أجراس‮ ‬- نصوص – كريم جبار الناصري

قصة قصيرة

أجراس – نصوص – كريم جبار الناصري

يجلس وحيدا بين ثنايا غربته ، تتقاطع أفكار كثيرة عند مفارق طرق ذهنه عن الحبيبة ،الأهل ،الأصدقاء ،البلد ومصيره في هذا الزمن ..زمن تشابك الأفكار تشابك الأحلام ، زمن تشابك البنادق من أجل خراب الانسانية ،يقول – لا ،لا ليس من أجل شيء هذا تشابك الخراب  بل من فراغهم وعبثهم ومن أصوات اخرى ترن بمسامعهم ..رن صدى بداخله : – ليذهبوا للجحيم  لأفرغ  سحر كأسي بجوف العقل  لعلي اصل الى حل لمشكلتي … كان عندها  يضحي  بوجبات عشائه ليلتهمه اخوته حين لم تسد الوجبة رمقهم ،ينزوين تحت لحفهم ينتظرون وصوله الى نشوة الثمالة لينسل احدهم الى مكان الطعام … يعرف ذلك ويلعب لعبته احيانا  بتمثيل الثمالة كي ينقضوا على حصته  ..هكذا يفعلها دائما بعد انتهاء جلساته ، يخرج من الدار يدندن بنغمات يتراقص لها بفسحة الحديقة الصغيرة  التي اقتطعها أخوته من مساحة الرصيف أمام دارهم ،يحيط سياجها  من مخلفات قطع  الحديد والألمنيوم لأبواب وصفائح  الثلاجات ..تصعد نغماته حزينة هادئة تنساب من بين أوتاره الصوتية كنواح جنوبي لطور (المحمداوي ) …رقصاته هذه تضيف له عالما خاصا ،يغلب عليه الشعور بالغبطة والتماهي الى عوالم التحليق بالنشوة   .. بعد شعوره بالنعاس والتعب ،يدخل الدار ،يلتحف بغطائه منزويا بأحلامه المصلوبة امام ابواب الحياة،مصوب نظراته على جدار الغرفة فهنا وجه ينظر اليه . يرقد ساعة او اثنتين كي يذهب بعدها الى دراسته الجامعية في كلية العلوم. دخلها دون رغبته مفضلا الفنون…

للوهلة الاولى بنظراتك له ترسم سيماء الفنان على محياه ،هدوءه ،تقاطيع  الوجه ، شعره المجعد  ،يزهو بألوان هندامه المنسق رغم رخص الملابس التي يبتاعها من الباعة الجوالين.. تجبره ظروف العوز للعمل . وكالمعتاد بعد خروجه من الكلية بانتهاء محاضراته أوغير ذلك يذهب الى  محل(كاليري) ليبيع لوحة كي يحصل على مصروفه .لا يبدو عليه  الاهتمام بدراسته  فقد رسب فيها لسنتين متتاليتين وهذا ادفعه الى أحضان العسكرية في حينها كانت حمى حرب الجوار مشتعلة  ..لم يبتهج ، فهو سيترك خلفه عائلة من سبعة أفراد ..سيفارق صورة حبيبته التي رسمها بأقلام الرصاص والفحم على جدار غرفته ،هي لم تعد بقربه، فترك  سفرها مع  اهلها الى خارج العراق غصة في قلبه  .. سينقطع عن جلسات أصدقاء في حاناتهم المعتادة على شارع (أبو نؤاس )ونقاشاتهم حول  الانسانية ووضع البلد . التزم الصمت بعد ما تسلم  كتاب تسويقه الى العسكرية ،الصمت واجب انذاك فلا أحد يستطيع الرفض إلا من حلق بعيدا ..أما قابعا بزنزانة ، أو طمر تحت الثرى أو استطاع تخطي الحدود ..نظر الى الورقة قال بحسرة :

  • حياتنا اصبحت ورقة .. سأقضى نحبي  أخيرا  أما بطلقة جندي يسمى عدوا أو …

لم يكمل كلامه ..وأردف بحسرة موحشة

  • ليكن ما يكن  …

بعد مدة التدريب التحق بثكنة في جبهات القتال ،أيام صعبة يقضيها بين أوامر رتب  العسكرية وامتعاضه ونفوره من واجباتها ..وضع آمر الوحدة حالته  تحت المراقبة بعد وصول المعلومات له من قبل حضائر الامن فجلساته  الهامسة ببعض الجنود وقضاء  أمسيات احاديث معهم  والكتب التي يجلبها كانت محض شك لدى امن الوحدة   .. لم يكلف بواجب بل ارسلوه الى المقرات الخلفية ،جعلوه يرسم على جدران غرف الثكنة ولوحات قطع الوحدات الفرعية وشعارات الحرب التي حفظها عن ظهر قلب  .. يمقتها بمرارة ،يعتبرها خراب الانســــانية وحقدها على الآخر .

 يعمل بخدر تام بعد أن تصله المؤونات من المدينة القريبة بطريقة سرية ،تخرج أعماله مناهضة للحرب حين يضيف لها لمسة لا يستطيع الناظر ان يكتشفها إلا هو ..هكذا يقضي أيامه برتابة وبحلول الليل وسكونه في فسحة الارض التي فيها الثكنات المتناثرة يسمع  أصوات تدخل اعماقه فيصغي بشدة تدخل حيز ذهنه فهناك اصوات  شرسة تخوض معاركها ،أصوات تمتد الى حبيبته ،أصوات لذاكرة أصدقاء غيبتهم لحظات قاسية ،أصوات أخوته الجياع …بين تلك الاصوات  يرن بمسمعه صوت  احد افرد مجموعته:

  • أبا غائب اليوم ستجلب لنا الطعام ..

زمجر ،لعن…

  • لا اريد الطعام فهو لكم
  • اليوم قرر الجنود أن تجلبه انت

تقبلها ،مطبخ الثكنة  يكون خارج أسوارها..خروجه منها يعني احساسه بالحرية ولكن كيف يفعلها لتكتمل …أخذ الوجبة من المطبخ ..حمل آنيته المملوءة برز يصبغه لون أحمر باهت  وفوقه  كرات صغيرة لبطاطا  مسلوقة  . بطريقه الى الثكنة اعترضه نباح  كلاب وقف ،لم يحرك ساكنا ، بعد نباحها  بضع دقائق   رأى بعضها تخفض رؤوسها تدريجيا إلى الأسفل والأخرى  يسيل لعابها وتتقافز، ترنو بنظرات توسل ..اذا لا يتوقع ردة فعل شرمنها  عرف غايتها  قال مازحا :

  • معركة ..

بعد هدوئها اردف

  • ها ..جياع  ..نعم فهمتكم

وضع الآنية بهدوء على الأرض ،جلس ،مد يده لتناول شيء من الطعام ،لوح لها بالاقتراب هبت على الطعام ،انسحب للخلف  ليفسح المكان  لها ،بقى ينظر اليها كيف تلتهم بشراهة لتسد شيئا  من جوعها وتنهي آخر ما تبقى ،لاطعة الآنية  تذكر جوع اخوته .. بينما الكلاب  أخذت تهز  ذيولها ،تحرك السنتها حين تحقق مكسبها ثم ذهبت لشأنها ،شعر براحة تامة  لهذا العمل لكنه بقي وحيدا في الطريق تطبق الوحشة على صدره .. مرت حياته كصور متحركة في شاشة الكون .. المجهول من هذا الوطيس ، من للعائلة ، ما هي   نهاية الطريق؟ بينما يسترجع الصور  دقت أجراس خلايا دماغه . حدق بثكنته رآها كأنها أطلال منسية  ،ابصر  بالسماء وجدها  ملبدة بغيوم سود تحركت ساقاه لتسلك طريقا يتجه نحو المدينة ،ثم اختفى في حلكة  الظلام ..