أبواب لا تؤدي إلى الرجاء
وجد نفسه في صالة كبيرة الا انها على خلاف باقي الدور، اذ لم تتزين جدرانها بالصور او ثمة اروقة وملحقات تكون باقي مفردات المنزل. كذلك كانت الارضية الجرداء غير مفروشة ولم يكن من اثاث يشاطرها الوحشة التي تضاعف صدى صوته واستغاثته. صالة متعددة الابواب، صفقت مع بعضها البعض بشكل متشابه داخل مستطيل يستدق نسبيا عند نهايته. كانت بعضها مع البعض احيانا لا يفصل بينها سوى ذراع في حين البعض الاخر يتطرف في بعده مثل الباب رقم ثلاثين الذي تستكمل به هذه الصالة تعد ابوابها.
كان بعضها قد فتح ليظهر وراءه باب آخر مقفل يحمل الرقم نفس.. ما يرسخ اقامته التي لا يدري كيف افترضت على انها قسرية؟ وربما يظهر وراءها باب مثل هذا الذي يجده امامه الان مصنوع من خشب الصاج الفاخر لكنه لا يفضي الى الخلاص الذي يرجوه. ابواب مهيبة وأنت تنظر اليها والى ذلك الشموخ، حتما سيساورك الشك وانت تفتح احداها من دون ان تجد نفسك امام البلاط حيث ذلك الفضاء المهيب مثل ايوان كسرى.. لكنك تردع يائسا.. وتتراجع القهقرى حين تنظر الى مكان وجودك داخل تلك الصالة المجدبة التي قد تذكر بالرواق الداخلي لاكثر السجون قدما في البصرة. الا ان اللغز يكمن في فخامة ابوابه الصاجية او المصنوعة من اخشاب اشجار الابنوس ذات الزخرف القوطي المنحوت على بدنها ما يدلل على متانتها وعدم قابليتها للاختراق لانها عصية على الاختراق.
اقتنع من انه لم يكن يحلم كما يحدث في بعض الاحيان من انه كان يحلم بانه مستغرق بالنوم ويحلم لكنه هذه المرة، صفع خده وقرص فخذه، وأراد ان يخرج من دائرة الخوف، حين اغمض عينيه ويخشى ان يفتحها لآلا يجد نفسه في ذلك المكان الذي لم يحبه بدر ما يمكن له من الحب العظيم هذا اليوم والذي لم يجد اليوم نفسه فيه.
لذلك اثر يحافظ على اغماضة عينيه علها تذلل مخاوفه، متكئاً على الجدار يعيد الى ذهنه شريط الماضي مستدركا من ذلك الارشيف البعيد، اجمل يوم توشحت به حياته او حادثا تحول الى علامة فارقة في طريقه الطويل الشائك. عدا انه لم يستطع ان يجد مثل ذلك اليوم المثالي وان الحوادث الاليمة قد آلمت به مذ نعومة أظفاره. وذات يوم عانقه والده بعد طول غياب وشح في العلاقة الابوية. كان يشم في بذلته الكاكية رائحة الحرب والموت في تلك اللحظة الفارقة، لان والده لم يعد ثانية في اجازة، وعندما اصبح قريبا من والدته، وجدها اكثر قربا من جارهم كانت تبادله كلام من ذلك الذي لا يسمح لشخص ثالث الا من كان يسترق السمع خلسة لتلك الهمسات. في حين كانت ابنة ذلك الجار تبادله نفس الحب الذي كان ابوها يبادل والدته به. لكنه كان اكثر شبابا ولوعة، كونه كان اكثر تحفظا..!
ويوما احب ان يرى صدى نظراته في عيون ندى، الفتاة الرقيقة كانت ارق من قطرات الندى واعذب من نسمات الربيع، والاجمل في نظره ولقد كانت اول اصرة ترجمها حبا، لكنه لم يستطع ان يدرك سبب ذلك التحول العاطفي في حياتها تجاه ذلك الذي التقى به حين غادرت من دون ان تستأذن اجمل سنوات العمر، حدثه يومها، بما كانت هي تحدثه به في تلك النظرات.. التي اثمرت له عبارات ولقاءات حب متكررة..
ايقن ان الخواء يلازمه مثل ظله، حتى ان المطر الذي كان يهطل له وقع الازمات. فلا حب او حنان حقيقيين يأسران حياته او يرهنها لمسميات كهذه لم تتحقق. تصفح كل هذه الحوادث بين عقله الواعي والباطن الذي لم يستطع من خلاله ان يهتدي الى اي موطن من مواطن حياته تلك من دون ان يلقه ضباب بوهيمي، جعله يتطرف في الكثير من القرارات المصيرية.
كان الباب الثلاثون يتربصه خلسة، كأنه يناديه او يناغي ذلك التطرف في تطرفه عن باقي الابواب في الجزء المستدق من المستطيل، الذي يمكث به مغمض العينين، اذ كلاهما متطرف في طبيعته ولا يمكن ان يحدث هكذا من قبيل المصادفة. ان تهيئ كل هذه الاحداثيات التي تنبئ عن اخطر حادث او طارئ في حياته، لذلك لن يمكث هكذا مغمض العينين يواجه قدره بهذا القدر من الاستسلام. فهذه الابواب التي تبدأ بالرقم واحد لتنتهي بالثلاثين، في واحد منها يكمن خلاصه صحيح او ساو فلم رعب متعدد الاجزاء، وتبدأ كلها بما وجد نفسه به الان. ولكنها ايضا تنتهي تلك النهاية المأساوية الشنيعة.
اذا بأي باب من هذه الابواب يلوذ بتعدادها ضيعت فرصة التروي واسبغت عليه حالة التخبط والقنوط. وكأنه مثقل بأغلال موثق بها من على سريره، يشعر ان بابا من هذه الابواب مهيأ له. اذاً هذه هي الابواب التي لا تؤدي الى السعادة ما لم تكن هي الابواب التي لا تؤدي الى الخلاص، شعر بالهلع حين طرأت هذه الفكرة فاندفع تجاه الباب رقم واحد ليصطدم بأنه مغلق وغير قابل للفتح، حين جرب الضغط بكفه على القبضة عشرات المرات من دون جدوى ليتحول الى الباب رقم اثنين، ثم ثلاثة فأربعة الذي كان يجاوره الباب رقم خمسة الذي كان مؤاربا ومفصحا عن باب آخر داخله، كما هي حال الباب رقم عشرة والباب رقم خمسة عشر عدا ان الباب رقم ثلاثون كان مرتجا وبدا له مهيبا، وقد نأى بنفسه عن باقي الابواب التي قهرها او قهرته في نوبة هستيرية جعلته يشعر بضيق تنفس كان ينتابه مع ارتفاع مستوى الرطوبة او رهاب الاماكن المغلقة التي كانت يعتريه، احيانا في السيارة او البيت في وقت متأخر بعد منتصف الليل.
فكيف الحال مع هذا المكان الذي لا يعرف كيف دخل اليه حتى يعرف كيف الخروج منه؟
لطالما كان يعلم بين اليقظة وغياب عقلها الواعي في احلام مركبة من تلك التي تضاعف حب الحياة ورهبة الموت، وتثير في الحب لوعة لم يعرف مثيلا لها في يقظته التي يبقى مأسورا بفتنتها.. ومغتما لنكران واقعه ذلك التبجيل والحفاوة التي ينعم بها عقله الباطن. لقد اغمض عينيه لألا يجد نفسه مرتعا لاحلام كهذه اما ترهبه حتى اليقظة او تثقل كاهله في بعدها العاطفي بعدها، في واحدة منها وجد نفسه في تلك الصالة. متكأ على الجدار مغمض العينين. اوقظه فاستيقظ، واوحى له ان يمر من خلال ذلك الباب الذي يوازي سنوات عمره..
فالبقاء او المحاولة نهاية الامر سيان.. بتؤدة خطى ثمة سؤال يراوده، برغم مخاوفه ربما يكون هذا الباب مقفلاً او ان خطبا ما سيحدث في الغرفـــــــــــــــــة لحــظة ولوجه فيها.
او يزيح كل هذه المخاوف ويرى النور ثانية وضع يده على السقاطة.. سحره ان يرى ذلك المنظر الذي لم ير مثيلا له في حياته القصيرة على وجه الارض.
وعندما حاول ان يخطو خطواته الاولى. سقط من ذلك الارتفاع الشاهق.. ارتفاع ثلاثين عاما.. هوى منه على فراشه. ومنذ ذلك اليوم لم يعد يحلم.. او يستيقظ ابدا.
مهتدي مهدي – بغداد