أنثى الكلام الجسور ـ عوّاد ناصر

أنثى الكلام الجسور ـ عوّاد ناصر
بعد ليالٍ شاقةٍ حلّ الفجر.. فجر القصيدة.
ليالٍ حبلى بالألم والوهم والمحو والأسئلة، لكن الفجر قد حلّ. خرج الجنين مكتمل العينين، له جبين ذكيّ وأصابع لم تعتد صلابة النهار.
الجنين كان أنثى الكلام، أنثى جسور تحدق بالحاضرين، رجالاً ونساء، وهم على وشك المغادرة.
أنثى الكلام الجسور هي القصيدة وقد حملت في داخلها حزمة الأشعة وضباب الفصول ورماد الموقد المنسي.. ولها خبث الطفل المحروم وشراهة الفيلسوف عند مائدة الأسئلة الكبيرة.
من سوء حظ تلك الأنثى إنها ولدت في زمن اضطراب الكوكب فاتسمت باضطرابها الشخصي، ومثل بندول بريء تنقلت بين التاريخ والجغرافيا فدمغها الناقد بختم موظف الهويات لتصبح مواطنة من العالم الثالث.
أضحت هذه الهوية إحدى إشكالاتها الكبرى وهي تتأمل عالمها الثالث المترامي الأطراف الذي لا يشبه نفسه، لفرط تنوعه واختلافه واحتدامه، عالم يعج بالفيلة والحواة وجنرالات الحروب ومتعصبي الدين والعناكب السامة ومحترفي الانقلابات العسكرية، بينما الشعراء ومبددو الغيوم وحسناوات الفن وأطفال المناديل الورقية يقبعون في الظهيرة المغلقة يتدبرون صناعاتهم الجميلة لجعل الحياة أخف وطأة والأرواح أقل كآبة في بحثهم المحموم عن المداخل المناسبة للعثور على فكرة التلاؤم، سر الجمال وجدواه.
ولدت أنثى الكلام الجسور وفي زاوية بين شفتيها ابتسامة لا مرئية تختزن مزيجاً مرّاً من التهكم والأمل، قبل أن تدرك تلك الحكمة الصينية القديمة يستطيع الشعر أن ينقذ حكومات متهاوية وجيوشاً ضعيفة» ويمنح صوتاً لريح الفضيلة الإنسانية المحتضرة .
تتأمل أنثى الكلام الجسور هذا العالم، عالمها، فتستغرب مفهوم الكتلة الذي يسبغه الأكاديمي المتعجل على العالم الثالث، لأن القصيدة، أنثى الكلام الجسور، لا تؤمن بالكتل والتشابه وهذيانات الجموع، ولأن القصيدة تختلف حتى في دفتر الشاعر الواحد.
أنثى الكلام الجسور هي إبنة الاختلاف، وإن تجمعت إناث الكلام واتحدت في الطريق إلى إيثاكا، إذ لكل قصيدة خطوتها الخاصة وإيقاع تنفسها وصورة العالم في ضميرها، وإسلوب أدائها للتنويمة الحنون وهي تهز طفل المناديل الورقية في ظهيرة الرصيف.
تنوع الوحدة في وحدة التنوع، هكذا يتحد طاغور ببابلو نيرودا وسونغ زيجنغ بمحمد الماغوط والجواهري برسول حمزاتوف وسعدي الشيرازي بأمل دنقل والشعراء كلهم بالشعراء كلهم.
نعم، متحدون لكنهم لا يتشابهون.. فصيلة من النوع البشري الخلاق ولكل منهم سحنته وخطه وحلمه وطريقته في جعل الأشياء شاعرية، ولكل منهم مصيره الخاص.
ثم فتيل واحد لكل قصيدة يشعله الشاعر ليضيء المعنى الكبير، لكن قيثارة الشاعر لا تكتفي بوتر واحد فالموسيقى لا تصدح إلا باجتماع الأوتار.
يقول شاعر صيني
عندما يبتكر المؤلف قصيدة قصيرة جداً
فإنها تسير مثقلة بشعور وحيد
مثل النظر إلى خلوة بلا أصدقاء
أو التحديق في السماء الشاسعة، بلا انتماء
وترٌ وحيدٌ على القيتار يكون حلواً ورشيقاً
لكنّه يغنّي من دون رنين أو تناغم..
هذا ما تعلمته، تقول أنثى الكلام الجسور، وما زلت أتعلم الجديد في كل قصيدة جديدة يطلقها شاعر في سماء العالم.
هذا ما تعلمته.. لكنني لم أحط علماً بأي شيء، كأنني لا أعرف أي شيء، فالقصيدة ــ أنثى الكلام الجسور، وليدة الحيرة المنتجة، معرفة وعرفاناً، وكل قصيدة مسعى معرفي لا معرفة، في بحثها عن الأوتار الباقية للقيثارة كي تغني بتناغم.
AZP09

مشاركة