أدب الكدية والتسول – انوارعبد الكاظم الربيعي
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو درس المقامة البغدادية وجمالها وعظمة بديع الزمن الهمذاني كاتب مقامة اشتهيت الاذاد وانا ببغداد…. وتداول الفكرعندي بالبحث عن الكتب الممتعة التي بحثت في هذا النوع من الادب…. مع كل عام ونحن نرسل المحاضرة وتتلقاها الطالبات تكاد تكون الطف درسا فتكون متعة الدرس ورصانتة اللغوية الاقرب للطلاب فالاغلب يحفظ المقامة عن ظهر قلب……
وساسترسل في المقال للفائدة…….
أنَّ الكدية لفظة عربية مشتقة من أكدى. إلى ثانٍ يرى أنَّها محرَّفة من أجدى. وهذا في حين يذهب ثالث، إلى أنَّها لفظة معرَّبة. ويبين المؤلف احمد الحسين أنَّ كلمة كدى في كثير من المعاجم تعني البخل والإمساك عن العطاء، وان أكدى :ألحَّ في السؤال. والكدية تعني الشحاذة من (أجدى). ويقال انَّها فارسية معرَّبة : كدَّ الرجل: سأل. وتكدى تسوَّل.
ينتمي المكدون إلى أجناس وأقوام شتى، ومثل هذا الانتماء يشكل خلفية اجتماعية يمكن الركون إليها في تحليل ظاهرة الكدية، وتعليل تباين أساليب المكدين واختلاف طرق احتيالهم وطبيعة حياتهم، فالمتسوِّل البدوي لم يكن يعتمد على الحيلة قدر اعتماده على الفصاحة والبلاغة.
ونقيض ذلك ما يصنعه المكدي الأعجمي الذي حرم البلاغة فاستعاض عنها بالحيلة الجسدية واختلاق العاهات الجسدية والآفات المرضية وأعمال السحر والمخرقة. وقد دوَّن الجاحظ لنا، حديث خالد بن زيد أو خالويه المكدي، فعرَّفه بأنَّه مولى ابن المهلب. وهذا يدل على أعجميته. ويشير المؤلف الى انه كان الدكتور طه الحاجري قد ذهب إلى أنَّ خالويه، ينتمي إلى أصل هندي، معتمداً هنا، على جملة قرائن استنتجها من قول خالويه لابنه: “
ولو كنت عندي مأموناً على نفسك، لأجريت الأرواح في الأجساد وأنت تبصر”. فالحديث عن الروح وغوامضها والسحر وطقوسه والكيمياء وخصائصها، هو أقرب ما يكون إلى عقلية الهنود من سواهم. ونحن نعلم أنَّ الزط، وهم من الشعوب الهندية، يشكلون عدداً كبيراً من المكدين. وشهرتهم في هذا المجال، تملأ الآفاق، ويذكر أنَّهم هاجروا إلى إيران أولاً، ثمَّ قدموا إلى المجتمع العربي الإسلامي. وكان وضعهم المعيشي سيئاً للغاية، ويضاف إلى ذلك حياتهم القائمة على التجوال والتشرد.
وأما عن أصول المكدين وأجناسهم، يشير أحمد الحسين الى ان المكدي يتقلَّب في ضروب الانتساب، مدعياً أنَّه من سلالة المجد والشرف، وذلك حسبما يقتضيه موقف الاستجداء. وانعكست هذه الظاهرة في أدب المقامات.
ويلفت المؤلف الى أنه إذا كان هذا التمويه والتقلب بين المكدين دائما، فإنَّه لمن الصعب أن يجزم الباحث بأمر أجناسهم وأصولهم. فكانت نسبتهم على مهنة الكدية، أوضح وأصدق من أي نسبة أخرى.
التمسح بالدين
ومن حيل المكدين لكسب المال، استعمالهم السحر والكيمياء والتنجيم، والتمسح بالدين وما يرتبط به من تعاليم وطقوس ومذاهب، والعلاج به والمداواة، ومنهم: الحراق، البزاق، الشكاك، النطاس، السمان. وهؤلاء أكثر كذباً من غيرهم. ومنهم من يقومون بالألعاب كالمشي على الحبل. أو يستعمل الحيوانات كاللعب مع القرد أو السبع. وفي المجتمع العربي نجد المحتسب .
وهو الشخصية الرسمية المكلفة بتعقب المكدين، فإن رأى رجلاً يتعرَّض لمسألة الناس في طلب الصدقة وعلمَ أنه غنيٌّ إمَّا بمال، أو عمل، أنكره عليه، وأدَّبه فيه، وكان المحتسب بإنكاره أخص من عامل الصدقة. وقد صوَّرت لنا المقامات جانباً من صلة المكدين بالولادة، وهي صلة مقت وكراهية ولا يغير من ذلك ما عرفنا من تقريب الصاحب بن عباد وابن العميد لبعض شعراء الكدية، لأنَّ هذه المواقف تظل قليلة إذا ما قيست بالشائع من كره السلطة ورجالها للمكدين لدى كل الأمم تقريباً.
ونشأ نزاع عنيف بين المكدين والعلماء والفقهاء، لأنَّهم كانوا أدرى من العامَّة بمواطن التحليل والتحريم في المسألة، وأبصرهم بحيل المكدين، فكانوا يكشفون زيفهم ودجلهم. ويشير احمد الحسين الى انه يبدو أنَّ المكدين قد أخذوا يقرِّعون العلماء أمام العامَّة، وينتقصون من مواقفهم بالدجل حيناً، وبالسخرية أحياناً أخرى. وكان أبو دلف الخزرجي قد عبَّر عن هذا التناحر والخصام شعريا.
كما انه، وإذا كان موقف المكدين من العلماء، قد اتخذ ذلك الشكل العنيف، فإنَّ موقفهم من القضاة كان أشد ضراوة وحقداً، إذ كانوا يرون في القضاة، لصوصاً يستولون على أموالهم وأموال الناس، من دون وجه حق. وللكدية شعراء.
ويطالعنا المؤلف بجملة أمثال وشواهد وقصص وحكايات، وقعت في العراق وفي عدة بلدان اخرى، نجدها تصوغ دستور المكدين في العمل والحياة، وما المقامة الساسانية للحريري، سوى تفريع لمعاني الأمثال في هذا الصدد .
ويبين احمد الحسين، أنه يعد الثعالبي بحق، أكثر الأدباء احتفاظاً بنماذج من أمثال المكدين، ولا عجب بانه هو الذي أورد في يتيمته، أسماء غالبية شعرائهم، ونصوصاً مختلفة لهم.