أسرار الجمال

أسرار الجمال
مازال سر الجمال من الأسرار التي تتحدى قابلية الذوق لدى الإنسان ، وما زال القلم الذي يحاول الخوض في هذا المجال يتحاشى الغرق في محيط أطلسي من الأفكار ، والألفاظ والتأملات والتجليات التي لاتغطي مايريد قوله ، أو البوح به لمعالجة الموقف التعبيري ، أو الموقف الكتابي الملح في هذا المعنى ، فمثلا سر الجمال الشعري مايزال غامضا رغم وجود الكثير من المتذوقين للشعر ، ذلك أن هؤلاء ، أو أولئك المتذوقين ، لم يستطيعوا أن يتحولوا إلى منظرين لحظة الانفعال مع جمالية القصيدة مثلا فيتقدم فريق آخر من الذين يجهلون أسرار الجمال الشعري ، فيملؤون فراغهم ويعلنون أمام الملأ : أن القصيدة الرائعة هي غاية في التدني مثلا ، لاسيما إذا كان شاعرها مايزال يخوض دوامة (الحروب الصليبية) المفروضة على المغيبين! ، وهذا وارد كثيرا في موروثنا وفي حاضرنا، وضحاياه من المغيبين يشهدون بذلك ، وهو من معرقلات تسريع عجلة التحضر الإبداعي لدينا.. وأما ما اسميه الجمال الغنائي ، فإنك قد تقع في ذات المشكلة ، ولكن باختصار اقل ، وقد تعجب ممن لم يطربه ، أو يؤثر فيه اللحن الذي يؤثر في الصخرة الصماء! ، ويبعث فيها انفعال الحياة والإحساس ، وقبل أن تسأل لماذا؟ ، يقف هؤلاء من هذا الجمال موقفا متحجرا صامتا أجيبك ، أن مثل هؤلاء انتزع منهم سلفا مااسميه (سمو التذوق الجمالي) فتحولوا إلى سرديات مادية ، ومخلفات ديناصورية ، فهم يسمعون اللحن المؤثر في الوجدان بمسمع الآذان فقط ، ولا يطالون من اللوحة سوى الألوان ، ولا يعرفون من القصيدة سوى (البلبل الفتان غنى على الأغصان) ، ويبترون دوما عبارة (بأعذب الألحان) ، وأما في مجال التذوق الجمالي (لوسامة البشر) ، فتراهم يقعون بنفس الإشكالية ، فهم يعتمدون شرطا واحدا من شروط الجمال ، ويتجاهلون الشروط الأخرى ، ويصل بهم الحال إلى أن ينعتوا القبيح بالجميل ، والجميل بالقبيح ، دون الإكتراث بمشاعر ملك ، أو ملكة الجمال، وأنت ترى بهاء الصورة الآدمية الساحر فينبعث منك إشعاع التذوق الجمالي ، فإذا كنت ممن حذق لديه هذا الإحساس ، ستكتشف كثيرا من أسرار اللعبة الجمالية في الخلقة الآدمية ، وسترى أن من أسرار حدوث النفرة ، أو التجاذب بين الإثنين بما يقال عنه (نفرة عالم الذر) ، أنك تجد أن احد المتنافرين ، يعول بسلوكه على زيف جمالي رشحته أذواق السوقة ، وأنكرته أذواق المختصين ، فيبدو القبح على سلوكه واضحا ، ليرشد إلى قبح ما كان الأولى أن ينصرف لمعالجته قبل التباهي بشكليته الزائفة ، ولهذا السبب نفره الطرف الآخر عن بعد قبل حدوث مسلمات التلاقي فبدت النفرتان متعادلتان في التوقيت ولكن إحداهما تقوم على هاوية ركيزة الباطل والثانية تقوم على دعامة ركيزة الحق .. الحياة بحاجة ماسة إلى سمو الجمال أكثر من حاجتها إلى الجمال المجرد ، بمعنى أننا بحاجة إلى وسيم الخلق والأخلاق ، فإن لم يكن ، فإننا بحاجة إلى من يبرهن وسامة الفضيلة والذوق أكثر من حاجتنا إلى من يملأ الأجواء صخبا وإدعاء وغرورا!ذلك لأن الجمال المجرد من السمو سيكون عرضة للعبثية والزيف .. أما جمال السمو فتراه محصنا يرشدك إلى عالم عجيب من الصور الخلابة ، فهناك عالم الجمال الروحي المحرك لشكلية الصورة ، وتوقفا عند هذه النقطة نجد أن قراء الجمال الحقيقيين، لايتوقفون على حد شكلية الجمال الظاهري كما يفعل السوقة والعموم ممن اضمحل لديهم الذوق ، وإنما يذهبون في قراءتهم إلى العمق الروحي للصورة المبتغاة ، فإذا وجدوا هذا العمق مطابقا تمكنوا من تنزيه الصورة بذوق ايجابي ، وفي الصورة الآدمية قد تجد جمالا كبريائيا ، لايقوم على صورة براقة مفرغة من الروح ، ولكنه في روحه ساحر وجذاب، وهناك كذلك جمال الأناقة الذي قد يرشدك هو الآخر إلى من هو أجمل من غيره روحا وظاهرا ، ولكنه ينظر له من زاوية النظرة الباطلة الزائفة ، وهناك الجمال المتذبذب الذي يتحكم به إحساس المرهف فلا يظهره في جميع الأحوال والظروف ، وإنما يظهر بين الحين والحين عندما تتوافر مرآته العاكسة مما اسميه النظير الإيجابي!، وهناك الجمال المزاجي الذي تعجز عن إظهاره أقوى المساحيق الحديثة ، ولكنه يظهر في لحظة توق وشوق ، وهناك جمال التكلم وهو جزء من جمال الصوت ، فهو يحتاج إلى موهبة تكلم ساحرة ، وهناك جمال السير ، وهو يحتاج إلى موهبة (خفف الوطئ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد) (بيت شعري لأبي العلاء المعري رحمه الله!) وهناك كذلك جمال المجاملة، وهو يحتاج منا إلى إتقان فن المجاملة الاجتماعي والذوقي، ولا تعجب إن قلت لك أن للبكاء جمالا ، وللفرح جمالا ، وللكبوة جمالا، وللغضب جمالا ، وللتصادم اللاإرادي بين الاثنين(كما يحصل في المشاهد التمثيلية جمالا) ، وللنظرة جمالا ، وللالتفاتة جمالا، وللاستحياء جمالا ، وللجنس جمالا ،( ولا تعجب من استمرار نصب كلمة جمال لأن إن مازالت عاملة، بل هي مهندسة نحوية جميلة ، كما قرر ابن خروف!، وكما تقاعس عن ذلك ابن حصان!)، والجمال الجنسي ، هو ماخلق صارخا مثيرا ، فهو مطبوع على غرار إثارة الشهوة ، وهو من نادر ماتوافر في صور الخلقة الآدمية لندرته واشتغاله على لمحة الإثارة.. هذا عن الجمال الشبابي ، أما الجمال في كهولته فيتحول إلى راهب لايفارقه البيت الشعري الذي يقول
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيبُ!
رحيم الشاهر
AZPPPL

مشاركة