إرادة النور وعزيمة الظّلام – جليل وادي

كلام أبيض

إرادة النور وعزيمة الظّلام – جليل وادي

تذكرني أزمة مسرح الرشيد التي دارت بين الفنانين ووزارة الاعمار والاسكان التي ادعت ملكية الأرض التي شُيد عليها صرح مميز من منارات التنوير والابداع ، وحسمها السيد رئيس الوزراء لاحقا بالانتصار للفنانين ، والإبقاء على مسرحهم قائما ، مع انه مازال جثة هامدة منذ الاحتلال ، فالأجواء الفنية راكدة ، وغالبية الفنانين عاطلون عن العمل ، ولم يرق النشاط الفني بشتى مجالاته الى مستوى الطموح ، كل ذلك تقف ورائه السياسة التي يجول فيها من لا تعني له الثقافة شيئا ، ما يهمه كيف يثرى من الاستثمار في السياسة التي لا تشترط مؤهلا معينا ، يكفيك الاعلان عن ولاء مطلق لمن يرأسك ، وألا تحيد عن مساره المرسوم خارجيا في الغالب ، وألا تسأل ان كان في الطريق مخرجا للوحل الذي نغوص فيه ، او مصلحة للذين يتطلعون لوطن معافى .

 تذكرني هذه الأزمة بالمسرح الجوّال الذي كان يجوب القرى والأرياف ناشرا البهجة في النفوس وغارسا القيم السامية في العقول ، يوم كان تنوير الجمهور هدفا للدولة ، وطريقا للحاق بالركب .  ثمة قناعات راسخة للذين فعّلوا المسرح الجوال بان الثقافة المستنيرة مدخلا لمختلف أشكال التنمية ، والفن أحد قنواتها الرئيسة ، فالفن يهذب الأذواق كما ينمي الدين الأخلاق ، وان الدول التي لا فن فيها فقدت منهلا مهما من مناهل الثقافة ، فلا يبقى منا للمستقبل الا ما تجود به ابداعات الفنانين والأدباء والعلماء ، وبغير ذلك لن تجد الأجيال القادمة ما يعزز شعورها بالانتماء للوطن .

مفارقة غريبة ونحن في الألفية الثالثة أن يُنظر للفن بما لا يليق به ، وألا يُدرك دوره الحقيقي في الحياة ، وان يُحارب من خلف الستار وبأدوات متخلفة تملك صلاحية اتخاذ القرار ، وبمؤسسات تتبع للدولة يدعي القائمون عليها بأنها لخدمة المجتمع ، وتتعالى أصواتهم وبصريح العبارات لمحو مسرح الرشيد ، ربما يكون من بين المختبئين خلف الستار من يريد بأرضه انشاء مشروع تجاري ، ولتذهب الثقافة الى الجحيم ، بينما كان الفن قبل عشرات العقود يطرق على الناس أبوابهم حيث يسكنون ، وفي أقصى القرى النائية ، تلك التي توصف بالانغلاق ، ويعمل بإصرار شديد على كسر العزلة ، والانفتاح على الدولة بوصفها خيمة للجميع .

كيف نعمل بغياب الفن على بناء دولة مدنية تحكمها المؤسسات ، وليس الارتجال الذي يهيمن عليه المتخلف ، وينعدم فيه المتنور ؟ ، دولة ينعم فيها الناس بقيم المواطنة ، وتُلطّف عبر مباهجها الأمزجة ، وينبذ فيها التطرف ، وتخفف بفنونها التشنجات التي خلفّها عقدان من العمل الاعتباطي ، ولن يحدث ذلك اطلاقا ما لم نضع مؤسسات الثقافة أولوية قصوى ، وأن نجدد في محتوى ثقافتنا   .

لا يسعك الوصف سوى بالكارثة عندما ترى من يعمل على تهديم المسارح واقتلاع النصب من الساحات وغيرها من المعالم التي تجسد هوية العراق ، بينما يفترض واقعنا الثقافي أن تسعى الدولة لتشييد المسارح وقاعات العروض الموسيقية والتشكيلية في كل مدينة ، وهذا ما يقتضيه العراق الذي نريده جديدا كما يقولون ، لكن لم يتحقق ما يمكن الاشارة اليه .

ومع ذلك يسألون عن أسباب شيوع التطرف ، واتساع الروح العدوانية لدى الأفراد ، وتراجع الذوق العام في المجتمع ، هل رأيتم أسئلة ساذجة مثل هذه التي لا تُربط بالفنون والآداب ، بإهمالنا الفنون وعموم قنوات الثقافة لن نحصد سوى المتعفن من الثمار  .

من المؤسف أن تسبقنا في تشييد صروح الفن من كنا نصفها بالأنظمة الرجعية ، بينما صار راهن الذي يمتد عمقه للقيثارة السومرية مثارا لتندرها ، وهي ترى المعاول تهشّم الثور المجنح وتفجّر المنارة الحدباء وتقتلع تماثيل من بنوا للمجد مدنا ، ومع كل هذا الأسى ، لكننا واثقون من انتصار ارادة النور على عزيمة الظلام  .

jwhj1963@yahoo.com

مشاركة