أنشودة الوجود الأزلي – نوري جاسم
في حضرة الكينونة، حيث يتلاشى الزمن وتنساب الأرواح في نهرٍ من المعاني، يطل علينا الوجود بوصفه مادةً تتشكل، وأنشودةٍ أبدية تُرتّلها قلوب العارفين في مقام الحب المطلق، حيث لا شيء في هذا الكون إلا وهو آية، وكل آية تفتح بابًا للدهشة، وكل دهشةٍ تقود إلى مرآةٍ تكشف الماهية الأولى: “هو” ومن نواة الذرة إلى أقصى المجرات، من همسة النسيم إلى زئير الشمس، كل شيء ينطق بلغة واحدة: “الفيض”. ذاك الفيض الذي لا ينقطع، الذي لا بداية له ولا نهاية، يسري في العروق كما تسري الحكمة في قلب من صفّى مرآته، وخفَّف من غشاوة الأنا حتى تلاشت، والكونُ ليس صامتًا، بل نحن الذين أضعنا السمع، إلا ما رحم ربي، والكون ليس جمادًا، بل نحن الذين جمدنا في قوالب العقل، وأما أولئك الذين لمسوا الحقيقة بقلوبهم، فقد فهموا أن كل ورقة تسقط، وكل نجم يولد، وكل قلب ينبض، هو نبضة من نبضات الحضور الإلهي، ومقطع من نشيد الوجود المستمر، والصوفي الصادق لا يرى الأشياء كما هي، بل كما ينبغي أن تكون في مرآة الأسماء والصفات، ويرى الجمال في الفناء، والخلود في لحظة التجلّي، والعشق في كل وجه، لأن الوجوه كلها مرايا لمحبوبٍ واحد، يتجلّى بلا عدد، ويُعشَق بلا سبب، والحداثة؟ هي لباسٌ جديد للقديم الأبدي، ومرآة أخرى يتجلى فيها الله لمن عرف، ولا تعارض بين الحاسوب والسبحة، ولا خصام بين العقل والروح، بل تناغم أبدي بين رقصة الإلكترون وتسبيحة الدراويش، وفي الطريق، تتلاشى الأسئلة. لا لأننا وجدنا الأجوبة، بل لأننا اكتشفنا أن كل سؤال هو حجاب، وكل حجاب هو فرصة لتجلي جديد، والسالك الحقيقي لا يريد يقينًا جامدًا، بل يريد دهشة متجددة، ويطلب الله ليعرفه، ويذوب فيه، ما أعظمها لحظة… حين ينفصل القلب عن الضجيج، ويصغي إلى تلك الهمسة السرمدية، «كنت كنزًا مخفيًا، فأحببت أن أُعرف…»
فكان الوجود، وكان الإنسان، وكان الطريق، فبصحبة العارفين يسلك الطريق، وبذكر الله تعالى وبركاته يكون العنوان الروحي للمريد الصادق طالب طريق الحق بالمحبة والإيمان قد تثبت، وهنا تتوضح أنوار السلوك الروحي في سماء المعنى والرسالة والحكمة، وكل هذا من أجل الوصول إلى الله أقرب، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.