أمنيات مؤجّلة ثلاث صور عن البصرة اضواء – لؤي قاسم عباس

أمنيات مؤجّلة ثلاث صور عن البصرة اضواء –  لؤي قاسم عباس

 البصرةُ الفيحاء هي عينُ الدنيا ، فينسيا الشرق ، لؤلؤةُ الخليج ، خزانةُ العرب ، سلةُ غذاء العراق وثغرهُ الباسم ورئته التي يتنـفسُ بها …  ما أن تَطَأَ قدماكَ ارضَ البصرة عبر بوابتها محطة المعقل تلمحُ سمرة أهلها المعجونة بطيب وكرم الضيافة وينتابك شعورٌ بأنَّكَ بين اهلك …  هي البصرة تلك المدينة ُالموغلة في عمقها التاريخي والمتجذرة في أصالتها  وها هي  شمسها وتربتها البيضاء الرخوة يتركان أثارهما على بشرة البصريين لتمنحهم تلك السمرة الجميلة ودماثة الخُلُق التي يتحلَّونَ بها .  الصـــــــورة الأولى … في عـــــــام 1978 سافرتُ بصحبة والدي الى البصرة وانطلق القطار بنا من بغداد والذي كان مكتظاً بالسائحين من كل بقاع الكون آلاف السائحين يرومون أن يمتعوا بصرهم بسحر وجمال تلك المدينة التي فاق وصفها الخيال … لا زلتُ أتذكر رصيف المحطة العالمية في بغداد وكأنه في مهرجان فرح حيث الأجواق الموسيقية تعزف للعرسان وهم يغادرون المحطة إلى مدينة الأفراح وليالي الملاح البصرة الفيحاء حيث يقضون شهر العسل هناك .  مرَّ القطار بنا بمدن عديدة قبل ان يتوقف في محطة المعقل وما أن وضعتُ اقدامي على رصيف المعقل حتى شممتُ رائحة طيبة ورأت عيناي مدينة جميلة لا تفوقها أي مدينة في الكون وتذكرتُ مقولة في درس المطالعة للصف الرابع الابتدائي ( لم يرَ العراق من لم يرَ البصرة ) فسرّ جمال العراق يكمن هنا … فهي بوابة ارض السواد بنخيلها الـ 22 مليونا و الذي يتعدى نفوس العراق البالغ 13 مليون نسمة آنذاك .  رحتُ أتجولُ مع والدي فيها وأتنقلُ بينَ السندباد و العشار وشط العرب حيث نصب السياب ينشد بويب والمطر وشناشيل ابنة الجلبي و اردد معهُ ( يا مطر يا حلبي عبر بنات الجلبي ) . وأدندن مع نفسي ( يالبصرة يم العود ) و في مكان غير بعيد يقف الفراهيدي في شارع الاستقلال اسمعه يقول فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُنْ … انطلقنا بعدها الى الجزائر والطويسة وأم البروم والجمهورية وعرجنا إلى أبي الخصيب و الهارثة و السيبه وكان مسك الختام تلك  الأمسية الجميلة التي لا زالت عالقة بذاكرتي في نادي الميناء والذي كان يضاهي أرقى الأندية العالمية …  الصورة الثانية … في عام 1987 سافرتُ الى البصرة بمفردي وذاكرتي تختزن تلك الصور الجميلة عن تلك المدينة الرائعة لم اكُ أريد أن اغير تلك الصورة التي حفظتها في طفولتي لا سيما وان الأخبار تواترت في حينها عن تعرض المدينة للدمار والخراب فقد تحولت إلى ثكنة عسكرية ولم يسلم من مظاهر العسكرة حتى جزيرة السندباد الجميلة التي كانت منتجع العرسان لتحولت إلى معسكر للجنود كان القطار القادم من بغداد ياتي محملاً بالجنود ويعود ممتلأً بجثث ضحايا الحرب وجرحى المعارك لم يكن أي اثر لمظاهر الفرح فلقد جرفت بساتينها لتكون ممراً للقطعات العسكرية ولم تعد نخيلها تكفي لإشباع أهلها . البصرة دخلت الحرب قبل أن تعلن الحرب العراقية الإيرانية  فقد شنَّت زمرة البعث مع بداية تولي صدام للسلطة حملة اعتقالات واسعة راح ضحيتها الآلاف من أبنائها قرابين فداء على مشانق الحرية او يستقبلون رصاصات الغادرين بصدور ٍعامرة بالإيمان  …  لقد عانت محافظة البصرة كثيراً جراء تلك الحروب الرعناء وآثار الدمار شاخصة للعيان فلقد شهدت اكبر عملية نزوح لأهلها الى محافظات الوسط بعيداً عن مرمى المدفعية والقصف الجوي وكانت حرب الكويت بمثابة الكارثة عليها فهي على تماسٍ مباشر مع الكويت وتعتبر خط الجبهة الوحيد لحرب لم يكن للشعب العراقي لهم فيها لا ناقة ولا جمل  .  الصورة الثالثة … 2013  في الطريق إلى البصرة كنتُ أدندن مع نفسي وأنا اردد أغاني فؤاد سالم ( مركب هوانه من البصرة جانه … جايب حبيب الروح عدنه أمانه ) فلقد وضعت الحروب الرعناء أوزارها ومضى عقد من الزمان على سقوط الصنم كنت اظن اني سأجدُ البصرة تلك المدينة التي احلمُ بها والتي اختزنها في ذاكرتي منذ رحلتي الأولى لكني لم ار أي اثر لتغيير جوهري يعيد لهذه المدينة القها وصورتها البهية هل حقاً هذه البصرة مدينة الأصمعي والحسن البصري ورابعة العدوية والكندي والجاحظ وعمرو بن عبيد ومحمد خضير ولؤي حمزة عباس واحمد مطر ونداء كاظم هل حقاً هذه فينسيا الشرق ولؤلوة الخليج …  خارج الصور …  لقد قدَّمت البصرة التضحيات الجسام وعانت من الخراب والإهمال آن الآوان لها أن تختار شكل حكمها بنفسها فالحكومة المركزية منشغلة ٌعنها بأمور أخرى وهي خارج حسابات الأعمار وتستكثر عليها أن تمنح لقب عاصمة العراق الاقتصادية فكل ما يهم الدولة من هذه المدينة العظيمة أن تبقى مصدر رزق لها يدر عليها المال ليعمر جيوب الفاسدين فهي ترى البصرة مجرد نفط يمول الخزينة وميناء ترسو عليه البضائع ونخيل يسد رمق الجياع … بل أما أنا فأرى البصرة تاريخ وحضارة وعلم وفن وأدب …  فهل سيأتي ذلك اليوم وارى البصرة التي أحلم بها بعيداً عن النفس الطائفي والعرقي مدينة تحتضن ملايين الوافدين إليها من كل حدب وصوب وهم يشعرون بالأمان فيها . هل سيأتي يوما أرى البصرة وقد نفضت عنها غبار الحروب وآثار الدمار و الارهاب هل ستعود فينسيا الشرق ؟! ذلك ما أتمناه