أمل الجبوري
أ – أمّ عليّ([1])
الناصريةُ التي لمْ تبصرْها عينايَ
الشطرةُ التي حلمتُ بتقبيلِ ترابِها ذاتَ يومٍ
أرضعَتني حُبَّ الجنوبِ
أمُّ عليّ، حبّبت فيَّ «سمكَ الزوري»([2]) وخضرةَ مزرعتِها الصغيرةِ
أحبْبتُ الجيرانَ الذينَ لمْ يكونوا لِصْقَ دارِنا فحسبْ
كانوا لِصْقَ بابِ قلبي
أمُّ عليّ ظلّتْ في حزنٍ لمْ تشأ أنْ تُظهرَهُ أمام أمّي
أمّي كعادتِها لا تَرُدّ طلباً لمساعدةِ أحدٍ
حينما أرادتها أمُّ عليّ أن تخفّفَ وطء حمْل الجنينِ ونارَ تنورِها([3]) الملتهبِ
فأسرعتْ إليها ممسكةً بالخبزِ الحارِّ الشهيِّ في حضنِ جارَتِها
أمّي التي
يَجري في عروقِها حُبُّ الجيرانِ
الجيران الذين كانوا
العشيرةَ
الطائفةَ
والعائلةَ والوطنَ
كانتْ أمّي حريصةً في حجبِ أعوادِ الثّقابِ عنْ طفلَتِها إقبال التي لمْ تُكملْ سنواتِها السبعُ
والتي تلعبُ بعروسةٍ
أسْمَتْها دُنيا
لماذا دُنيا؟
لأنّها ستأخذُها سريعاً إلى دُنيا مبكّرةٍ
إقبالُ كانتْ هادئةً مثلَ شعرِها الأحمرِ المنسرحِ فوقَ كتفَيْها
ووجْهِها النادرِ في زِقاقِ كرّادة([4]) مرْيَم
بنِقاطِها الشهباءِ
حلوةٌ وكأنّها ملاكٌ كما كانَ الجيرانُ يردِّدونَ
كانتْ أمّي تخافُ على آخرِ العنقودِ،
طفلتها النائمة بعيداً عنْ حديقةِ المنزلِ حيثُ تلعبُ إقبال ورفيقتُها لعبتَها الافتراضيةَ دُنيا
أرادتْ إقبالُ أنْ تعاقِبَها بإشعالِ النّارِ في ورقٍ قربَ ثوْبِها
احترقتْ الحديقةُ بعودِ ثِقابٍ طالَما كانَ بعيداً في أعلَى رفٍّ للحياةِ
لكنّ صغيرتَها التي كانتْ تُشابهُ الملائكةَ
إقبال تجرّأتْ وكسرتْ كلامَ الأمِّ
وسحبتْ عودَ الثقابِ إلى لعبتِها
ظنّتْ أنّ النارَ
يمكنُ لها إكمالُ لعبةِ العروسِ والبيتِ بيوت([5])
النارُ كانتْ جائعةً مثلَ كلِّ نارٍ لئيمةٍ طامعةً بالرمادِ
تحوِّلُنا إلى محضِ رمادٍ
النارُ غيرُ مصدّقةٍ أنّها ستكبرُ وهيَ تلتهمُ جسداً طازَجاً
وكأنّه كانَ مُعَدّاً لوليمةٍ تفوحُ منها رائحةُ الأطفالِ
استأذنتُ أمّي… أمّي، أمّ عليّ التي لم تَلِدْني
التي كانتْ تنوءُ بحمْلِ حملِها وبطنِها المتدلِّيةِ باقترابِ المخاضِ
أمّي التي قلقُها الأزليّ أصرَّ عليها بمراقبةِ بابِ بيتِها الذي لمْ يُغْلقْ ولا مرّة
هذهِ المرَّةُ أغلقتْ الأقدارُ على عجلٍ بابَنا لتستفردَ النارُ بطعامٍ بطعمٍ نادرٍ
شقّتْ أمّي السماءً بصراخِها
ثقبتْ الصدمةُ نهدَيْ الأمِّ المحمَّلتينِ بالحليبِ
الحليبُ الذي أصرَّ على النواحِ منهمراً نافراً
يريدُ الهربَ منْ صدرِ أمِّ إقبالٍ المفجوعةِ
بكتلةِ النّارِ،
طعمُ اللهبِ،
أمّي الحبيبة،
حملَتْ لحماً يُشوَى على يديْها وذراعَيْها
مثلَ مجنونةٍ تخرجُ تصرخُ بأمِّ عليّ:
«أغيثيني…
إن خبزَكِ لنْ يأكُلَهُ أحدٌ… بعدَ اليومِ،
خبزُكِ كانَ مصيدةً لإقبال([6])،
أغيثيني يا صاحِبَتي».
خرجَ الجيرانُ مذهولينَ
بنارٍ بدأتْ تخمدُ رويداً
وأمّي مكسوّةٌ برمادٍ يُغطّيها
رمادٌ لا يمكنُ أن تتصوَّرهُ أيّ أمٍّ
رمادُ
طفلتِها الحلوةِ ذاتِ الشعرِ الأحمرِ
التي ذابتْ بينَ ذراعَيْ أمِّها
لتتبخّرَ بينَ صرخاتِ الجيرانِ متحوّلةً إلى غمامةٍ.
أمُّ عليّ لعنَتْ ولادَتها
كانتْ تريدُ أن يأخذَها الموتُ
حتى لا تبقَى تذكرةً لعائلَتِنا بموتِ إقبال
لكنّ الله منحَها حليباً كانتْ تُرضعُ بهِ كلَّ أيتامِ الصالحيةِ
وكنتُ أنا مَنْ يَتَّمَنِي رمادُ أخْتي
وجعلَ أمّي عليلةً على القيامِ بدوْرِ الأمومةِ القاتلةِ التي أورثَتْها
كلَّ هذا الحزنِ المستديمِ
حليبُ أمِّ عليّ أخذَني إلى أزقّةِ الشطرةِ وأصبحتْ – أمُّ عليّ –
أمّي التي لَمْ تلِدْني
لكنّها أورثتْني محبّة العراقِ الذي بكتْهُ وهيَ تصرخُ بِسارقِيهِ عامَ ألفين وثلاثة
وتحفظُ منهُمْ صندوقَ كرّادة مريَم حينما هَبَّ المُحَوْسِمونَ
فينهبونَ بغدادَ ويزنُونَ بها
أمّ عليّ شهدَتْ مثلَ أمّي عقوداً من حُكّامِ العراقِ
وكانتْ تقُصُّ لِي مثلَ حكواتيةٍ ما شهدَتْ عليهِ
أمُّ عليّ شهدَتْ انتفاضَ الشطرةِ هناكَ،
ومنْ ثمَّ عادتْ إلى بغدادَ
وهيَ لا تستطيعُ نسيانَ – وحيدِ أمّه –
الأخرسِ([7]) الذي غيّبتْهُ المقابرُ الجماعيةُ بعيداً عنْ حضنِ الجنوبِ
لكنّها لمْ تُكملْ الروايةَ حتى عاشتْ روايةَ الرواياتِ كلِّها
سقوطَ مدينةٍ أحببتُها ودافعَ ولدُها – عليّ – حتّى بعدَ أنْ مضَى المقاتلونَ إلى بُيوتهمْ ومُدنِهمْ
عليٌّ الذي ماتَ قبلَها
لمْ تكنْ تصدّقُ أمّه
أنّها بعدَ سنواتِ الترقُبِ وزواجِ الجنوبِ بمدنِ العراقِ
ستشهدُ موتَ أعزَّتها واحداً إثر آخَر
وتشهقُ بموتِ جارَتِها
صاحبةِ عمرِها
أمّي
لكنّني وأنا أشهدُ موتَ أمِّ عليّ
شهدتُ موتَ تاريخٍ لنْ يتكرّرَ أبداً في ضميرِ بغدادَ.
[1] امرأة جنوبية من قضاء الشطرة في محافظة الناصرية وهي إحدى جارات عائلة الشاعرة أمل الجبوري منذ أعوام الخمسينيات.
[2] هو سمك صغير يقلى بالزيت وهي إحدى الوجبات الرئيسية لأهل الجنوب في العراق.
[3] التنور: هو الفرن المصنوع من مادة الطين المشوي والذي يستخدمه العراقيون لصنع الخبز.
[4] هو حي بغدادي أطلق عليه الأمريكان بعد احتلالهم بغداد اسم المنطقة الخضراء [5] إحدى لعب الأطفال الصغار الذين يخترعون من خلال خيالهم الطفولي أسرة افتراضية يسمونها بيت بيوت.
[6] هي الأخت الكبرى للشاعرة أمل الجبوري والتي ماتت حرقاً وعمرها لم يتجاوز ستة أعوام.
[7] إشارة إلى أحد شباب جيران أم علي في الشطرة الذي لم يشارك في انتفاضة عام1991، لكنه غيّب في المقابر الجماعية بعدما قمعت الانتفاضة.