أردوغان والأردوغانية – سعيد عبد الهادي المرهج

أردوغان والأردوغانية – سعيد عبد الهادي المرهج

ها قد فاز اردوغان بولاية أخرى، فاز برغم الحرب الشرسة التي شُنت ضده خارجيا وداخليا، ولا يمكن قراءة هذا الفوز بمعزل عن كل هذا.

اعتقد أن فوزه الصعب في هذا الظرف الصعب يتيح لنا أن نتحدث عما يمكن تسميته بالاردوغانية، كحركة تركية تعقب الحركة الاتاتوركية؛ لا خلاف على ما حققه أتاتورك للأمة التركية، إذ لم يقد انقلابا عسكريا على التاج العثماني، ويبني دولة عسكرية، ألفناها في عالمنا العربي، بل لملم شتات أمة مزقتها أنياب الغزاة من كل جهة، وأعاد بعثها، به فعلا ولدت تركيا الحديثة. لكن من جاء بعده أحال المسمى الجمهوري إلى قشر يغلف سلطة العسكر، تلك السلطة التي قدمت أبشع صورها بإعدامها للزعيم السياسي والرئيس المنتخب عدنان مندريس. ولم يكن اختيار موعد الانتخابات إلا إشارة معلومة للتنديد بتدخل العسكر بالشأن السياسي، هذا التدخل الذي تكرر مع الرئيس أردوغان لولا التفاف شعبه وأنصاره حوله، وثباته الذي أحال نهاية كنهاية مندريس إلى بداية انطلاقة أخرى له.

التاريخ ليس مصادفة

وليس غريبا أن يكون يوم  28من شهرنا هذا هو الذكرى السبعين بعد الخمسمائة لفتح القسطنطينية (1453)، فهذه المزامنة رسالة مقصودة ببناء تركيا المتصالحة مع تاريخها العثماني بكل ما هو مشرق فيه، تركيا المنفتحة على العالم الإسلامي من دون انغلاق على الغرب. لذا يمكن أن نقول ان لا حقبة تاريخية في تركيا الحديثة بعد الحقبة الأتاتوركية سوى الحقبة الأردوغانية. أما مسميات الجمهوريات فليست سوى تاريخ سياسي لتعاقبات الحكم، لا رصدا لمتغيرات جوهرية. أردوغان أعطى للتجربة الديمقرطية التركية وجهها المشرق، وما فوزه بهذه النسبة إلا دليل على صحة المسيرة… لقد استطاع أن يبعد العسكر عن السياسة مستفيدا من التجربة المرّة لدخولهم وما أحدثه من خراب مجتمعي في المرحلتين العثمانية والجمهورية. وكانت تجربته السياسية التي جاوزت العقدين دافعا لحراك مرن (برجماتي) جعل خصومه يلجؤون لاستعارة أفكاره في حملتهم الانتخابية، مما أحالهم إلى (نكته).

جمع المتناقضات

إذا كان ما يميز الجمهورية الأتاتوركية الرغبة في التخلص من التراث العثماني بكل أشكاله، ومحاولة محو الصورة العثمانية، والتخلص من الإرث الديني للدولة الدينية في أذهان العالمين: الغربي والشرقي، وبناء دولة حديثة غربية في كل توجهاتها: الداخلية والخارجية الأمر الذي ولّد صورة متناقضة خارجيا لمؤسس تركيا الحديثة بين محب غالٍ ومبغض غالٍ، في حين بقي، ومازال في أعين أبناء شعبه الأب المؤسس. وبقيت صورته محط تبجيل يصل حد التقديس. جاء أردوغان فقلب الأمر، وسعى نحو إعادة ترسيخ صورة تركيا الوسطية، لا في موقعها الجغرافي فحسب، بل في بناء حاضرها، فأعاد للدولة العثمانية ما تستحقه من تمجيد ملائم لإمبراطورية حكمت العالم أجمع باسم الدين الإسلامي، ومن ثمّ أعاد للدين الإسلامي حضوره المستحق في مجتمعه التركي. وأزاح القيود عن التجارة وعززها وعن الصناعة وقدم للبحث العلمي الدعم المستحق، وقدم الدعم الكبير للقطاع الزراعي، ونمت السياحة بشكل جعل من بلده الأول عالميا، وانفتح نحو الأقليات، وفتح أبواب تركيا للمهاجرين واللاجئين… هذه الخطوط العريضة التي قد تضعه ضمن المسمى النيوليبرالي أو الإسلامي الديمقراطي، أو أي مسمى يتفق مع هذه التشكيلة، كلها تؤكد أن ثمة تركيا مختلفة ولدت بوجود أردوغان على رأس السلطة؛ إنها تركيا الاردوغانية.

الاحتفال الأممي

لم يحتفل بفوز اردوغان أنصاره الترك فحسب، بل كان أنصاره من العرب من شتى بقاعهم، والافغان والإيرانيين، والروس، والاوكرانيين، وأبناء الأقليات الأخرى أعظم المدافعين عنه، والمتحمسين لفوزه، كلهم خرجوا فغاصت شوارع المدن التركية بهم حاملين صوره بمشهد غير مألوف إلا في المجتمعات الأممية (الكوزموبوليتانية). لم يفز أردوغان بالترك فحسب بل فاز بنصرة الأقليات له. الذين أرعبه الخطاب العنصري لخصومه.

فاز أردوغان، وبفوزه نستطيع أن نقول إننا في بلدنا لن نتعامل مع سياسة عنصرية لم نألفها، بل مع سياسي بيننا وبينه مشتركات كثيرة، أكثر بكثير من الاختلافات، وسبق أن تعامل سياسيونا، بمختلف طوائفهم، معه.

آن الأوان آن نستفيد من هذه المشتركات لإعادة الحياة لنهرينا، ولإدامة العلاقات المتميزة. وليس أمام سياسينا سوى التحرك السريع بهذا التجاه، إذ إن فوزه فرصة يجب أن يعملوا على استغلالها استغلالا يناسب العلاقات الثنائية المتميزة، والدور التركي، فضلا عن استغلال العمق التاريخي بايجابياته، وهي ليست بالقليلة.

مشاركة