أين الأجيال الشعرية العراقية – نصوص – بيان البكري

أين الأجيال الشعرية العراقية – نصوص – بيان البكري

مر القرن المنصرم بخاتمة عنيفة أولى فيه العراق دورا مؤثرا وبارزا على صعيد الثقافة الشعرية العربية المعاصرة فما أن زارت حقبة الحداثة الوطن العربي حتى تلقفها العراق كتابة وإبداعا فاق المستويات العربية المقارنة ، واستمر العراق منبرا من منابر الثقافة العربية وقائدا وموجها لها طيلة منتصف القرن الثاني .فمع أربعينيات القرن المنصرم برز الجواهري المجدد لروح الشعر العربي حتى سمي شاعر العرب الأكبر والذي كان يمثل محاولة لإعادة إحياء الشعر العربي القديم بروح شعرية جديدة وبلغة جديدة تنهض به من مستويات الاهتمام بالشكل الخارجي للقصيدة المتمثل بالزخرف اللفظي نحو الاهتمام بالمعنى وبروح الشعر الحقيقي ، لقد كانت تجربة الجواهري مشابهة لمحاولات البارودي في إعادة إحياء الشعر العربي القديم والتي تلتها محاولة شوقي والعقاد ومن تبعهم من المصريين برسم أطر ثقافية عربية جديدة تمثلت بمدارس الكلاسيكية ثم الرومانسية والرمزية .ومثله فعل الجواهري الذي نقل القصيدة العراقية نحو آفاق جديدة تعود به نحو العصور العباسية الزاهرة للقصيدة العربية ، وهذا ما كان ممهدا لظهور مبدعين عراقيين جدد وبأطر جديدة تماما تغاير المألوف الشعري العربي القديم والمعاصر .إن ما يميز الشعر العراقي بعد الجواهري أنه ابتعد عن الإنتاج الفردي ليصبح إنتاجا جماعيا تمثل بحركة الأجيال الشعرية والتي برزت في العراق بشكل واضح ، فقد افتتح السياب عصر الحداثة العراقية عام 1946 – 1947 مع مجموعته الفريدة من الشعراء ( البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ) ، وبعيدا عن الأسبقية التي تنافس عليها السياب ونازك الملائكة ، وبعيدا عن التمثيل الحقيقي لفكرة الريادة الشعرية ، فإن هذا الجيل الذي ضم الشعراء الأربعة قدم قصيدة جديدة تغاير المألوف الشعري العربي القديم الذي استمر بالحضور لما يزيد على الألف وأربعمئة عام ، لقد قدم قصيدته التي تقوم على النسق السطري بدلا من التوازي الشطري ، وعلى الروي بدلا من القافية ، وعلى التقارب بدلا من التشابه .وحينما أعلن الجيل الأول جيل الأربعينيات أو جيل الرواد نهاية تجربته الشعرية برز على السطح جيل جديد هو جيل الخمسينيات وكان من رواده سعدي يوسف ويوسف الصائغ وغيرهم ليطوروا شكل القصيدة الأربعينية وينقلوها نحو بعد أكثر ذاتية مع المحافظة على المنجز الشعري الريادي الموضوعي المتمثل بالشعر الحر أو قصيدة التفعيلة مما رسخ المنجز الريادي وعزز مكانته وقابليته على التطور .وحينما انتهت التجربة الخمسينية ابتدأت التجربة الستينية متمثلة بالبيان الشعري الستيني والذي كتبه الشعراء الأربعة المعروفون ( سامي مهدي وخالد علي مصطفى وفاضل العزاوي وفوزي كريم ) وقد مثلوا خطين متوازيين أحدهما اعتمد قصيدة النثر كفاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي وغيرهم بينما اعتمد الآخر قصيدة التفعيلة وقد مثلها كل من سامي مهدي وخالد علي مصطفى وغيرهم ، وفي كلتا الحالتين ابتعدت القصيدة الستينية عن التقرير لتنتهج الاستعارة الشاملة نمطا لكتابة القصيدة فقد أصبحت القصيدة عندهم كلها استعارة واحدة لمعار محذوف مما فتح الأفق واسعا أمام القارئ وتأويله للقصيدة .

ثم تبع هذا الجيل جيل آخر هو الجيل السبعيني والذي يبدو أنه اختار قصيدة النثر إطارا ثابتا للكتابة الشعرية  وقد تمثل بإبداعات خزعل الماجدي وعبد الزهرة زكي وطالب عبد العزيز ورعد عبد القادر وغيرهم ، وتبدو قصيدتهم تكميلا للإنتاج الستيني وتطويرا له نحو استعارة أشد عمقا مع قصيدة أكثر تكثيفا ورمزية .وحينما وصل العراق مرحلة الثمانينات برز جيل الحرب (الحرب العراقية الإيرانية ) وقد سمي جيل الثمانينيات وقد أضاف لبنة أخرى إلى الأجيال الشعرية العراقية على الرغم من هبوطه نحو الأيديولوجية التعبوية.وفي التسعينات برز الجيل التسعيني ذلك الجيل الذي حمل معول الحقيقة والحفر والبحث في التاريخ ليجدد القصيدة العربية وقد مثله جواد الحطاب وأحمد عبد الحسين وغيرهما من رفاقهم الذين رفضوا الواقع الشعري السائد واتجهوا صوب قصيدة تبحث في الوجود الإنساني وتحاول فهم حقيقته عبر التفكير الجدي في الوجود العبثي للإنسان وتطرح الكثير من الأسئلة المربكة عن هذا الوجود الغامض .لم أذكر في هذا التقرير السريع عن الأجيال إلا بعض الأسماء ( مع المعذرة لمن فاتني ذكرهم ) فقد شهدت بعض الأجيال الشعرية بروز أكثر من خمسين شاعرا فضلا عن الكثير من الأسماء الذين تم إبعادهم من الساحة العراقية بسبب مواقفهم ضد النظام السائد آنذاك .الغريب في الأمر أننا لم نشهد بعد الجيل التسعيني بروز جيل شعري جديد بل ولم نشهد حتى بروز شعراء كبار مقارنة بالشعراء السابقين الذين تم ذكرهم ، فما هو السبب يا ترى ؟ ، ربما كانت الإجابة على هذا السؤال مربكة وربما يعترض بعض الأدباء بأنهم كبار أيضا ولكن أين الأجيال الشعرية العراقية الزاخرة ؟ أين الروح الجماعية التي كان يعمل بها الشعراء ؟ هل توجه الشعر نحو الفردية أكثر ؟ هل ماتت روح العمل الجماعي ؟ هل ماتت الأجيال الشعرية ؟ .