قصتان قصيرتان
أوراق – نصوص – شيماء الدباغ
كورقة تصارع الريح متشبثة بغصن يداعب زجاج نافذتنا كان جفناه الذابلان، برغم رقة وصلابة الغصن، الورقة تأبى النزع والسقوط؛ حثيث خشخشتها يجبرنا على النظر إليها، نتابعه باهتمام وحذر، أتحرى وجه أمي السرمدي المختمر حزنا وهي تمد كفيها للسماء, وأنا بين غدو ورواح أغيّر الماء الذي يدفأ من سخونة ناصيته، ينفطر قلبي هلعا لجزع أمي وانشغالها على أخي المحموم؛ أطمئنها بكل ما أوتيت من براءة:
- ألم تخبرينا أن الله معنا أينما نكن؟ فلا تجزعي له رب يحميه.
عجبت لتوكلها الفطري هذا، برغم حنو أناملها تلهب خدي اشتعالا حين تداعبه من فرط ما يحز بها من وجع، أستفيق من غفوة ذاكرتي، تنسدل أدمعي على خد صغيري وهو يرقد بين كفّيَّ في إحدى غرف المشفى، ما أشبه اليوم بالأمس والحمّى تدق ناقوس الخطر يتلظى بها طفلي، ينظرني الطبيب بحيرة، يهز كتفيه مشمراً عن كفيه، يربأ عن نفسه فعل أمر لا يفقه كنهه مطمئنا إياي:
- لا تبرحي المشفى، ربما سنكتشف سر سخونته..
طبيب آخر ينظرني بعين كسيرة، أنفض عني ما تراكم من ألم، وألقي بنفسي خارجا وطفلي بين يدي؛ كأن العالم توقف الساعة وانفرد بي؛ الأرض تهز أركاني، صوت الطبيب يدركني قبل سورة غضب مني:
- لا يمكنك الخروج هكذا؛ تلك مسؤولية خطيرة..
- أبادره بحدة: أتجبرني على المكوث هنا؟
يضع بين يدي ورقة ليحمّلني عبء ما ينجم حال تدهور طفلي متنصلا من المسؤولية، وعلى وجه السرعة ودون تفكير مسبق أوقّع على الورقة؛ ما الفرق ما دام كل ما حولي مبهماً؛ الأشياء تجمدت إلا قدمَيَّ تشقان خطاهما دون توقف، أركل الأوراق المبعثرة وهي لا تستقر على أثر، تارة تحملها الرياح، وأخرى تفترش التراب، وبعضها تداعب قدميَّ، أستقل سيارة العودة لبيتي، أهش الظنون التي تزاحم رأسي:
- ربي تقطــعت بي السبل وما عندي غيرك).
برفق أضع طفلي على سريره، أمعن في قسمات وجهه الجميل وإغفاءته الملائكية، أدرك أن الواهب لا يقطع هباته؛ أرفع كفي للسماء و تنساب دموعي وأستحضر ذاكرتي بكل ما أوتيت من دعاء، تمر ساعة كأنها دهر وأشواط من الألم لطفل لا يستقر في وعائه شراب ولا طعام أودواء منذ يومين .
تعود بي الذكرى، جميعنا ننام ملء أجفاننا إلا هي متيقظة تحيط أخي؛ أوقات أراقبها وقد فارقت عيني النوم وأنا أتابع خطواتها بين غدو ورواح، كيف تصب الماء المغلي وهو على المدفأة لتجهز الأعشاب، وتفرش مصلاتها وتمسك القرآن ثم تشرع بالدعوات، أسالها:
- ألا تنامين، بلغ منك الجهد مبلغه؟
برغم حزنها تبتسم:
- لا تبالي حبيبتي، متى ما شفي أخوك سأرتاح.
أستذكر قولها دوما، الأم دنيا لأولادها، هي الحياة التي لم يعوا سواها في الوجود حتى يكبروا ..
أقلب صفحات كتاب العلوم ربما سأفهم ما تعني الحــــــــمّى أو أكتشف مرضه، فرحة أمي تســـــــــبق لتتراقص الصفحات لغبطتها:
- ربي استجاب.. ربي استجاب..
يداعب حلمي صوت رخيم:
- ماما” جوعان.
قد أعددت مسبقا حساء يحبه، على وجه السرعة أحضره؛ يحتسيه دفعة واحدة، يشرق وجهه بابتسامة تملأ حياتي نوراً؛ ينشرح أكثر عندما أعطيته ما اعتاده مني ورقة نقدية يحتــــفظ بها كل يوم في حصالته.
















