إجهاض مشروع النهضة العربية
معتصم السنوي
إن نظرة سريعة إلى ما يجيش به المجتمع العربي من صراعات وأنفجارات كافية لرؤية الأبعاد الروحية والمادية لهذه الأمة المفتوحة. ولعل أهم مظاهرها وأعمقها اليوم هي فقدان الأمن والطمأنينة، وزوال كل يقين، والخوف من العالم والميل إلى الأنطواء على النفس والتخلي عن كل موقف إيجابي تجاه الواقع، والخلود إلى موقف السلبية الشاملة المتجسّدة في رفض الذات وفي رفض الآخر معاً، وغياب فاعلية كل (المُثُل) الكبرى الباحثة للأمل والحاثة على العمل والمحفزة للإرادة. ومن مظاهرها البارزة ازدياد المواقف القائمة على ردود الأفعال، والتطرف الفارغ والبرم بكل ما هو قائم ونقده دون تمييز، وضيق الأفق والحيرة واليأس من أنسداد السبل، والقنوط من كل تغيير، ومنها أيضاً تدهور المناخ الفكري وتراجع حدود المناظرة العقلية، وبروز الظواهر الطائفية والعشائرية أو عودتها وانحطاط الممارسة السياسية في (شَّقْيها) الرسمي والشعبي إلى نوع من الإرهاب المتبادل، وتحلل علاقات السلطة وزوال الأسس القانونية والدستورية للحكم وللمؤسسات العامة، وسقوط الدولة تحت أقدام مراكز القوى (النفعية) وخضوعها للمنافسة وتنازع أصحاب المصالح على اقتسامها، وحرمان المجتمع بذلك من وسيلة تنظيم وتنسيق أساسية للمصالح العامة، ومن مركز ضروري لتوحيد الإدارة الوطنية والقومية وتجديدهما.. ومن الطبيعي أن يشجع جو الأزمة هذا عناصر النفور والنشاز على البروز والتكاثر، وأن يفتح لأصحاب المصالح الجزئية والأنانية أوسع المجالات لتحقيق مآربهم وأهدافهم، وأن يخرج مصير البلاد من أيدي أبنائها ويضعها بين أيدي الذين يظهرون (مهارة) أكبر في التعامل مع القوى الكبرى والدول المهيمنة، ففي جو فقدان الإرادة الجماعية أو ضعفها تصبح إرادة (السيطرة) مصدراً للعزيمة والسطوة. ويصبح تهور المغامرين إقداماً وقوة. وعند غياب الرؤية الواضحة تصبح قناعة الجاهلين منبعاً للعرفان، وإدعاء المطالبين والمتعالين رؤية ونبوة. فهي سُنَّة كونية تقضي بأن السلطة إذا ضعفت تحلل أصحابها منها، وأن الدولة إذا (هرمت) تبرأت أطرافها منها، وأن الأمة متى وهنت وطال تفسخها زاد ابتعاد الناس عنها وبرمهم بها حتى تنحل ويقضى عليها، أو يبعث فيها من يوفر لها ظروف نشأة جديدة… ومن مظاهر هذه (الأزمة) أن الكلام الدائم عن التقدم والتحرر والتمدن والتنمية قد اختفى ليحل محله وصف لا ينتهي للتخلف وآلياته، وللسقوط والإخفاق وتبعاته. فقد أصبح من البديهي اليوم الحديث في الأوساط المثقفة والعامة عن إجهاض (مشروع النهضة العربية) التي حلم بها رجال القرن التاسع عشر وعملوا من أجلها، وارتبط هذا الحديث بميل عارم إلى المراجعة والنقد الذاتي، وإلى إعادة النظر بالمفاهيم والنظم والعقائديات التي سادت في الحقبة الماضية. فتقويم الإطار النظري العام، وفحص المسائل بدقة وإعادة تحليل الواقع وفهمه فهماً جديداً هي من الشروط الأولية لتصحيح المسار، وجعل الممارسة الاجتماعية ممكنة بعد تردد والنشاط والمبادرة الإنسانية مقبولة بعد توقف وتوجس. وتجرّ النظرة الأولى إلى مواقف عنصرية تحاول أن تبحث عن تفسير هذا الواقع بالكشف عن أسبابه في (العقل العربي) أو في الذات العربية أو الثقافية أو في التراث بعَدْه تجسيداً لهذه الذات. فتدير ظهرها للتاريخ وللحركة الاجتماعية وللصراعات الدولية، أي باختصار للواقع الفعلي، وتجعل من التاريخ، أي تاريخ تقدم وتغيّر أمه أما، ثمرة للفكرة التي تصنعها هذه الأمة عن نفسها أو يصنعها عنها الآخرون، ونتيجتها هو الاستسلام للأمر الواقع والحكم على الذات بالقصور واليأس من كل عمل.. وتجرّ النظرة الثانية إلى موقف التغطية عن أبعاد الأزمة، والتفاؤل الكاذب، والاستمرار في التأكيد على صلاحية النظم الفكرية والاجتماعية القائمة، وتبرير التعامل معها والعمل من خلالها، وتصبح المشكلة في نظر أصحاب هذه النظرة مراجعة (التكتيكات) للحفاظ على المواقف ذاتها. ومضمون هذه النظرة هو في النتيجة الحفاظ على (الوضع القائم) واستغلاله لتأمين (المصالح الخاصة والذاتية)، والنفي العملي لكل قيمة أو مصلحة عمومية ووطنية وقومية.. نحن نعتقد أن الأزمة أعمق من ذلك، وهي ليست مرتبطة (بزعيم ما)، أو سياسية جزئية ثقافية أو اقتصادية، ولا حتى (بنظام معين) أو بالأنظمة العامة بعدّها تشكّل تعبيراً عن مصالح اجتماعية جزئية. وإن انحباس كل تقدم اجتماعي وسياسي هو أكبر دليل على أن الأزمة تتجاوز السطح إلى العمق، والسياسة إلى الثقافة، والأنظمة إلى المعارضات، والستراتيجيات إلى الأهداف والمفاهيم، ولا يفسر هذا الأنحباس، وفقدان البديل بتفاقم العنف والقمع، فالقمع لا يحطم إرادة الشعب في التاريخ ولم يخفه، بل إنه كثيراً ما يحثه على المقاومة، ويدفعه إلى المواجهة، ويشحذ عزيمته.
أن السبب الرئيس لاستمرار هذا الأنحباس أو المأزق التاريخي كما يقول البعض، والذي هو نفسه ليس إلاّ تعبيراً عن استمرار الأزمة وتفاقمها، هو (غياب الوعي الموضوعي) بأبعاد المشكلة الاجتماعية والتاريخية، وغياب الرؤية الواضحة والتصور السليم والتفسير المقنع الذي يخلق إرادة الفعل، ويفتح أفق العمل، ويبعث في الإنسان الأمل. وبمعنى آخر، إن استمرار الأزمة أكبر دليل على (انعدام البديل أو ضعفه). ولا نقصد هنا بالبديل، السياسي منه، وإنما المشروع الاجتماعي الثقافي والسياسي الذي أعطت النهضة، وأعطت الحركة العربية القومية الحديثة نماذج سابقة منه، وهو ليس بهذا المعنى إلاّ الردّ الجديد الشامل الفكري والعملي على الأزمة التاريخية التي يعيشها المجتمع العربي منذ أكثر من قرن وليس الردّ أزمة جزئية لهذا النظام أو ذاك. وقد توصلت الشعوب من خلال نضالها لكسب حقوقها المشروعة، أنه لا يوجد على مستوى الشعوب والمجتمعات “مآزق تاريخية”، أي أزمات لا مخرج منها، وآفاق مسدودة لا سبيل إلى فتحها. ويتعلق الأمر (بقدرة قوى التغيير والمقاومة) على فهم الوضع القائم فهماًَ موضوعياً، وتطوير وسائل العمل الكفيلة بقلب توازناته الفاسدة وإقامة توازنات جديدة فعّالة في مكانها.. فقد تغيّرت في السنوات الأخيرة خارطة القوى الاجتماعية الوطنية والعربية وتوجيهاتها السياسية والنفسّية، كما تغيرت الظروف الخارجية، ولم يعد من الممكن (إقناع الجماهير) بأن ما كان صالحاً منذ ثلاثين عاماً ما زال صالحاً اليوم، ولا بالمراهنة في تجاوز النقائض النظرية والتنظيمية له على قدوم شخصية جديدة (للزعيم المنقذ والملهم) كبطل للتحرر من الاستعمار!! وهذا يوصلنا أن مسألة الثقافة والصراع على تقدير مكانة الثقافة في (النهضة والتغيير)، وهي المسألة التي ارتبطت بها أول محاولة عربية شاملة لتكوين مفهوم وتصور نظري لعملية التغيير العربي. وثانيهما لأن العقل يستطيع أن يطل من الثقافة بعدّها مجموعة القيم العامة التي تلهم سلوك الجماعة وممارستها الفكرية والسياسية والاقتصادية على مجمل البنية الاجتماعية، وإن السياسة الوحيدة المنتجة في الثقافة، لا يمكن إذن أن تكون إلا حرية الثقافة، إن تخطي المحدودية الشخصية والاجتماعية والتاريخية يتطلب الأعتراف بها أولاً، ثم الكفاح الواعي من أجل التقليل من أثرها، ومغالبة الذات الدائم ضد ميل الإنسان الطبيعي إلى إتباع أهوائه الخاصة وتأكيد عقائده وقناعاته، ومحاباة جماعته أو وسطه ومناصرة أترابه، ومسايرة آراء عصره..