أسئلة كثيرة أغنت الروايات

أسئلة كثيرة أغنت الروايات
ماريسا سيلفر قصتي المخلوقات انطلقت من فكرة الأب القاهر
المحرر الأدبي في مجلة نيويوركر
ترجمة بشار عبدالله
قصتك بعدد هذا الاسبوع الموسومة المخلوقات تطرح جملة أسئلة معقدة حول أطفال وعنف وسبق اصرار هل افتتان الصبيان بلعب المسدسات علامة على ميول عنفية واقعية؟ هل العنف سمة وراثية؟ هل يمكن ان تكون هذه السمات تطبيقا لما يسمى حوادث تنطلق من دوافع عنفية لاوعيوية؟ وما الذي جرك إلى مثل هذا الفضاء المعقد؟
أنا لا أبدأ الكتابة عن موضوع أو مسألة فكرية سابقة في ذهني. فأنا أبدأ أي قصة عادة إما بالتركيز على شخصية، أو على حدث. ثم بعد ذلك أتابع تلك الشخصية، أو الحدث، وبناء القصة من هناك، واترك السرد يتطور كنتيجة طبيعية لما قد تؤديه الشخصية من فعل بعينه في حالة بعينها. وأحيانا تنشط في ذهني فكرتان أو ثلاث في آن معا، وتتعزز عندي ثقة أو يحدوني أمل بأن تكون لهذه الأفكار التزامنة في ذهني آصرة طافحة بالمعنى بناء على تواجدها المسبق في الذهن. أما اذا أحسست بأن الاصرة بعيدة ولا تربط هذه لأفكار المتزامنة في ذهني بمشتركات فعلية، عندها لا أنهي القصة في العادة لأن العلاقات بين هذه الأفكار ستكون فكرية أيضا، وغاية في السهولة، أو لأنها لا تنطوي على التعقيد العاطفي الكفيل بشد اهتمامي اليها. وأما إذا ما استمر غموض ما يربط الأفكار ببعضها في ذهني، فإنني أواصل الكتابة حتى أكون، بحلول نهايتها، قد وصلت إلى فهم الصلات الأكثر غموضا والأشد سرية.
بدأت كتابة قصتي المخلوقات انطلاقا من فكرة وجود رجل طرد ابنه قبل دخوله المدرسة بسبب اعتدائه على طفل آخر بالعض. وكانت لدي فكرة عن رجل سبق أن خرج للصيد في طفولته وعاش تجربة معقدة ، بالرغم من أنني لم أكن أعرف شيئا عن تلك التجربة. وكنت أفكر في الوقت نفسه، في زواج كان يسوده نوع من يصعب فهمه في جانب منه حدث في الماضي. من هنا قمت بمزاوجة هذه الأفكار الثلاثة معا، وما أن بدأت الاتجاهات الثلاثة تؤتي تأثيرها في بعضها البعض حتى انتهت القصة بالتحول من عنف حقيقي ومتخيل، حول ما إذا كانت للأحداث دوافع ونوايا تقف وراءها، وكيف يمكننا العيش ونحن نعي أننا لن نفهم البتة ما يدفعنا إلى القيام بأمور بعينها بوجود محدودية في معرفة الذات. ولكنني، حتى مع انتهائي من هذه القصة، لم اعتقد ابدا انني كنت أكتب قصة عن تلك الأفكار. بل كان في ذهني أنني كنت أكتب قصة عن هؤلاء الأشخاص.
العاب الاطفال
تغطي القصة شخصية طفل في الثالثة من العمر، طرد قبل دخوله المدرسة لتهديده طفلا آخر. بالنسبة للطفل، فإن لسلوكه ما يبرره ضمن لعبة رجل الشرطة واللص؛ أما بالنسبة للمعلم فإن سلوك الطفل كان علامة على شيء أكثر شؤما. أنت مع أي الطرفين تقفين؟
لا أعتقد أنني أقف مع أي من الطرفين، لكن أهتمامي منصب إلى حد كبير على كلا الطرفين. نحن لا نشعر باستقرار على موقف واحد من ألعاب الأطفال وعبثهم. فمن جهة، نجدنا نعول كثيرا على إظهار براءة الأطفال وحريتهم، انطلاقا من شعور لدينا بالحنين لفترة كنا خلالها قادرين على التصرف بحرية تتخلى عن أي قيد. ومن ناحية أخرى، نجدنا منزعجين من الكيفية التي تجعل لعب الأطفال مصدرا للسوء والوحشية، وهو تعبير عن فكرة سائبة. لقد بنينا صناعاتنا كلها في ضوء إدخال ما تحدده الثقافة عندنا على انها شاذة عند الاطفال ضمن علم الأمراض، وبعضها له صلة بالانزعاج من تلك السلوكيات التي تظهر عند البالغين.
نحن نعيش أيضا في زمن تواجهنا خلاله بانتظام صارم أنواع التراجيديا الكولومبية، يكون فيها صغار السن نسبيا خارج القضبان. هل ثمة من يفكر بمرتكبي أعمال العنف تلك دون أن يتساءل إلى أي مدى يمكن أن يكون ذووهم متجاهلين الكوارث التي كانت قيد الاختمار؟ عندما يحدث شيء من هذا القبيل، أراني أعيد النظر والفكر معا في كيف كان أولادي يلعبون، وكيف كانوا ينخرطون في العنف، ثم أنا أنظر إلى الأطفال من حولي، وأسأل نفسي ما هي القرائن؟ هل ثمة قرينة واحدة في الاقل؟ ؟ وفي حال غياب القرائن، كيف يمكننا أن نكون الأفضل في رعاية أطفالنا وتنشئتهم؟
معايشة الشخصيات
قصتك المخلوقات مبنية بإحكام واع حتى اننا لا نكتشف بأي شيء بطل الرواية، جيمس، مسكون حتى نهاية القصة وعندما نصل الى المشهد الفعلي، تبين لنا المشهد خلاف ما كنا نتصور بالضبط. هل تعتبرين أن بنية الكشف البطيء تلك والانعطافة النهائية جزءا من رؤيتك للقصة؟
لم أرد يوما أن تأخذ خياراتي الأسلوبية مركز الصدارة في كتاباتي. فقدر تعلق الأمر بي، لا بد من أن يظهر تفاعل دقيق بين كيفية تفعيل بنية القصة الفنية، وتوزيع المعلومة وكيفية معايشة الشخصيات للتجربة العاطفية الدافقة داخل القصة. من هنا لا بد أن تكون اختياراتي انعكاسا لبعض جوانب الشخصية، بما يسهم في دعم الجوهر العاطفي للقصة وتصبح بالتالي طبقة أخرى مضافة إلى طبقات المعنى. في قصة المخلوقات، اخترت ارجاء بعض المعلومات لا من أجل تكثيف توقع القارئ أو فضوله، بل اردت بذلك أن يتأمل القارئ الكيفية التي تحاول من خلالها الشخصية الرئيسية، جيمس، دفن المشكلة الأساسية في حياته، التي تدفعه إلى أن يفضّل أن يبعث حياة هذه القصة من رمادها وهو ماضيه.
تدفعه إلى أن يفضّل ألاّ يتساءل ان كانت زوجته تخشاه بسبب ذلك الماضي. ويفضل أن لا يكون لماضيه تأثير على مشاعره تجاه سلوكيات ابنه. ولكن ما يحدث مع ماركو يتسبب في ردود فعل عاطفية داخل جيمس ما يجعل من المستحيل عليه تجنب إعادة النظر في ماضيه. وهنا شيئا فشيئا، عليه أن يواجه ماضيه ويتأقلم مع حقيقة أن هذا الماضي ما يزال يشكل الجزء الكبيرا، غيرالمريح من حياته، وأن هذا الجزء يؤثر في زواجه وعلاقته بابنه. وتتكشف المعلومات في القصة مع تنامي ضعفه قدرته في قمعه لتلك الحقيقة. من هنا فإن هذه الانعطافة في القصة تمثل ببساطة قبوله الأخير للدخول إلى نفسه ورؤية ما حاول تفاديه على مدى زمن طويل.
مجهولة الهوية
روايتك الجديدة الموسومة ماري كوين ، التي ستصدر في شهر آذار مارس تعكس حكايات توحي بها صورة الشهير لدوروثيا لانج تعود للعام 1936 عن أم مهاجرة وأطفالها. ما الذي ألهمك لكتابة رواية عن هذا الموضوع؟
قبل بضع سنوات، ذهبت إلى معرض للتصوير الفوتوغرافي عن الغرب في متحف الفن الحديث، في مدينة نيويورك. وكانت صورة لانج الشهيرة الأم المهاجرة جزءا من المعرض. سبق لي أن رأيت تلك الصورة مرات ومرات، وكنت دائما انشد إلى وجه المرأة، الذي يبدو لي مزيجا القوة والانزواء، فضلا عن انشدادي لبناء تلك الصورة حيث يشيح أولادها بوجوههم عن الكاميرا.
ولكن ما أدهشني وأنا أنظر إلى الصورة هذه المرة لم يكن الصورة نفسها،ا ولكن ما كتب على الملصق التنظيمي الموجود إلى جانب الصورة. فالوصف الذي لفت انتباهي هو أن المرأة التي في الصورة لم تكشف عن هويتها طيلة تلت، لكنها كشفت عنها عندما أصابها المرض وبدأت تحتضر و طلب مساعدة الناس لدفع تكاليف علاجها.
لقد أذهلتني تلك الحقيقة أشد ذهول. فقد كانت تعيش هنا امرأة يمكن القول إنها صارت موضوعا، لإحدى الصور الأهم خلال القرن العشرين وأنها، لم تتقدم بمظلمة، خلال الجزء الأفضل من حياتها، ولم تدعي لنفسها هذه التركة. هنا بدأت على الفور تزدحم في رأسي الأسئلة. هل هي من اختار المجهولية؟ وإذا كانت هي من اختارت ذلك، فلماذا لم تفضل أن تبقى مجهولة الهوية. هل كانت الصورة تحرجها؟ أو تشعرها بالخجل؟ هل انتابها شعور ما بالمحرومية؟ هل يمكن أن يكون السبب عائد الى الصورة الملتقطة أو ما أعقبها من وجودها المطلق لاحقا، فبث فيها القلق؟ ومالي كان يعني لها ربما وهي تقترب من نهاية العمر وفي لحظات انهيارها الجسدي، أن تتخذ قرارا بكشف هويتها عند حلول النهاية ؟ لقد كان عندي ما يكفي من كم الأسئلة التي تتطلب كتابة رواية للإجابة عنها من أجل نفسي أنا.
AZP09

مشاركة