للمطالبة من كل من تسبب بدمار العراق بتعويضه استنادا” الى القانون الدولي والمسؤولية الأخلاقية التي تتحملها كل الدول والحكومات التي شاركت بالغزو الهمجي للعراق وقتل شعبه وتدميره منذ عام 1991 ولغاية 2021.
الهوامش
(1) المنجرة ، المهدي ، الحرب الحضارية الاولى ، الدار البيضاء 1991 ص 116-117.
(2) الكيالي ، عبد الوهاب ، تاريخ فلسطين الحديث ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر ، ط3 بيروت 1973 ص28.
(3) دولان لافيت ، العدوان على العراق والمتغيرات الجيوستراتيجية ، مجلة شؤون سياسية ، العدد 3 بغداد 1994 ص18.
(4) أريك لوران وبيار سالنجر ، حرب الخليج الملف السري ، الناشر أوليفيه اوربان ، باريس 1991 ص8.
(5) أريك لوران وبيار سالنجر، المصدر السابق ، ص8.
(6) الوتري ، د. أكرم داود ، مرجع سابق ، ص69.
(7) وثائق وزارة الخارجية العراقية ، العرض الذي قدمه وفد جمهورية العراق في الحوار مع الامين العام للأمم المتحدة، نيويورك 26 -27 شباط 2001 كراس ، اصدار دار الحرية للطباعة ، بغداد 2001 ص17.
(8) Operation Desert Strike. HYPERLINK “https://goo.gl/VMHXJ” https://goo.gl/5VMHXJ .
(9) Operation Desert Strike. HYPERLINK “https://goo.gl/5VMHXJ” https://goo.gl/5VMHXJ U.S. launches missile strikes against Iraq – CNN.com”. Edition.cnn.com. HYPERLINK “https://goo.gl/LSMHF1” https://goo.gl/LSMHF1 .
(10) تسلسل زمني لاهم الاحداث في العراق ، على الرابط الالكتروني ، HYPERLINK “https://goo.gl/T9pwr3” https://goo.gl/T9pwr3.
(11) Stephen Lendman, US War Strategy: Destroy, Partition, Occupy and Control, Global Research, HYPERLINK “https://goo.gl/A37C8a” https://goo.gl/A37C8a .
(52) زبيغينو بريجينسكي ، الولايات المتحدة والعالم الإسلامي ، في مجلة الرأي، 10 كانون الثاني 1994 ص40.
(12) عماد علو ، البريطانيون يراجعون ذاتهم ، جريدة (الزمان) الدولية ، العدد 3381 التاريخ 25/8/2009.
{ مستشار المركز الأوربي لدراسات مكافحة الإرهاب