إختناق اللغة
دخان دعاة الحماية
في كل الظواهر الإجتماعية او الفكرية تحدث توترات وإنشقاقات وآراء مختلفة، ففي اللغة مثلاً اذا ما ذهبنا للرأي الذي يعتبرها ظاهرة إجتماعية ممتدة، هنالك من يذهب بالقولِ ان تعاليم اللغة المعقدة والتي تُفرض على التلاميذ والإمتثال لقوالبها اللآ مرنة تُعوق حركتهم الإبداعية وتجمد طاقاتهم، وهناك من يعدها هي الأقدام التي لا بد منها في تسلق سُلم الإبداع وهكذا كل مذهبٍ يذهب إلى إستنتاجٍ معين، وهناك من يجعل قواعد اللغة الموروثة شيئا مقدسا لا يمكن مساسه ومن يخرج عن أحد قواعدها يتم تكفير عقله وطريقة تفكيره، لا بل قد يصل ان كل إستعمالٍ حديث لا يُجاري هذه القواعد هو جُرم وكفر؛ فأنصار النزعة الماهوية إعتقادهم التام ان هذه اللغة ليست ظاهرة إجتماعية من خلق الإنسان ويختلف جسدها من مجتمع إلى آخر إنما يقولون هبطت من السماء وهي معجزة كاملة وخالية من النقص اي لها ماهية مسبقة تامة وهي شيء ثابت لا تغير معالمه رياح التغيير التي يشهد لها التاريخ البشري وما نراه في الحاضر، اما من يعتبر اللغة ما هي الا ظاهرة اجتماعية من الناس وإليهم، وكما مُتعارف عليه في علم الإجتماع ان الظواهر الإجتماعية يخلقها طبيعة الإجتماع، اي نتاج العقل الجمعي وانبعاثات من تلقاء نفسها عن حياة الجماعات لذلك غالباً ما نشاهد من يخرج او يتمرد على أنظمة ظاهرة إجتماعية معينة يُجابه بمقاومة وعقاب وتُكال عليه مختلف التهم والعداء، وهذه الظاهرة الإجتماعية تتأثر بعادات وطرق سلوك المجتمع وتفكيره العام كما ظهرت بظهور المجتمع نفسه، فتزدهر بأزدهاره وتختنق كلما ارتفع غباره، ويذكر انيس فريحة في كتابه( نحو عربية ميسرة ص72): اللغة ما هي الا ظاهرة إجتماعية يتميز بها كل مجتمع بشري ولا علاقة لها بالآلهة ولم تهبط من علٍ بل نشأت من أسفل وتطورت بتطور الإنسان ذاته ونمت بنمو حضارته. أي الإنسان اضطر الى اختراعها عبر الجماعات بطريق ممارسته قدراته الخاصة ولم تبتكر بصورة آلية بطريقة التعاليم الإلهية كما يقول هيردر.
مسيرة زمن
وهذا يعني ان اللغة يجتاحها التغيير بمسيرة الزمن لتغير حاجات الناطقين بها، فالأجيال تتغير وأحوال العيش تتجدد، أنماط التفكير تتبدل وتتسع، واساليب العمل واشكال التواصل في تغير مستمر، وتغير المدلول يُأثر في تغيير الدال والتطور الهائل الذي يطرأ في العالم لا مناص منه، ففي كل مرحلة زمنية تحدث التغيرات الكبيرة والواضحة في مدلولات الأشياء وبالتالي تحتاج إلى الدال الذي يُلبي حاجتها، انها ليس دعوة الى تفخيخ قواعد اللغة أو الحط من أهميتها كما يرى ذلك أنصار النزعة المحافظة بقدر ما هي وجهة نظر لإستقطاب الناس الى الفصحى الميسرة وأن تكون اللغة في تغير مستمر يواكب متغيرات الحياة والعُرف اللغوي السائد وأن تُراعي جهات الإختصاص مدى استجابة القواعد للتغير المجتمعي.
عرف اجتماعي
أي تُراعي العُرف الإجتماعي والزمكاني من جهة وعُرف اللغة من جهة أخرى لا أن تتصف بالتعسف والجمود الذي جعل اللغة الفصحى عسيرة وكأنها لغة غريبة عند استخدامها؛ وهذا قد يكون بسبب الفراغ بين جمود قواعدها وتغيّر عُرفها المستمر، إذن ليس هناك شيء اسمه شرطة لغوية لمكافحة اي كلمة شائعة تُخالف قاعدة لغوية ما، أو وظيفتهم التعدي على ملك مستخدميها، اللغة ليست خاضعة لسلطة جهة معينة بل لمن ينطق بها ويتواصل عبرها، اللغة وسيلة لتطويع الزمن لهدفٍ ما وليس العكس، والتغير الذي يكون شائعاً في تواصل الناطقين بها هو قاعدة تأخذ مكان القاعدة التي لم تعد تواكب علاقة الدال بالمدلول ، فالتغير الذي أصبح شائعاً هو ترجمان للبيئة والثقافة التي يعيشها الأفراد الذين يتواصلون عبر هذه اللغة، اما بالنسبة لمن يُثابرون من أجل اللغة الفُصحى ويرفعون لافتات نصرتها وإشاعتها بين الناس أن يواكبوا التغير في اللغة ويلاحقون كل جديدٍ فيها ليتكيفوا ويتأقلموا لا أن يجعلوا من أنفسِهم حركة سادية لغوية ليحاكموا كل تغير وكأنهم إله يأمر الناس قلْ ولا تقلْ، هي ليست بهكذا تعقيد وتسلط، اللغة هي من تنساب لناطقيها حتى لا تموت عند الأغلب والمبرر من وراء ذلك هو بسبب تعقيدات دعاتها وجعلها سيفا على رقبة ما يواكبها من متغيرات، بل بعض المختصين باللغويات الحديثة ذهب للقول بأن ليس هنالك سبب ساهم في هروب الناس من اللغة الفصحى واستصعابها اكبر من دعاتها المحافظين نفسهم، والذين يظنون إنهم حماتها وهم يبثون روح اليأس من الفصحى وتعقيدها، والكل يعرف ان اللغة التي يهجرها اللسان هي بمثابة رصاصة في قلب هذه اللغة، والكثير من الناس يسأل لماذا تتم محاكمة النطق الجمعي والشائع وفق قواعد خرجت من نطقٍ جمعي في زمن قديم ليس إلا؟ وليس هذا فحسب بل هنالك من يريد تطويع الذوق والحداثة وكل شيء فقط ليلبي سجية ما تكلم به القدامى قبل ألف عام!
حسن هادي الطائي – الديوانية